ما تزال الأزمة بين قطر من جهة والمملكة العربيّة السعوديّة وحليفتها الإمارات من جهة أخرى تسير نحو مزيد من التصعيد مع فشل الوساطة الكويتيّة والعمانيّة واستعداد تركيا لتعزيز تواجدها العسكري في قطر وفتح السماء الإيرانيّة لقطر لتخفيف آثار المقاطعة على الدوحة. المواجهة بين الطرفين، لم تقتصر على قرار المقاطعة وإيقاف شتّى اشكال التعامل السياسي والتجاري والإقتصادي واحتدام حرب التراشق الاعلاميّة التي تجاوزت جميع الأعراف الديبلوماسيّة، إذ اعتمدت هذه المواجهة على حشد الحلفاء وفرز المواقف ليصطّف جزء من الدول العربيّة إلى جانب العربيّة السعوديّة والإمارات على غرار مصر واليمن والبحرين وليبيا وموريتانيا والأردن بدرجة أقلّ، بينما تحاول دول أخرى النأي بنفسها عن الاصطفاف بشكل واضح إلى جانب أحد المعسكرين.

تونس، التي شهدت بعد جانفي 2011، تعاظم التأثير السياسيّ لدول الخليج على القرار الداخلي، وتعزيز الحضور الاقتصادي لقطر والسعوديّة والإمارات على حدّ السواء، تحاول حتّى تاريخ كتابة هذه الأسطر السير بحذر على حدّ السكين في ظلّ تباين المواقف بين جناحي الائتلاف الحاكم (النهضة والنداء) بخصوص ما يعرف بأزمة الخليج وفداحة الخسائر المحتملة من الحسم لصالح أحد طرفي الخلاف.

من العباءة القطرية إلى العباءة السعوديّة

وظّفت كلّ من المملكة العربيّة السعوديّة وقطر تزايد ثقلهما الاقتصاديّ والمالي في تونس لترويض المواقف التونسية الخارجيّة، مستغلّين بالأخصّ سلاح القروض والهبات تزامنا مع تفاقم الأزمة الاقتصادية المحليّة وانتهاج الحكومات المتعاقبة سياسة التسوّل لتخفيف الاحتقان الاجتماعي وتسكين الأزمات. وقد سخّرت تونس ديبلوماسيتها في أكثر من مناسبة لخدمة معارك هذين الطرفين وانجرت في لعبة الاصطفاف الطائفي الذّي قادته السعوديّة في مواجهة هاجس التغلغل الإيراني بالمنطقة. كما لعبت الإمارات العربيّة المتحّدة دورا هاما في الدفع نحو إقصاء حركة النهضة وشركائها عن الحكم خلال صائفة 2013 والانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014 بدعم واضح لنداء تونس. هذا وما تزال الامارات العربية المتحدّة تحاول الحفاظ على دور في المشهد السياسي عبر بناء شبكة تحالفات جديدة ودعم منافسين جددا لنداء تونس الذّي فترت العلاقة معه منذ سنة 2015 وما انجرّ عنها من أزمة عُرفت حينها بأزمة “التأشيرات”. إلا أنّ حكومة الإمارات ورغم ثقلها الاقتصادي الذّي يفوق الثقل السعودي في تونس، ما تزال تتحرّك في ظلّ الموقف السعوديّ خصوصا في القضايا الإقليمية الكبرى كالخلاف مع أيران والحرب في اليمن وسوريا والموقف من تنظيم الإخوان المسلمين.

درجة التماهي مع سياسة أقطاب النزاع الخليجي اختلفت من مرحلة لأخرى خلال السنوات الستّ الماضية، تزامنا مع التغيّرات السياسيّة المحليّة. حكومة الترويكا التي اختارت التدثّر بالعباءة القطريّة طوال سنتين من حكمها، ترجمت هذا الخيار في عدد من المواقف السياسية على الصعيد الخارجيّ، بدأ من التعاون الكامل لإسقاط النظام الليبي في فيفري 2011، مرورا بالموقف المتسرّع بداية الأزمة السورية في مارس 2011، وما أعقبه من سحب للسفير التونسي وطرد نظيره السوري في تونس وعقد مؤتمر أصدقاء سوريا في 24 فيفري 2012 بدعوة فرنسية ودعم قطري وتركي مادي وسياسيّ.

إزاحة الترويكا، تزامنا مع اسقاط الاخوان المسلمين في مصر، أنهى العصر القطري ليفسح المجال لدور أكبر للسعوديّة في تشكيل ملامح السياسة الإقليمية التونسيّة. لاعب جديد– قديم استغلّ تغيير موازين القوى الداخليّة ليلقي بثقله على المشهد السياسي المحليّ عبر جزرة المساعدات الإقتصاديّة والقروض والهبات. سياسة سلّمت لها الحكومة التونسيّة بعد انتخابات نوفمبر 2014، لتنساق بشكل كامل وراء المواقف السعوديّة إزاء عدد من القضايا الإقليميّة لعلّ أهمّها الانضمام إلى “التحالف الإسلامي” الموجّه ضدّ إيران وحزب الله وسوريا في سبتمبر 2015، وغضّ الطرف عن تصنيف حزب الله كمنظّمة ارهابيّة، والتعامي عن العدوان السعوديّ على اليمن. وأخيرا المصادقة على البيان الختامي للقمة العربيّة الأخيرة، الذّي تضمّن تهديدا صريحا لإيران. بل وصل النفوذ السعوديّ إلى دفع الحكومة التونسيّة لإقالة وزير الشؤون الدينيّة في 04 نوفمبر 2016 عقابا له على تصريحات اعتبرها هؤلاء مناهضة للمملكة.

الثقل الاقتصادي وسياسة الحياد الصعبة

رغم تراجع التأثير السياسيّ المباشر للقطريين في تونس بعد اسقاط حكومة الترويكا سنة 2014، إلا أنّ حضورهم الاقتصاديّ ما يزال يتوسّع ونفوذهم يزداد ترسّخا، ليؤثر في الإرادة السياسيّة لمراكز القرار في البلاد مع تضخّم التواجد القطري على الساحة المالية والاقتصاديّة والتونسيّة ليناهز 13% من إجمالي الاستثمارات الأجنبيّة. كما نزلت قطر بكلّ ثقلها خلال المؤتمر الدولي الأخير للاستثمار لتكون في طليعة الموقّعين على اتفاقيات للاستثمار في المجال السياحي بقيمة جملية تناهز 220 مليون دولار إضافة إلى التعهّد بمنح تونس قرضا بقيمة 1250 مليون دولار. وتأتي الاستثمارات القطرية في المجال السياحي في مقدمة الحضور القطري بتونس، حيث تبلغ حوالي 22.5 مليون دولار فيما يستأثر القطاع الصناعي باستثمارات تقدر 2 مليون دولار. كما تمتدّ الشبكة المالية القطريّة لتشمل العمل الجمعياتي عبر “قطر الخيريّة” التي بلغ حجم استثماراتها في تونس 15 مليون دولار إضافة إلى صندوق الصداقة القطري الذّي رصد خلال السنوات الستّ الماضية أكثر من 100 مليون دولار لتمويل المشاريع الصغرى والجمعيات التونسيّة.

في المقابل، فإنّ حجم المبادلات التجاريّة مع المملكة العربيّة السعوديّة يشهد نموّا متسارعا لترتفع صادرات تونس إلى المملكة بنسبة 56 % منذ سنة 2011. كما شهد نسق الاستثمار السعوديّ المباشر في تونس نموّا سريعا خلال السنوات الستّ الماضية، حيث تحوّلت السعوديّة إلى ثالث أكبر مستثمر عربي في تونس بأكثر من 1630 مليون دينار، توزعت بين الخدمات والفلاحة والصناعة. إضافة إلى تعزيز التواجد البورصة التونسية من خلال بيت الإيجار السعودي التونسي.

كما كانت المملكة العربية السعوديّة من أكبر المُقرضين خلال مؤتمر الإستثمار الدولي تونس 2020 بقرض ناهزت قيمته 800 مليون دولار والذي سبقه سلسلة من القروض خلال السنوات الستّ الماضية من البنك الاسلاميّ للتنمية والصندوق الإسلامي بقيمة جملية تتجاوز مليار دولار. الإعلام بدوره كان قبلة للمال السعوديّ، حيث آلت ملكيّة أغلب أسهم قناة حنّبعل المملوكة سابقا إلى رجل الأعمال التونسي العربي نصرة للصندوق الاستثماري “غاية”.

أمّا آخر المعونات السعوديّة لتونس، فتمثّلت في منح السعودية لتونس هبة من 48 طائرة مقاتلة من طراز أف 5، التّي يعود انتاجها إلى ستينات القرن الماضي، بعد أن خرجت فعليا من الخدمة في السلاح الجويّ السعوديّ منذ أكثر من عقدين.

تكالب أطراف النزاع الخليجيّ الراهن على استمالة الحكومة التونسيّة والحديث عن ضغوط سعوديّة-إماراتيّة على تونس لانتزاع موقف واضح من أحد أطراف النزاع يهدّد بشكل جديّ سياسة الحياد “الهشّ” التي تحاول الديبلوماسيّة التونسيّة انتهاجها متناسيّة هرولتها نحو الإصطفاف وخضوعها لإغراءات المعونات الاقتصاديّة ممّا يجعلها اليوم مُطالبَة بدفع ضريبة سياسة التسوّل، التّي جرّدت القرار التونسيّ استقلاليّته.