صورة لمنير بن حاج خليفة

بدأت الحكاية بتمرّد قبائل اصطفّوا إلى جانب علي باشا ضدّ عمّه حسين باي الأوّل الذي أثقل كاهلهم بالضرائب، لتنتهي بقتل من خاضوا الحرب الأهليّة سنة 1728 وبتهجير وتشريد نساءها، نساء وسلات، اللاّئي قرّرن ولوج عالم المتع الحسيّة بالعمل في مواخير العاصمة بعد أن كنّ يرعين الماعز في البراري ويخضّبن شعورهنّ بالحناء احتفالا بقدوم الربيع. برقصات شعبيّة يزخر بها موروثنا الثقافيّ، أراد رشدي بلقاسمي أن ينفض الغبار عن الحكايات المنسيّة ويعيد الاعتبار إلى نساء وسلات وإلى عاملات الجنس وأبنائهنّ، من بينهم “سالم ولد خضرا” بطل ملحمة رشدي الجسديّة.

الرقص والتعبيرة الجنسيّة

خاضَ جسد رشدي بلقاسمي (سالم الراقص) في “عروس وسلات” جميع التقلّبات والتجارب التي تدور في فلك المرغوب والممنوع. وحَمل بين جوانبه كمّا هائلا من الحركات والتعابير والرموز التي تصوّر لنا بوضوح صادم وربّما مفزع ثقافتنا القائمة على الكبت وعلى مقولة “وإن عصيتم فاستتروا”. فالخطاب المعرفيّ المتمثّل أساسا في الخطاب الدينيّ يفرض سلطته على الجسد الذّي يصبح آليّا جسدا مضبوطا مُتحكّما فيه ومُلكا للآخر. تتّضح ملكيّة المجتمع للجسد من خلال قواعد غير قابلة للنقد والتحريف وتصوّرات مضطربة تتعلّق بهذا الجسد مثل العذريّة والفحولة، فكل ما من شأنه أن يمسّ بأحد أهم أركان الرجولة ألا وهي الفحولة سيكون في موضع تجريم، وكل ما من شأنه أيضا أن يخدش عذريّة المرأة البيولوجية (غشاء البكارة) والسلوكيّة (الطهارة والعفّة) سيكون محلّ تتبّعات أخلاقية.

مثّلت “الدربوكة” (الطبلة) -بما تحمله من رموز ودلالات- مصدرا للشهوة والعقاب في نفس الوقت، وكأن برشدي أراد أن يذكّرنا بقصّة تفاحة آدم الأبديّة التي تمثّل في المخيال الشعبيّ الرغبة والخطيئة. وهو ما جسدّته حركاته الراغبة في لمس هذه الآلة ومن ثمّ وقوعه أرضا متلويّا ألما ومتأثّرا بضربات شريكه الحادّة عليها. يرقص رشدي بثبات ويهزّ خصره يمينا وشمالا وينصهر في عوالم لا نعرف عنها شيئا. ولكننا نرى بأعيننا كيف حرّر هذا الجسد بتحويله من جسد منبوذ جنسيّا يتحرّك وفقا للأطر والقواعد إلى جسد فالت غير خاضع إلى أية سلطة.

تبدو لنا مقاربة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو حول الجسد حاضرة بقوّة في هذا العمل، ففي كتابه “تاريخ الجنسانيّة” بأجزائه الثلاثة أعلن فوكو عن وجوب تحرّر الجسد من العقل، موضّحا أن المجتمعات تشرّع لسيطرة العقل على الرغبة التي عليها أن تكون خاضعة للنُظم الاجتماعية والتشريعات الدينيّة، وهو ما قام به رشدي الذي جعل من الجسد بداية ونهاية لكلّ شيء. فمنه انطلق وإليه رقص بجنسانيّة أنثويّة مهدّما الثوابت ومحرّكا السواكن، ساعده في ذلك نصّ محمّل بالمعاني الإيروتيقية والوقائع التاريخيّة، ألقاه بهدوء متوجّس سهيب الوسلاتي الذي لعب دور سالم الراوي بإتقان شديد.

سهيب الوسلاتي (سالم الرّاوي) يستقبل زوّار (الجمهور) حمّام الطمّارين المهجور والواقع في شارع باب منارة والذي اختاره رشدي ليعرض فيه “عروس وسلات”. مكان محمّل بالرموز تفوح منه روائح الشهوة وبخار لا نراه ينبعث من الأجساد الطريّة المُتخيّلة. لا يتوقّف سالم ولد خضرا على استقبال الجمهور بقوله “علاش في العتبة زوز موش مليح، ادخل وخلّي الملايكة تدخل”، بل يتحرّك في المكان مُعلنا لهم عن هويّته الجنسيّة التي تضرب عرض الحائط قوالب الرجولة والفحولة الجاهزة، ناظرا إليهم مباشرة في أعينهم وكأنه يتحدّى مرجعيّاتهم غير المكشوفة وأحكامهم المُسبقة ربّما.

صورة لمنير بن حاج خليفة

عفيفة/عاهرة

قبل أن يستقبلنا سالم الرّاوي هناك صوت مُسجّل لامرأة تُكرّر عشرات المرّات لكنّه غاب في الضجّة، فلم ينتبه إليه الكثيرون. يقول “راو كلّ طرف فيّ ينقح وينو سلاّل القلوب بجاه سيدي بوعرقوب، حتى وكان صغير ميسالش، هات المهمّ يدخل في الكوبة. وأنا نحضّرلك شيشة معسّل وإنت تتمدّ وتتكسّل …”. ويبدو أن تكرار هذه الجمل المحمّلة بمعان جنسيّة كثيرة هدفها تحضير الجمهور نفسيّا لما ينتظرهم داخل الحمّام، أين جعل رشدي من جسده عٌرضة للتأويلات والتخمينات، جسده الراقص الذي  أعطى بُعدا أكبر لصورة المرأة في مجتمع بطريركي منغلق.

“عروس وسلات” ألغى الحواجز بين الرقص والبغاء، فعاملات الجنس لهنّ رقصاتهنّ الخاصّة، رقصات ظلت عالقة داخل غرفهنّ لا تغادرها بإذن أو دونه، جسّدها رشدي بحركات تنهل من معين الفعل الجنسيّ، معريّا التضادّ المزدوج في القيم والتوصيفات عفيفة/عاهرة، التي أنتجها مجتمع له آليّاته الخاصّة لإخضاع الجسد الأنثوي المُكلّف بمهمّة حراسة “الشرف”. وكان مشهد البصق على الجسد الراقص شاهدا على ما يتعرّض له من عنف ومحاولات للسيطرة عليه اجتماعيّا.

بإمكاننا أن نتخيّل ما كانت عليه المواخير في تلك الأزمنة الغابرة، مواخير نجد فيها عاملات جنس مسلمات ويهوديات ومسيحيّات، قادمات من جبل وسلات أو من العاصمة لا يرتدين حزام العفّة المصنوع من الخوف، ويقدّمن أجسادهنّ قربانا للفقر. لكنّنا نجد أيضا رجالا يشتغلون داخل المواخير بأجسادهم مثل سالم ولد خضرا الذي ورث مهنة أمّه وحَلَّ مكانها بعد موتها لينافس النسوة هناك وليرسم ملامح شخصيّته المُغرية والمثيرة للريبة عند الكثيرين. لا يذكر لنا المؤرّخون الذين يتعاملون مع ذاكرتنا بانتقائية حكايات عن رجال مواخير العاصمة، إذ نجد في بعض المراجع القليلة من تحدّث باقتضاب شديد عن ماخور “علي واكي” الذي كان مخصّصا في فترة الاستعمار الفرنسيّ للمثليّين.

مع “عروس وسلات” لا وجود لأيّ محدّدات جنسيّة حيث ينصهر الأنثويّ والذكوريّ في مكان محدّد وفي إطار زماني معلوم. لم يَبُل رشدي بلقاسمي على الثوابت ثمّ سكر، على قول مظفر النوّاب، ولكنّه رقص وانتشى مهدّما بجسده كل الأعراف والعادات والتقاليد والأحكام المُقيّدة.