خَتْم قانون المصالحة ينتظم ضمن مسار مُعقد ومتشعب، كشفت خلاله مؤسسة الرئاسة عن ارتباط سياسي-بنيوي بشبكة الفساد المالي والإداري لمنظومة الحكم القديمة. ومن أجل تقنين هذا الارتباط المصلحي سعت الرئاسة إلى فرض مبادرتها التشريعية باستخدام شتى الوسائل الدعائية والسياسية. ولكنها اصطدمت لأكثر من سنتين بجبهة مقاومة متماسكة، ضمّت قطاعات واسعة من المجتمع بحركته الشبابية والحقوقية والسياسية. وقد لعب الارتباط العضوي بين حسابات الحكم والموازانات البرلمانية دورا حاسما في المصادقة على قانون المصالحة خلال دورة برلمانية استثنائية في 13 سبتمبر 2017، دفعت إليها كتلتي حركة النهضة ونداء تونس في إطار ترتيبات حزبية مُسبقة.

الرئاسة تقنن مصالحها الحزبية

إن قانون المصالحة يشكّل أنموذجا لفهم أشكال التوظيف الرئاسي لمنظومة القوانين وللسلطة التشريعية من أجل تقنين مصالح سوسيو-حزبية بعينها. فبعيد أشهر قليلة من انتخابه كان لزاما على الرئيس الجديد أن يعكس الولاءات الاقتصادية والاجتماعية التي أتت به إلى القصر ضمن سياساته التشريعة، مُستغلا في ذلك الصلاحيات الدستورية المُتاحة أمامه. من داخل هذا السياق وُلِد مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والإدارية، حَملته الرئاسة إلى البرلمان معولة في ذلك على حشد الدعم من كُتل الإئتلاف الحاكم خصوصا حركة النهضة. ولكن العديد من العوامل الذاتية والموضوعية عطلت المصادقة على هذا القانون، أبرزها الانقسامات الداخلية لحزب نداء تونس التي حالت دون خلق قاعدة مصالح واضحة بين الحزب الحاكم وحلفائه من شأنها أن تضع قانون المصالحة على سكة التسويات الحزبية، مُضافا إلى هذا المقاومة الاجتماعية والمدنية التي نجحت في إضعاف القوة الرمزية والسياسية لمشروع القانون.

استقرار الأوضاع داخل نداء تونس لصالح نجل الرئيس حافظ قايد السبسي، سَهَّلت على الحزب الحاكم إيجاد تَفاهم عملي مع حركة النهضة حول مشروع القانون داخل مجلس نواب الشعب. ظهرت أولى مقدمات التفاهم من خلال تغيير عنوان المبادرة لتأخذ شكل المصالحة الإدارية في 12 جويلية 2017، ثم تعززت بالمصادقة النهائية المشتركة على مشروع القانون خلال دورة برلمانية استثنائية في 13 سبتمبر 2017. طيلة الفترة المسرودة برَزت المؤسسة التشريعية كوعاء قانوني لمصالح الرئاسة وحلفائها، وكلما نضُجت التسويات الحزبية إلا وكان البرلمان جاهزا لتمرير مشاريع القوانين بانتقائية مُصممة سَلفا. المصادقة على مشروع القانون وَضعت الرئاسة مجددا أمام معضلة الطعن الدستوري، وفي هذا السياق جاء قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين –الصادر في 17 اكتوبر 2017 والقاضي بإحالة القانون على رئاسة الجمهورية- حاملا لسمات الضغط السياسي، لعدة اعتبارات من بينها التمديد الأولي في إصدار قرار الطعن لمدة أسبوع، إضافة إلى تسريب مضمون قرار الهيئة من قبل حزب نداء تونس قبل صدوره.

رئيس الجمهورية يوفر المشروعية القانونية للفساد الإداري

منذ إعلانه في صائفة 2015 لم يحظى قانون المصالحة بإجماع سياسي واجتماعي وحقوقي في تونس وخارجها، وهو ما لاحظته لجنة البندقية في تقريرها حول مشروع القانون، الذي اعتمد القاعدة القائلة بأن “سير أيِّ نظام كان للعدالة الانتقالية يفترض توافقا واسعا”. بل بالعكس ساهم القانون لأول مرة في التاريخ التونسي المعاصر في تشكيل جبهة رفض اجتماعية ذات تركيبة متنوعة ومتعددة، ضمّت في صفوفها الحركة الشبابية والمنظمات الحقوقية والجمعيات المدنية والأحزاب السياسية وفئات من المجتمع غير منتظمة صلب فعاليات مدنية وسياسية.

بعد تغيير شكل القانون ليقتصر على المصالحة الإدارية ثم المصادقة عليه في دورة برلمانية استثنائية في سبتمبر المنقضي، سُجِّلت ضده اعتراضات قانونية ودستورية من قبل المعارضة البرلمانية التي تقدمت بطعن لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، علاوة على الاعتراضات القانونية التي تقدم بها عدد كبير من المنظمات التونسية والدولية وجمعية القضاة التونسيين والمجلس الأعلى للقضاء. ولعل عدم الإجماع الأخير حول المبادرة الرئاسية جسّده الانقسام داخل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، التي طعن نصف أعضائها في دستورية القانون.

غياب الإجماع حول قانون المصالحة لم يكن ذي وزن لدى رئاسة الجمهورية، التي تقوم إدارتها السياسية على منهج توظيفي قديم، ينظر للمؤسسات والتشريعات بوصفها أدوات صالحة للاستخدام كلما توفرت المصلحة المباشرة بغظ النظر عن مواقف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين. حتى أن الحجج التي عرضتها رئاسة الجمهورية اليوم لم تكن منبثقة عن مرجعية دستورية وقانونية وإنما حَكمها منطق سياسوي ضعيف، مفاده أن ” تهيئة مناخ ملائم يشجع على تحرير روح المبادرة في الإدارة والنهوض بالاقتصاد الوطني وتعزيز الثقة في مؤسسات الدولة”. وتخفي هذه الحجة الفضفاضة العائدات السياسية الحقيقية للمشروع التي سينتفع بها حزب الرئيس من خلال تجديد روابطه بكبار المسؤولين في النظام السابق وأشباه الموظفين المورطين في الفساد، مدشنا بذلك حياة سياسية قائمة على الافلات من العقاب والاستثراء على حساب الصالح العام.