المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

وإذا أدركنا أن تونس لا تنتج محليا أي من التكنولوجيات ووسائل الإنتاج الحديثة الضرورية لتحويل صابة الزيتون إلى زيت كالمعاصر وتوابعها التي تُستورد بالعملة الصعبة، مما ينعكس سلبا على الميزان التجاري، فإننا نقف على هول المأساة التي لا تقتصر على خسارة الموارد المالية  بل تؤدي إلى فقدان  قطاعات إنتاجية ذات قيمة مضافة عالية تضيع  بأكملها، مع ما توفره من فرص للعمل  يتم التفريط فيها هدرا. والحال أن تونس في أمس الحاجة إليها للتقليل من العجز التجاري ولتوفير موارد إضافية ومواطن الشغل لمهندسيها وإطاراتها العليا، فضلا عن العمالة غير المتخصصة.

هذا الواقع المرير يُعزى إلى الخيارات الاقتصادية الخاطئة التي توختها تونس بعد تخليها عن التخطيط الإستراتيجي كمنوال للتنمية واستبداله بسياسة انفتاحية عشوائية. مما أدى إلى غياب الرؤية الإستراتيجية المستقبلية في إدارة الثروات الوطنية التي تُركت كلقمة سائغة للسماسرة المحليين وللأطراف الخارجية وخاصة منها الأوروبية، الحريصة على الحيلولة دون سيطرة تونس على قطاعاتها الحيوية وتحولها إلى منافس على غرار الدول الصاعدة وذلك من خلال إبقائها في حالة تبعية تكنولوجية أبدية إزاء أوروبا.

أسباب سيطرة الدول الأوروبية على ثرواتنا الوطنية

والملاحظ أن قطاع زيت الزيتون هو عينة فقط من عديد القطاعات والأنشطة الاقتصادية الحيوية ذات الصلة بالثروات الوطنية كالأنشطة البترولية وقطاع الطاقة والفلاحة والصناعات الغذائية والنسيج والأحذية، المعرضة منذ بدايات الاستقلال وقبله للنهب المنظم والمقنن بموجب اتفاقيات التبادل الحر وقوانين الاستثمار غير المتكافئة، التي تم توقيعها أو تبنيها في إطار وضع الأطر المنظمة للعلاقات مع فرنسا والمجموعة الاقتصادية الأوروبية خلال فترة الستينات والسبعينات ثم مع الاتحاد الأوروبي منذ مطلع التسعينات. كما ساهمت التبعية المالية والتكنولوجية التونسية إزاء الغرب مع التوجهات الاقتصادية الليبرالية والانفتاحية التي تبنتها  تونس منذ مطلع السبعينات وعبر البرامج الإصلاحية المفروضة على تونس  منذ منتصف الثمانينات إلى الثورة، في تمكين رؤوس الأموال الأجنبية من الاستحواذ على القطاعات والأنشطة الاقتصادية والتجارية الأكثر ربحية ومردودية على حساب المصلحة الوطنية التونسية.

والجدير بالذكر أن هذه القوانين والاتفاقيات الضامنة للامتيازات الممنوحة للأجانب موروثة في واقع الأمر عن المعاهدات الموقعة مع المستعمر الفرنسي قبل الاحتلال وبعده. كما أنها مستمدة من ترسانة كاملة من التشريعات الموروثة عن حقبة الاستعمار، علما أن بعضها ظل ساري المفعول إلى يومنا هذا بمقتضى تعهدات سرية. كما أدرِجت نفس الامتيازات في اتفاقية الحكم الذاتي الموقعة مع فرنسا في جوان 1955 التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من بروتوكول الاستقلال الموقع في 30 مارس 1956.

وكان من المفترض أن تقوم تونس بعد الاستقلال بمراجعة هذه الاتفاقيات والتعهدات والقوانين بتعديلها أو إلغائها وبسن قوانين جديدة  تنسجم نصا وروحا مع الخيارات والتوجهات الاستراتيجية، التي تبنتها تونس مطلع الستينات في إطار الآفاق العشرية للتنمية القائمة على إزالة الاستعمار الاقتصادي وبناء منظومة صناعية وفلاحية إنتاجية عصرية كفيلة بجعل تونس قادرة على استغلال ثرواتها محليا بتكنولوجياتها الوطنية، على غرار ما يعرف بالدول الصاعدة بما يقلل من تبعيتها التكنولوجية إزاء الخارج في هذه المجالات الحيوية، وبما يساعدها على تعديل موازناتها التجارية والمالية المختلة باستمرار نتيجة العجز المتفاقم في التبادل التجاري مع الدول الأوروبية عموما، وخاصة مع فرنسا وألمانيا وإيطاليا باعتبارهم الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين لتونس.

لكن تونس تخلت مبكرا مطلع السبعينات على إستراتيجية إزالة الاستعمار الاقتصادي وعادت بشكل جد مبكر إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي والتجاري والاستثماري غير المتكافئ مع فرنسا والدول الأوروبية وذلك من خلال اتفاقية التبادل الحر الموقعة سنة 1969 مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية وقانون استقطاب الاستثمارات الخارجية لعام 1972. وكذلك اتفاقية التعاون والتبادل الحر مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية المبرمة سنة 1976 وهو ما وفّر الظروف والإطار القانوني الملائمين للدول الأوروبية المذكورة لتأبيد علاقات الهيمنة والسيطرة على مقدراتها وثرواتها، في تقسيم محكم للأدوار ظل متواصلا إلى يومنا هذا خاصة بعد انخراط تونس منتصف الثمانينات في منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر تحت تأثير أزمة المديونية والأزمة الاقتصادية التي إضطرتها للخضوع لأول مرة سنة 1986 لما يسمى بالبرامج الإصلاحية والقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي، وما اتصل بها من تدابير في مجال خوصصة المؤسسات العمومية وتخلي الدولة عن دورها الاقتصادي وعن إحتكارها لبعض الأنشطة الحيوية ومن ضمنها إدارة قطاع زيت الزيتون وتصديره الذي كان حكرا على ديوان الزيت ومركز النهوض بالصادرات.

اتساع نهب زيت الزيتون التونسي

في ظل النظام السابق إتسع إنخراط تونس في منظومة الإنفتاح الاقتصادي والتجاري بعد انضمامها لمنظمة التجارة العالمية وإبرامها لاتفاق التبادل الحر للسلع الصناعية مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995، الذي تزامن أيضا مع فتح المجال للقطاع الخاص التونسي والأجنبي للاستثمار بحرية في جل الأنشطة التجارية ومن بينها قطاع الزيتون الاستراتيجي الذي كان يعاني أصلا -كما أسلفنا- من الهيمنة الأجنبية وخاصة الإيطالية وذلك رغم دعوات عديد الخبراء والمختصين التونسيين إلى ضرو رة تدخل الدولة، خاصة على ضوء الآثار السلبية لهذه السياسة على الميزان التجاري والمالي التونسي مع أوروبا الذي ظل يشكو من عجز متواصل ومتفاقم منذ الاستقلال.

والملاحظ أن خوصصة قطاع التجارة الخارجية مطلع التسعينات لم يكن له آثار إيجابية إطلاقا على الميزان التجاري التونسي بل زاد في تعميق الأزمة لأنه شجّع القطاع الخاص التونسي والأجنبي على ترك القطاعات الإنتاجية والإنخراط بقوة في الاقتصاد الريعي القائم على أنشطة الوساطة لفائدة الأجانب والانخراط في التجارة الدولية والقطاعات الخدميّة ذات المردودية والربحية السريعة، وذلك على حساب المصلحة الوطنية والتوازنات المالية الكبرى للدولة. ولم يتغيّر الوضع بعد الثورة بسبب تمسّك الحكومات المتعاقبة تحت تأثير الضغط الغربي والأوروبي بنفس الخيارات الاقتصادية ومضيّها في توسيع التبادل الحر الغير متكافئ مع الاتحاد الأوروبي.

هل يمكن لتونس السيطرة على ثرواتها الوطنية المهدورة؟

لاشك أن لتونس القدرة على التقليل من الاستغلال الأجنبي الفاحش لثرواتها الوطنية ومن بينها خاصة زيت الزيتون، إذا توفرت لديها الإرادة السياسية اللازمة لمراجعة خياراتها الاقتصادية والمعاهدات والتوجهات الدبلوماسية ذات الصلة. وكذلك مراجعة ترسانة القوانين والتشريعات المصاحبة لهذه السياسات الإنفتاحية خاصة وأنها أضحت متعارضة نصا وروحا مع بنود الدستور التونسي الجديد الذي يكرّس سيادة الشعب التونسي على ثرواته الوطنية ويحمّل الدولة التونسية مسؤولية حماية هذه الثروة وإدارتها بشكل حكيم، وبما يتماشى مع مصالح تونس العليا.

و الملاحظ أن إهدار الثروات الوطنية على هذا النحو و عدم سعى الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال وخاصة بعد الثورة لاستعادة الأنشطة ذات القيمة المضافة العالية لإنجازها بتونس بتكنولوجيات تونسية وكفاءات وطنية هو من أهم الأسباب المؤِدية إلى نزيف هجرة الإطارات والطاقات العلمية والهندسية التونسية التي لم تعد تجد بتونس فرص العمل المتناسبة مع تكوينها وقدراتها، فضلا عن ضعف الحوافز المالية والقانونية المخصصة حصريا للأجانب وغير المقيمين وكذلك سياسة التشجيع على  الهجرة بعنوان التعاون الفني وازدواجية المنظومة التربوية  وغير ذلك من العوامل المتظافرة لإفراغ تونس من ثرواتها البشرية والمادية ودفعها إلى الهجرة وترحيلها خارج حدود الوطن.

وللأسف فإن التعهدات والالتزامات التي اتخذتها الحكومة الحالية والحكومات السابقة إزاء صندوق النقد الدولي ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي بالمضي والتوسع في نفس السياسات و الخيارات الاقتصادية و الدبلوماسية، لا يؤشر إلى أنها قادرة أو مستعدة لبحث سبل معالجة معضلة إهدار ثرواتنا الوطنية المادية والبشرية للحيلولة دون استغلالها الفاحش من قبل الأطراف الخارجية، الذي أضحى نهبا مقننا بموجب قانون الاستثمار الجديد  والآليات والقوانين المختلفة المفروضة على تونس بضغط من صندوق النقد الدولي.

ومع ذلك بإمكان تونس الحد بشكل هام من حجم هذا النزيف إذا أقدمت -تماشيا مع مقتضيات الدستور- بمراجعة بعض القوانين البالية مثل القانون المنظم لخوصصة قطاع تصدير زيت الزيتون الذي يسمح للقطاع الخاص التونسي والأجنبي بشراء زيت الزيتون التونسي الخام ليقع تصديره إلى الخارج. حيث تمتلك هذه الأطراف المصانع التي تتكفل بإنجاز عمليات التثمين الصناعي وهو ما يلحق الضرر البالغ بتونس التي تفقد بذلك النسبة الأهم من القيمة المضافة وكذلك الأنشطة وفرص العمل ذات الصلة المعروفة بشبكة القيمة. كما يمكنها البحث عن شراكات تكنولوجية مع البلدان الصاعدة  لكسر احتكار إيطاليا والغرب لزيت الزيتون التونسي وغيره من الثروات التونسية.

هذا ويمكن  تحفيز رجال الأعمال التونسيين والأجانب، بل إرغامهم على إنجاز عمليات التثمين الصناعي وجوبيا بتونس من خلال عقود للتنمية تشمل أيضا التعاون على تطوير تكنولوجيات وأدوات إنتاج تونسية للتقليل من استيراد تونس لهذه التجهيزات المكلفة بالعملة الصعبة. وهو ما سينعكس حتما بصفة إيجابية على الميزان التجاري وميزان المدفوعات. وستتمكن تونس بذلك من تحسين مردودية قطاع زيت الزيتون فضلا عن الرفع من نسبة إدماجه الصناعي مما سيوفّر سبل التشغيل للمهندسين والإطارات والمبدعين التونسيين الذين لا يجدون فرص التوظيف في بلادهم  في إطار منظومة المناولة التي تعتمد أساسا على الأيادي العاملة غير المتخصصة للتقليص من كلفة الإنتاج.

وخلاصة القول، وفي خضم ما تدّعيه الحكومة الحالية من رغبة في التقليص من مستوى العجز التجاري الذي بلغ معدلات مفزعة وخطيرة من خلال الإعلان عن تدابير جديدة من بينها خاصة إعداد قائمة من السلع غير الضرورية والكماليات التي سيقع الاستغناء عن توريدها، عليها أن تُعنى أيضا بتوفير الحماية الضرورية للصناعات الوطنية المعرّضة للإندثار بحكم المنافسة غير الشريفة وغير المتكافئة الأوروبية، فضلا عن السلع المهربة عبر المسالك التجارية الموازية.

كما يتعين على تونس أن تعمل على استرداد قطاعاتها الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية المهدورة والمنهوبة من الأطراف الأجنبية بتواطئ من فئة من قطاع الأعمال التونسي التي أضحت تستغل الحوافز والقوانين المشجعة على التصدير والاستثمار، لتهريب الثروات خارج تونس فضلا عن زيادة تعميق العجز التجاري والمالي وكذلك حرمان الشباب التونسي المختص وغير المختص مما كانت ستوفره له هذه الأنشطة من فرص للعمل، والمساهمة في إعادة بناء تونس من خلال التثمين الصناعي المحلي لثرواتها باعتباره السبيل الوحيد للحفاظ لا فقط على الثروة الطبيعية والفلاحية بل أيضا على ثروتنا الشبابية والبشرية المهدورة والمتطلعة للهجرة السرية والعلنية بحكم فقدانها لأي أمل بإمكانية بناء مستقبلها بتونس.