غير بعيد عن منزله في حيّ الكبّاريّة، أين تجلّت كلّ مظاهر الحيف الاجتماعي وغابت مظاهر العنف والتخريب أو الحرق التي اعتقل تحت مطيتها أحمد ساسي، كان لقاؤنا مع عدد من أصدقائه الذّين لم يستوعبوا حتى تلك اللحظة عمليّة الاختطاف التي تعرّض لها وقد تركوه دقائق قبلها قرب منزله. في الطريق، تخبرنا صديقته منال الشليبي أنّ قوّات الأمن انتشرت بشكل مكثّف ليلة أمس لتضيف؛
“شهدنا حملات ترهيب استهدفت الأهالي في أغلب أنهج الحيّ -التي كانت هادئة تماما حينها- مرغمة إيّاهم على ملازمة منازلهم”. لتستطرد قائلة؛ “في تلك اللحظة وبينما كان أحمد ساسي أمام منزله على الساعة التاسعة ليلا، هاجمته دوريّة أمنيّة لتجبره على مرافقتها وتنقطع أخباره حتّى صباح يوم الخميس”.
هناك، وتماما في المكان الذّي اعتقل فيه أحمد، تجمّع عشرات من جيرانه وتلاميذه لمواساة أمّه محبوبة التّي توجّهت إلينا قائلة؛
“ابني كان بعيدا عن المواجهات، بل كان أحد الذّين لعبوا دورا أساسيّا في منع الاحتجاجات التي شهدها الحيّ طيلة الليالي الفارطة من الإنسياق إلى مربّع التخريب”
شهادتها حول ملابسات إيقافه تتقاطع مع شهادات أهل الحيّ التي شبّهوها بالاختطاف. لم يُسأَل أحمد عن هويّته أو سبب تواجده في المنطقة، بل تعرّض مباشرة إلى الضرب والتعنيف دون مقدّمات، ليتمّ إجباره على مرافقة أعوان الأمن بسرعة لم تُسعف والدته للخروج واللحاق به بعد سماع الجلبة. يتدخّل شقيقه أيمن ساسي مضيفا؛
“مكان احتجاز أخي بقي مجهولا حتى صباح الخميس، إذ ظللت أتنقّل صحبة عدد من رفاقه من مركز الأمن في الكبّاريّة إلى مركز إبن سينا ومن ثمّة إلى منطقة الأمن في جبل الجلود، أين كانت الإجابة واحدة بنفي تواجد أحمد في أيّ منها”
. أمام إصرار عائلته على معرفة مكان ابنهم وخوفهم على حالته الصحيّة بعد تعرّضه للضرب والتعنيف وهو المصاب بمرض السكّري، تمّ إعلامهم بإيقافه في مركز بوشوشة وإحالته يوم الجمعة على المحكمة الابتدائيّة تونس 2 في سيدي حسين.
التهمة التي تمّ توجيهها إلى أحمد ساسي، كانت مدعاة لسخرية وغضب كلّ من يعرفه في حيّ الكبّارية. أوّلهم تلاميذه الذّين كانوا مصدومين من اعتقال أستاذهم بمثل هذه التهمة وهو الذّي كان يلقّنهم في المعهد الخاصّ الذّي يدرّس فيه مادة الفلسفة أو أثناء دروس الدعم، التي كان يقدّمها مجّانا، أنّ التخريب والنهب عمل إجراميّ لا يمتّ بصلة إلى الاحتجاج الاجتماعي. يضيف التلميذ عزيز؛
“كان يوصينا خلال الأيّام الفارطة بالحفاظ على حيّنا وحمايته من الفوضى أو الإعتداءات التي قد تطال المتاجر أو فروع المؤسسات العموميّة والخاصّة”
.بل سعى إلى ترجمة هذا السلوك، بحسب محدّثنا، إلى ممارسة يوميّة من خلال بعث النوادي الثقافيّة وحملات النظافة التطوعيّة
أحمد ساسي لم يكن مجرّد أستاذ فلسفة يكتفي بعمله الأكاديمي، بل كان مربيّا وناشطا اجتماعيا يؤمن بضرورة تشكيل وعي مبكّر لتلامذته. إيمان تشكّل منذ سنوات الجامعة عندما انخرط مبكّرا في النضال ضدّ نظام بن علي صلب الاتحاد العام لطلبة تونس، ممّا جعله من المعطّلين قسرا عن العمل بعد فرزه أمنيّا، ليبدأ مرحلة جديدة عقب جانفي 2011 كعضو المكتب الوطني لاتحاد المعطلين عن العمل. نشاطه لم يتوّقف عند العمل النقابي أو السياسيّ، بل امتدّ إلى المجال الجمعياتي ليكون من مؤسّسي جمعية جيل ضدّ التهميش التي أكّد لنا رئيسها إبراهيم الفرشيشي أنّ
“أحمد الذّي كرّس جهده لخدمة حيّه الكبّاريّة خصوصا في قضايا التهميش والحيف الاجتماعي لا يمكن أن ينساق إلى أعمال تخريبيّة ضدّ أهله وأنّ هذا الأخير يعي الفرق تماما بين الاحتجاج والتخريب”.
المظلمة التي لحقت بأحمد ساسي لم تقتصر على ملابسات عمليّة الاعتقال، بل تواصلت حتّى بعد إيقافه واثناء استنطاقه واحتجازه. هذا ما يؤكدّه المحامي أيّوب الغدامسي الذّي أفادنا أنّه لم يتمكّن من مقابلة موكّله نظرا لاستنطاقه ليلة الإربعاء من قبل فرقة البحث في ابن سينا دون حضور محاميه. واقعة استغربها محدّثنا خصوصا وأنّ محضر الاستنطاق تضمّن إشارة إلى أنّ أحمد ساسي “رام أن يجيب دون حضور محام”، وهو ما لا يمكن أن يقبله موكّله تحت أيّ ظرف، ممّا يرجّح فرضيّة تعرّضه للاستنطاق قسرا وباستعمال العنف. أمّا عن محتوى المحضر فيؤكّد الأستاذ الغدامسي غياب المعاينات أو حجز أسلحة تتماشى والتهمة الموجّهة إلى أحمد بتكوين وفاق بنيّة الاعتداء على الممتلكات العامّة والخاصّة. ليشير إلى أنّه تقدّم بطلب عرض موكّله على الفحص الطبيّ قبل عرضه على وكيل الجمهوريّة غدا في المحكمة الإبتدائيّة بسيدي حسين تونس 2. من جهة أخرى، أكّد المحامي أسامة هلال أنّه تمّ منع المحامين والمنظّمات الحقوقيّة من مقابلة أحمد ساسي إضافة إلى التعتيم المطلق على وضعه القانوني وغياب أيّ تفريط في المحاضر.
وضعيّة أحمد ساسي الذّي اختطف من أمام منزله وعلى مرأى من أبناء حيّه، قد لا تكون الحادثة الوحيدة خلال موجة الإحتجاجات الأخيرة، والتي تطوّرت بسرعة إلى مواجهات عنيفة بين قوات الأمن والمحتجّين في ظلّ إصرار رسمي على المعالجة الأمنية دون غيرها واستمرار حملات الإيقاف ليلا ونهارا.
iThere are no comments
Add yours