المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

أجواء من التحدي الساخر تملأ قاعات الأساتذة هذه الأيام، أجواء تعبّر عن قوة سلك أساتذة التعليم الثانوي ووقوفهم صفا واحدا في وجه الوزارة، وتختلف عن السرديّة الرسمية التي تروّج لقطاع يرزح تحت سطوة “الشرير الأكبر” لسعد اليعقوبي. يتحدث هشام، مدير مدرسة إعدادية، عن أجواء قاعة الأساتذة “الزميلات مستبشرات بالظروف الجيدة التي سيجدنها في السجن فلهن “معرفة” هناك باعتبار أن مديرة السجن هي أم لأحد التلاميذ”. ولكن هذا لا يمنع أن القطاع بصدد الاستعداد لإمكانية قطع الأجور، حيث تقول أنيسة، أستاذة جغرافيا “بالنسبة لي، سألتجئ إلى ما تمكّنت من ادّخاره سابقا، لكنّها إمكانية ليست متاحة سوى لأقلية من الأساتذة. الأغلبية سيعوّلون على التضامن العائلي”، على غرار حنان التي التجأت إلى والديها لإقراضها ما سيمكّنها من تجاوز الأزمة المالية المرتقبة. تحدّثت أنيسة أيضا عن الجمعية قائلة “سيحاول الأساتذة المنخرطون في مثل هذه الجمعيات أن تكون لهم الأولوية في مساهمات هذا الشهر إن تم فعلا قطع الرواتب”، والجمعية هي أسلوب ادّخار تضامني يساهم من خلاله عدد من الأشخاص في صندوق جماعي بمبلغ شهري ويعود مجموع المساهمات كل شهر إلى أحد المشتركين في هذه الجمعية، هذا علاوة على إمكانية تفعيل شبكات الأصدقاء.

أمّا عن المداخيل المتأتية من الدروس الخصوصية ومن العمل في المعاهد الخاصة، تشير حنان إلى أن “تلك المداخيل دورها الوحيد هو تغطية العجز الناتج عن القروض والمصاريف اليومية في ميزانية الأساتذة وليس هدفها الثراء الفاحش، فهي ليست بالأموال الطائلة وهذه المبالغ الإضافية لا تبرّر المشقة الإضافية وتراكم آلام الظهر وأحيانا الإهانات التي يَلقاها الأستاذ في لجوئه لهذه الحلول، سوى لأنها ضرورية لاستكمال مصاريف الشهر”. مع كل هذا، لا يخطر ببال أحد أن يتراجع في هذه المعركة سوى قلّة قليلة “وحتى من أراد إرجاع الأعداد تراجع عن ذلك بعد تصريحات وزير التربية الأخيرة” على حد تعبير أنيسة.

يتميز قطاع التعليم الثانوي تاريخيا بحالة تضامن لا يمكن تفسيرها بـ”سطوة لسعد اليعقوبي وجماعته”. حنان ليست “مُسَيسة” وليس لديها انخراط في النقابة، لكنها تؤكد تضامنها مع زملاءها “يكفي أن يتم الاعتداء حتى لفظيا على زميلة أو زميل لتتوقف الدروس في المعهد. تضامننا يتجاوز منطق السياسة لأن ما يحدث لأحد الزملاء يمكن أن يحدث لي”. وحالات التضامن لا تقتصر على الإضرابات الاحتجاجية، بل تتمظهر كذلك في جمع التبرعات “الكولاكت” الذي يكاد يكون تقليدا داخل قاعات الأساتذة في كل مناسبة سعيدة أو حزينة تمس أحد الأساتذة أو حتى الموظفين والعَملة من خروج للتقاعد أو زواج أحد الأبناء أو مرض أو إجراء عملية أو وفاة قريب. تقول أنيسة “لا يستثني أحد نفسه من الكولاكت، حتى وإن كان المُتبرّع في خلاف حاد مع زميله المعني. ويكون منسوب التضامن أعلى كلّما كانت المناسبة حزينة أو المُصاب جللا”. قاعات الأساتذة تلعب كذلك دورا كبيرا في حياة الأستاذ، فهي على رأي هشام “القلب النابض للمعهد أين يلتقي الجميع ويتشاركوا الأفراح والأحزان وتحتدّ النقاشات وتتوحّد الصفوف”.

نحن إذا إزاء جسم موحّد يصعب شق صفوفه بقطع النظر عن الانتماءات السياسية للأساتذة أو انخراطهم من عدمه في الحياة العامة. فلنقابة التعليم الثانوي إشعاع كبير لدى الأساتذة وهذا الإشعاع بنته أجيال من النقابيين. يفسر هشام هذا الإشعاع قائلا “في كل معهد، تجد أستاذا يُلصَق به نعت “متاع النقابة”، وذلك الأستاذ يكون بصفة عامة ذي مصداقية كبيرة لدى زملائه وله قدرة كبيرة على التأثير في قاعة الأساتذة. تلك المصداقية بُنيت على مستوين، فعلى المستوى النقابي يكون ذلك الأستاذ قادرا على حل مشاكل زملائه والدفاع على حقوقهم كحقهم في جدول أوقات مناسب حتى وإن كان ذلك على حساب جدول أوقاته الخاص. علاوة على ذلك، تميّز نقابيو التعليم الثانوي بجرأتهم وشجاعتهم زمن بن علي حيث لا يتردّدون في نقد النظام خلال الاجتماعات العامة في قاعة الأساتذة. زد على ذلك أن نقابة التعليم الثانوي تميزت دائما بخياراتها النضالية الناجحة وبتحقيق مكاسب لصالح الأساتذة. وكمثال على ذلك فرضت النقابة إجراء النقل على أسس موضوعية لا على أساس الولاءات والمحاباة”.

مهما كانت جدّية وزارة التربية في خيار التصعيد بقطع الأجور، فإنها نجحت في خلق حالة من الشيطنة لأساتذة التعليم الثانوي. حالة يمكن أن تُنتج مظاهر تحطّ من قيمة الأساتذة، كما يمكن أن تؤسس لممارسات لا يحمد عقباها مثلما جناه وزير التربية السابق ناجي جلول على القطاع بقرار الارتقاء الآلي. وحسب قول حنان “راج لدى التلاميذ في عديد المعاهد أن السنة الدراسية ستُختم مثل سنة 2016 -سنة الارتقاء الآلي- وهو ما خلق حالة من التراخي”, إلاّ أنه في المقابل لم تمسّ هذه الممارسات ممّا سماه هشام “فخر الانتماء”، قائلا “فوق كل شيء يبقى شعور الاعتزاز بالانتماء لهذا السلك هو صمام الأمان، جيش الطباشير ليس فقط شعارا بل هو أيضا حالة وجدانية”.