بعد أسبوعين تقريبا من انطلاق الحملات الانتخابيّة، مازالت الحروب الكلاميّة على أشدّها بين بعض الأحزاب السياسيّة والهيئة العليا المستقلة للانتخابات بمختلف هيئاتها الفرعيّة. هذا المناخ المشدود الذّي وضع الهيئة الدستوريّة في قلب رحى الصراعات السياسيّة يبدو ماضيا أكثر فأكثر نحو التأزّم فيما يتعلق بتنظيم سير الحملات الانتخابيّة ورصد المخالفات التّي بلغت إلى حدود اليوم 1700 مخالفة قانونيّة خلال الحملات الدعائيّة، حسب عضو الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات أنيس الجربوعي. ورغم تأكيد هذا الأخير ومن قبله رئيس الهيئة محمد التليلي المنصري أنّ هذه الخروقات تبقى عاديّة وغير مؤثّرة في مسار العمليّة الانتخابيّة، إلاّ أنّ الأصوات مازالت تتعالى من الجانب الآخر ليتّهم كلّ حزب الهيئة بالانحياز والتضييق على عمله.

الصدام بين الهيئات الفرعيّة والأحزاب: الكلّ يتظلّم

الأجواء المتوتّرة التّي شابت مسار الإعداد للانتخابات البلديّة سواء في مرحلة مناقشة مشروع مجلّة الجماعات المحليّة أو ماراطون سدّ الشغور في الهيئة أو إعداد قوائم المترشّحين كانت تنذر بطبيعة المناخ العام الذّي سيسود الاستحقاق الانتخابيّ خصوصا مع الاستعداد لإطلاق الحملات الدعائيّة الانتخابيّة ورهان التمّاس المباشر مع الناخبين. لم يَطل الأمر لتندلع أولى المواجهات الكلاميّة ساعات قبل نزول المرشّحين للشارع لتوزيع بياناتهم الانتخابيّة. حيث عمدت بعض الهيئات الفرعيّة إلى رفض التأشير على البيانات الانتخابيّة لعدد من الأحزاب والتّي كان أهمّها حزب نداء تونس في بن عروس، وحراك تونس الإرادة في تطاوين وتوزر وسيدي بوزيد ومشروع تونس في الدندان، والجبهة الشعبيّة في دائرة تونس المدينة وقفصة وسوسة ومنوبة، إضافة إلى التيّار الديمقراطي في سوسة والمهديّة، في حين لم تسجّل أي هيئة فرعيّة اعتراضا يُذكر على البيان الانتخابي لحركة النهضة لتكتفي ببعض التنبيهات بخصوص بعض المخالفات التي تمّ تسجيلها خلال الأيّام الأولى للحملة. وقد برّرت الهيئات الفرعيّة قراراتها بخرق هذه البيانات مبدأ الحياد على غرار توظيف قائمة نداء تونس لاسم رئيس الجمهوريّة أو ما أسمته هتكا للأعراض وتحريضا ودعوة إلى الكراهيّة لتبرير رفضها التأشير على قائمات الجبهة الشعبية وحراك تونس الإرادة والتيّار الديمقراطي.

في المقابل تباينت ردود أفعال الأحزاب المشمولة بهذه القرارات، فبينما امتثل حزب نداء تونس لطلب التعديلات التّي قدّمتها الهيئة بالتراجع عن توظيف شخص رئيس الجمهوريّة في الحملة الانتخابيّة، وتجاوبت النهضة بشكل ايجابيّ مع ملاحظاتها حسب تعبير الهيئة، إضافة إلى قبول التيّار الديمقراطي بتعديل بيانه، اتسمت ردود أفعال الجبهة الشعبيّة وحراك تونس الإرادة بالرفض لتتراوح بين الطعن وإعلان تجاهل قرارات الهيئة الفرعيّة وصولا إلى اتهام الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بالإنحياز لقائمات الأحزاب الحاكمة ومحاولة التأثير على سير الحملات الدعائيّة الإنتخابيّة. في هذا السياق، كان حزب حراك تونس الإرادة قد أعلن مواصلته الحملة الانتخابيّة دون انتظار تأشيرة الهيئات الفرعيّة، في حين أعلنت الجبهة الشعبية التصعيد ضدّ الهيئة على لسان رئيس كتلتها البرلمانية أحمد الصدّيق الذّي صرّح لإذاعة خاصّة أنّ قرار الهيئة الفرعية للانتخابات بتونس المدينة “يدخل العملية الانتخابية في دوامة لا علاقة لها بالنزاهة”، بل ويضع العمليّة الانتخابيّة بأسرها محلّ شكّ، ليكشف أنّ الجبهة الشعبية ستُوجه مراسلة إلى مجلس الهيئة لطلب تغيير رئيس فرع مدينة تونس. اتهامات الجبهة الشعبيّة للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بالإنحياز وعدم النزاهة، تواصلت مع انطلاق الحملات الانتخابيّة، ليُعلن ناطقها الرسمي حمّه الهمامي يوم 27 افريل 2018، أنّ الهيئات الفرعيّة تحاول حماية الائتلاف الحاكم عبر التضييق على سير الحملات الانتخابيّة لأحزاب المعارضة.

التباين بين قرارات مختلف الهيئات الفرعيّة، عزّز بدوره الشكوك حول ولاءات القائمين عليها ومدى حياديّتهم، حيث تمّ التأشير على أغلب البيانات المرفوضة في مكاتب جهويّة أخرى دون تسجيل أيّة ملاحظات. تضارب انتبهت إليه الهيئة المركزيّة لتعلن مع انطلاق الحملات الانتخابيّة في 14 أفريل الجاري وتفجّر الأزمة عن نيّتها التدخّل لتوحيد الإجراءات بين مختلف المكاتب الفرعيّة. تحرّك لم يؤت أكله مع تواصل أزمة الثقة مع الأحزاب المتضرّرة من تلك القرارات والتّي تنبؤ بارتدادات أشدّ مع انتهاء العمليّة الانتخابيّة وإعلان النتائج.

الإعلام الخاصّ على الخطّ: نُشهر أو نُشَهِّر

كان القرار المشترك بين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري المتعلق بضبط القواعد الخاصة لتغطية الانتخابات البلدية كفيلا بفتح جبهة مواجهة ثانية أمام الهيئة مع وسائل الإعلام الخاصّة. حيث عمدت الهايكا إلى تسليط خطيّة ماليّة “على قناة نسمة في شخص ممثّلها القانونيّ بقيمة عشرة آلاف دينار من أجل نشر ومضة اشهارية على الموقع الالكتروني الرسمي للقناة وعلى صفحة الفايسبوك الرسمية التابعة لها، أطلقها حزب حركة نداء تونس في إطار حملة إعلانية بمناسبة الانتخابات البلدية”.

قرار استنفر نبيل القروي الذّي حرّك قناة نسمة بالتوازي مع النقابة التونسية للمؤسسات الإعلامية التّي يترأسها لتصدر بيانا في 16 أفريل الجاري يندّد بقرار الهايكا المستند إلى الاتفاقيّة المشتركة مع الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، ويحذّر من “تداعياته السلبية على سير الانتخابات البلدية”. خطوة كانت مقدّمة لإعلان قناتي الحوار التونسي ونسمة في وقت لاحق مقاطعة تغطية الانتخابات البلديّة في صورة عدم التراجع عن هذه الاتفاقيّة.

المعركة الجديدة بين الهايكا والقناتين المذكورتين، أثارت من جديد مسألة النزاهة والحياديّة خلال الحملات الإنتخابيّة. جدل انخرطت فيه جميع الأحزاب تقريبا لتزيد من الضغوط المسلّطة على الهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات. حيث اصطفّت كلّ من أحزاب نداء تونس والنهضة والجبهة الشعبيّة ضدّ الاتفاقية المُشتركة مشيرة إلى كونها تمثّل تضييقا غير مقبول على التغطية الإعلاميّة للحملات الانتخابيّة ومسّا من مسار العمليّة الانتخابيّة ككلّ.

دوّامة الشكّ وهاجس حياد هيئة الانتخابات

لم تكن أزمة الثقة التّي تشوب العلاقة بين مختلف الفاعلين في المشهد السياسيّ والإعلامّي والهيئة العليا المستقلّة للانتخابات وليدة اقتراب موعد الذهاب إلى صناديق الاقتراع. حيث مثّلت استقالة رئيس الهيئة شفيق صرصار في 09 ماي 2017 رفقة نائبه مراد بن مولى والعضو لمياء الزرقوني نقطة الانطلاق لمسار شائك لعبت فيه التجاذبات السياسيّة دورا في تشكيل المناخ الراهن.

بداية بكلماته المقتضبة والغامضة التّي برّر بها استقالته والتّي تحدّث خلالها عن أزمة كبرى داخل الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات “تمسّ بالقيم وبالمبادئ التي تتأسّس عليها الديمقراطية“، انتهاء بتلميحاته عن تهديدات تمسّ نزاهة الهيئة وحيادها، ساهم شفيق صرصار في إثارة دوّامة الشكّ وفَتح المجال أمام الأحزاب السياسيّة لتستخدم الهيئة ومسألة سدّ الشغور كورقة جديدة في صراعاتها السياسيّة.

هذا القرار ساهم في تأجيل موعد الانتخابات البلديّة بعد تتالي الإخفاقات صلب مجلس نوّاب الشعب لتعويض الرئيس المستقيل إلى حدود 14 نوفمبر 2017 والتّي جاءت بمحمّد التليلي المنصري على رأس هذه الهيئة الدستوريّة. هذا الظَفَر الصعب والذّي لم يكن ليتحقّق لولا توافق كتلتي النهضة ونداء تونس حول اسمه. توافق جعله في نظر الكثيرين رجل هاذين الحزبين وأثار حوله الشكوك منذ الساعات الأولى لتسميته خصوصا في ظلّ اختلال القوة الذي تمر به المنظومة السياسية الراهنة والتّي ستلقي حتما بضلالها على النتائج المرتقبة للانتخابات البلديّة القادمة، مشرّعة لفصل آخر من الصراعات والطعون والتشكيك.