كان صندوق النقد الدولي حاضرا بشكل ملفت للانتباه في بيان الإضراب الذي أصدره المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل يوم الاثنين 19 نوفمبر 2018، حيث اعتبر البيان تملص الحكومة من التزاماتها الاجتماعية “خضوعا لإملاءات صندوق النقد الدولي ولخياراتها الليبرالية المعادية لكلّ نفس اجتماعي ونقابي”. وقد أضاف ذات البيان أن “سياسات التداين الخارجي ورهن مقدرات البلاد وثرواتها والاستقواء بالدول الأجنبية والخضوع إلى تعليمات صناديق المال العالمية وتدمير المرفق العمومي حوّلت حياة أغلب التونسيات والتونسيين، ومنهم الأعوان العموميين إلى جحيم”.

في الوقت الذي يَشحد فيه اتحاد الشغل قاعدته الاجتماعية من أجل فرض زيادات تُقلّص من تدهور القدرة الشرائية للأعوان العموميين، تلوح السياسة الاقتصادية لصندوق النقد الدولي متعارضة مع هذا التوجه الاجتماعي حيث أصدر صندوق النقد الدولي بيانا في 09 جويلية 2018 أشار فيه إلى أن أحد شروط تحقيق أهداف المالية العامة التونسية لسنة 2018 يكمن في “تنفيذ عمليات المغادرة الطوعية للعاملين في الخدمة المدنية، وعدم منح أي زيادات جديدة في الأجور إلا إذا حقق النمو ارتفاعا غير متوقع، وإصلاح نظام معاشات التقاعد”. وفي بيان سابق أصدره الصندوق في 30 ماي 2018 أشار أيضا إلى وجود “فاتورة أجور ضخمة يتحملها القطاع العام وستكون أي زيادات أخرى في الأجور أمراً يتعذر احتماله”. وفي بيان آخر صادر في 26 مارس 2018 أورد صندوق النقد نفس التوصيات، حيث جاء فيه “تتمثل أولويات 2018 في تعزيز التحصيل الضريبي، وتنفيذ عمليات المغادرة الطوعية للعاملين في الخدمة المدنية، وعدم منح زيادات جديدة في الأجور إلا إذا حقق النمو ارتفاعا غير متوقع، وسَن زيادات ربع سنوية في أسعار الوقود”.

الاتحاد وصندوق النقد: الحرب الباردة

رغم أن صندوق النقد الدولي أدار لعبة الشروط من خلال الضغط على الطرف الحكومي –خاصة أنه عمد إلى تعطيل صرف القسط الثاني من القرض بداية 2017- فإنه سعى في نفس الوقت عبر بعثاته الماراطونية إلى تونس لفتح حوار مباشر مع المنظمات الاقتصادية والاجتماعية، أبرزها الاتحاد العام التونسي للشغل، سواء في عهد أمينه العام الحالي نورالدين الطبوبي أو في عهد الأمين العام السابق حسين العباسي. وقد جمعت الصندوق لقاءات بقيادة الاتحاد، من بينها ذلك الذي انقعد في ماي 2018 في إطار المراجعة الثالثة لبرنامج الإصلاح الهيكلي التي قام بها خبراء الصندوق بين 17 و30 ماي 2018، وفي فترة سابقة التقى وفد من الاتحاد ببعثة صندوق النقد الدولي في أفريل 2017، وقد تزامن هذا اللقاء مع التفاوض حول صرف القسط الثاني من اتفاق “تسهيل الصندوق الممدد” الذي بلغت قيمته 308 مليون دولار.

اتسمت هذه اللقاءات بصبغة حوارية عامة، أكد خلالها الطرفان على تبادل وجهات النظر والبحث عن حلول للأزمة الاقتصادية. وفي الوقت الذي سعت خلاله قيادة الاتحاد إلى تحييد صندوق النقد الدولي والحد من تأثيره على مسار المفاوضات الاجتماعية خصوصا في ظل إكراهاته المكشوفة التي يفرضها على حكومة الشاهد، سعى صندوق النقد إلى البروز بوجه منفتح وإظهار اتفاقه مع الاتحاد على تشخيص الوضع الاقتصادي، لكن دون تبني نفس الحلول، وهذا ما عبر عنه الممثل الدائم لصندوق النقد الدولي روبرت بلوتوفوغال، “لدينا لقاءات منتظمة وعلاقات طيبة مع الاتحاد العام التونسي للشغل…وإذا أردنا تعزيز الاقتصاد والاستثمار وتحسين الخدمات لا بد من توفير موارد إضافية وهذا العمل يمر لزاما بتحكم جيد في كتلة الأجور وإصلاح الوظيفة العمومية”.

لكن في نهاية 2016، فترة الأمين العام السابق حسين العباسي، اتسمت العلاقة بين الاتحاد العام التونسي للشغل وصندوق النقد الدولي بالتوتر، حيث اتهم حسين العباسي في ندوة صحفية، انعقدت في 12 ديسمبر 2016، صندوق النقد الدولي بازدواجية الخطاب، مشيرا إلى أن “الهيئة الماليّة الدوليّة تعمّدت مغالطة الاتحاد عبر تبني ازدواجيّة الخطاب وإبراز مواقف متباينة إثر اجتماعها مع كلّ طرف على حدة”. ويُذكر أن هذا التصريح تزامن مع توتر اجتماعي كبير حول الزيادة في الأجور في تلك الفترة، كان من المقرر أثناءه تنفيذ إضراب عام في القطاع العمومي يوم 08 ديسمبر 2016، ثم تراجع الاتحاد عن هذا الإضراب بعد إعلان الحكومة التزامها بالزيادات والمنح المقررة لسنة 2017.

حكومة الشاهد: الوساطة غير المُعلنة بين الاتحاد وصندوق النقد

تزامنا مع الإضراب العام الأخير في الوظيفة العمومية، سعى الخطاب الحكومي إلى الربط بين تعثر المفاوضات الاجتماعية والالتزامات الحكومية إزاء الجهات الدولية المانحة، حيث صرّح الناطق الرسمي باسم الحكومة إياد الدهماني في هذا السياق أنه “إذا قطعنا العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية التي تربطنا بها اتفاقيات لن نتمكّن من خلاص لا الزيادات ولا الأجور”، مضيفا أن “المؤسسات المالية الدولية على غرار صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والبنك الإفريقي للتنمية والاتحاد الأوروبي ستتوقف عن دعم الاقتصاد التونسي في صورة عدم التزام بلادنا بالإصلاحات المطلوبة”. ولعل هذا التصريح يُذكّر فيه إياد الدهماني بعهد قطَعته الحكومات التونسية أثناء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في إطار برنامج “تسهيل الصندوق الممدد”، الذي ترتبط قيمته الإقراضية بعدة شروط من بينها تقليص كتلة الأجور وإصلاح الوظيفة العمومية.

من جهته أشار سامي الطاهري، الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، إلى أن رئيس الحكومة أبلغ الأمين العام للاتحاد أن “صندوق النقد الدولي يرفض الزيادة في كتلة الأجور”. ولعل هذا التصريح يضع حكومة الشاهد في موقع الوساطة بين اتحاد الشغل وصندوق النقد، مما سيفتح الصراع الاجتماعي بين الحكومة والاتحاد على موجة جديدة من التصعيد، لا تبدو الحكومة بمنهجها الحالي قادرة على تجاوزها بفعل الرضوخ لإكراهات المانح الدولي.