وقفة احتجاجية خلال إضراب المحامين أمام قصر العدالة بتونس العاصمة – 20 ديسمبر 2018

رغم الدعاية الحكوميّة التّي استبقت تقديم قانون المالية لسنة 2019 للنقاش في الجلسات العامة، إلاّ انّ تصريحات النوّاب والسياسيّين خلال اجتماعات لجنة الماليّة كانت تنذر بأنّ تمرير ميزانيّة الدولة لسنة 2019، ستكون صاخبة ولن تقف عند نتائج التصويت. توّقعات ترجمتها مداخلات نوّاب مجلسّ الشعب عند مناقشة الفصول في الجلسات العامّة التّي انتهت قبل الآجال القانونيّة لحسم المصادقة على قانون الماليّة. لتنتقل المعركة إلى مستوى آخر تحت قبّة باردو عبر تقديم المعارضة عريضة للطعن في دستوريّة الميزانيّة المُصادق عليها في نفس الوقت الذّي انتقلت فيه موجة الرفض إلى الشارع مع بدأ تحرّكات مهنيّة وقطاعيّة تزامنا مع إصدار عدد من منظّمات المجتمع المدني والهياكل النقابيّة لبيانات مناهضة لما جاء في الموازنات العموميّة للدولة لسنة 2019.

حشد استثنائيّ للمعارضة تحت قبّة باردو

بنسبة غياب تجاوزت 26% من نوّاب مجلس الشعب، وب113 صوتا لا غير، استطاعت الحكومة تمرير مشروع قانون موازناتها العامّة للسنة المقبلة والذّي لقي رفضا غير مسبوق تجلّى من خلال تصويت 36 نائبا ضدّه. إلاّ أنّ القوى السياسيّة التّي صوّتت لصالح قانون الماليّة لسنة 2019، لم تتمكّن من وضع حدّ للخلافات التّي شابت جلسات النقاش العام، ليعلن النائب عن التيّار الديمقراطي وأمينه العام، غازي الشواشي عن شروع 60 نائبا من الكتلة الديمقراطية والجبهة الشعبية ونداء تونس والولاء للوطن إلى جانب عدد من المستقلين في إعداد عريضة طعن في دستورية قانون المالية لسنة 2019. هذا التصريح الذّي جاء ساعات بعد انتهاء جلسة التصويت، سرعان ما ترجمته الأطياف السياسيّة المعارضة إلى خطوات ملموسة بعد تجميع إمضاءات ل76 نائبا من تلك الكتل النيابيّة يمثّلهم النائب عن الكتلة الوطنيّة منذر بالحاج عليّ في أكبر تكتّل معارض منذ سنة 2011. ليتمّ تقديم العريضة في 17 ديسمبر الجاري إلى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.

وتشمل الفصل 36 المتعلق بالسر المهني لما اعتبر فيه من خرق لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 65 والذّي يفرض أن يكون مثل هذا الفصل في شكل قانون اساسي إضافة إلى الفصل 114 من الدستور الذي يفرض استشارة مسبقة وجوبيّة للمجلس الاعلى للقضاء. أمّا النقطة الثانية فتضمّنت الطعن في الفصل 45 حول منع تسجيل وترسيم العقود التّي تتجاوز رقم معاملاتها خمسة آلاف دينار، وهو ما اعتبره النوّاب الممضون على العريضة مسّا من الحقّ الدستوريّ في الملكيّة والذّي لا يمكن تعديله إلا وفق ضوابط محدّدة وبمقتضى قانون أساسيّ. ملّف الجباية والإعفاءات الضريبيّة كان بدوره أحد النقاط التّي تضمّنتها عريضة الطعن، حيث اعتبر النوّاب المعارضون لقانون الماليّة لسنة 2019 أنّ الفصل 88 المُتعلّق بإرجاء تطبيق توظيف نسبة 1 بالمائة على المؤسسات البنكية والتأمين والاتصالات والشركات البترولية لفائدة الصناديق الاجتماعية، لمدّة سنة مسّا من المبدأ الدستوريّ حول سنوية قانون المالية وتعسّفا على موارد الدولة. كمّا تضمّنت العريضة طعنا في الفصل 89 الذّي أعفى المساحات الكبرى من الضريبة بـ35% لسنة 2019 بإعتباره خرق للفصل 10 والفصل 21 من الدستور.

وقد تزامنت هذه التحرّكات مع تتالي البيانات الحزبيّة، حيث اعتبر كلّ من حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي وحركة تونس إلى الأمام في بيان مشترك لهما أن الخيارات المصادق عليها في قانون المالية 2019 “لا تخدم مصالح الفئات الضعيفة و المهمشة و ستنعكس سلبا على المقدرة الشرائية لأوسع الفئات الشعبية ولا تخدم سوى مصالح القوى السياسية والاقتصادية المهيمنة وأجنداتها الانتخابية” بينما دعا كلّ من التيّار الديمقراطي حركة الشعب والجبهة الشعبية المواطنين إلى التعبئة والاستعداد لإسقاط قانون المالية لسنة 2019 عبر الشارع.

قطاعات تنتفض ضدّ قانون الماليّة لسنة 2019

عبّر الاتحاد العام التونسي للشغل عبر بيان له في 13 ديسمبر 2018 عن “عدم رضاها المطلق على مضامين قانون المالية لسنة 2019 الذي افتقد إلى النفّس الإصلاحي والرؤية الاستراتيجية”، موجّها أصابع الاتهام إلى ما أسماه البيان “كتل الائتلاف الحاكم” التّي تعمل على “عرقلة الإصلاحات الجبائيّة وتوفير مناخ ملائم للاستثمار العمومي والخاصّ” إستجابة “لضغوطات مجموعات الضغط خدمة للمصالح الضيّقة لمجموعات متنفّذة”. كما حمّل الاتحاد العام التونسي للشغل الحكومة المسؤوليّة كاملة في تغوّل ما أسمته المنظّمة “مراكز النفوذ المالي”. هذا وقد أعلن الإتحاد في ختام بيانه دعمه لعريضة الطعن التّي تقدّم بها أعضاء مجلس نوّاب الشعب لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين بخصوص جملة الفصول المتنافية مع مبدأ العدالة الجبائية التّي أقرّها دستور جانفي 2014.

من جهة أخرى، وقبل أن يغادر ملّف الميزانيّة أروقة البرلمان بإتجاه قرطاج لختمه، انتقلت موجة الرفض لتشمل قطاعات مهنيّة اعتبرت نفسها مهدّدة بما ورد من إجراءات تضمّنها قانون الماليّة الجديد. حيث سارع الاتحاد التونسي للمهن الحرّة فور المصادقة على قانون الماليّة إلى إصدار بيان في 10 ديسمبر 2018، دعا من خلاله منظوريه إلى مسيرة احتجاجيّة في 13 ديسمبر “تعبيرا عن رفضهم التّام لما جاء في ميزانيّة الدولة للسنة المقبلة وتعارضها مع القوانين المنظّمة للمهن الحرّة وطنيّا ودوليّا”. دعوة استجابت لها الهياكل المهنيّة المنضوية ضمنه على غرار الهيئة الوطنية للمحامين بتونس وهيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية وعمادة المهندسين ومجمع المحاسبين ونقابة اطباء الاختصاص والممارسة الحرة والنقابة التونسية لأطباء الاسنان الممارسين بصفة حرة. موجة الاحتجاجات لم تقتصر على المسيرات، ليبدأ المحامون إضرابا عاما في جميع محاكم الجمهورية منذ يوم الخميس 20 ديسمبر الجاري مطلقين تهديدات بالتصعيد الميداني والقانونيّ ضدّ قانون الماليّة وبالأخصّ الفصل عدد 34 من قانون المالية والمتعلق برفع السر المهني للمحامي. حالة الرفض والتصعيد توسّعت ليعلن لاحقا كلّ من هيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية وهيئة ومجمع المحاسبين في 17 ديسمبر تعليق تقديم تقارير مراقبي ومراجعي الحسابات المتعلّقة بالشركات المدرجة ببورصة تونس والمؤسسات العمومية ومؤسسات القطاع البنكي والمالي وتعليق جميع أنشطة ممثلي المجمّع بمختلف المجالس والهيئات واللّجان الوطنيّة والجهوية ذات علاقة بالشأن المحاسبي والمالي والجبائي. لتلتحق الغرفة النقابية الوطنية لوكلاء العبور ومستغلي مخازن ومساحات التسريح الديواني بالقطاعات الرافضة لقانون الماليّة في 20 ديسمبر 2018، احتجاجا على الفصل 77  الذي يحمّل مستغلي المخازن تحت الرقابة الديوانية، كامل المسؤولية كاملة عن السلع المُخزّنة. رفض عبّرت عنه الغرفة النقابيّة بالدعوة إلى إضراب بنصف يوم وتنفيذ وقفة احتجاجية في الرابع والعشرين من نفس الشهر بكافة الموانئ التونسية، لتعلن تعليقه يوم السبت الفارط إثر اجتماع مع الإدارة العامة للديوانة في انتظار إصدار المذكرة التوضيحية بخصوص هذا الفصل.

حملات تفشل وأخرى تنضج والمجتمع المدني على الخطّ

لم تمرّ الاحتجاجات التّي شهدتها فرنسا بين شهري نوفمبر وديسمبر 2018 دون أن تلقي بضلالها على الساحة التونسيّة. فما عُرف ب”حركة السترات الصفراء” لقي صداه في تونس من خلال تأسيس حملة “السترات الحمراء” والتّي رفعت جملة من المطالب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في بيانها التأسيسي في 08 ديسمبر 2018، إبّان انطلاق النقاشات الصاخبة حول مشروع قانون الماليّة لسنة 2019، لتعلن في 14 ديسمبر خلال ندوة صحفيّة عبر برنامج تحّركاتها والموعد الرسميّ لانطلاق الاحتجاجات والذّي حدّدته ب17 من نفس الشهر تزامنا مع الذكرى الثامنة لانطلاق الثورة التونسيّة وتنفيذ اعتصام “القصبة 3″. هذه الحملة التّي لقيت اهتماما إعلاميا هامّا وأثارت جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي لم تستطع في نهاية المطاف تنفيذ برنامجها حتّى هذه الساعة وتحريك الشارع الذّي لم يستجب لدعواتها بالنزول في مختلف جهات البلاد رغم إعلانها عن تركيز 53 تنسيقية محلية و9 جهوية. فشل اقترن بما شاب تأسيس هذه الحملة من شبهات تنفيذها أجندات سياسيّة تصبّ لصالح أحد قوى الصراع داخل أجنحة السلطة وغرابة مطالبها بتوسيع صلاحيات الرئيس وتعديل النظام السياسي الحاليّ إلى نظام رئاسيّ، إضافة إلى نأي عدد من نشطاء الحملات الشبابيّة الأخرى على غرار ” فاش نستناو” و”مانيش مسامح” بأنفسهم وبحملاتهم عن “السترات الحمراء”. حيث أعلنت حملة فاش نستناو في 12 ديسمبر 2018، إنطلاق مسار النقاشات لإعداد ندوة وطنيّة موسعة نهاية شهر ديسمبر الجاري ستتحدّد بشكل دقيق برنامج حملة شعبية وطنيّة للدفاع عن السيادة الوطنيّة والعدالة الاجتماعيّة وفق ما جاء في البيان.

من جهة أخرى، انتقد عدد من منظّمات المجتمع المدني قانون الماليّة لسنة 2019، عبر عقد ندوات صحفية أو حلقات نقاش على غرار المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة الذّي نشر دراسة بعنوان “مشروع ميزانية 2019: الاستمرار في نشر الأوهام الاقتصادية قصد تحقيق الاحلام السياسية” والذّي اعتبر خلال تقديمها للعموم في 06 ديسمبر الجاري أنّ ميزانية 2019 طغى عليها الجانب “التجميلي” لإخفاء الإشكاليات الحقيقية. كما عمدت منظّمة بوصلة إلى تنظيم نقاش مفتوح حول قانون المالية في 21 ديسمبر 2018، تحت عنوان؛ “بين مصالح اللوبيات ومقتضيات الإنصاف الجبائي”، بحضور نوّاب من مجلس الشعب وممثّل عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وخبير في مجال الطاقة.

لم يكن الحجم الاستثنائيّ للكتلة المعارضة لقانون الماليّة الجديد، الجزء الأهم من سيل ردود الأفعال الرافضة لميزانيّة الدولة للسنة المقبلة، فانتقال موجة الرفض بتلك السرعة من مرحلة البيانات إلى النزول للشارع واتساع الفئات الاجتماعيّة والمهنيّة المشمولة بالارتدادات السلبيّة لهذا القانون، تنذر بأنّ جلسة التصويت لم تكن سوى مرحلة شرّعت الأبواب لفصل جديد من المواجهات، لتجد الحكومة نفسها في مواجهة إختبار جديد أمام فسيفساء سياسية واجتماعيّة لم تعهدها من قبل وفي مناخ محتقن ومفتوح على جميع الإحتمالات.