في خطوة تصعيديّة جديدة في مسار الأزمة المتواصلة منذ جانفي 2018، قرّر الأستاذة الجامعيون من منظوري إتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين “إجابة” الدخول في اعتصام مفتوح في مقرّ وزارة التعليم العالي منذ 25 مارس الجاري. هذا الفصل الجديد في مسار النزاع بين “إجابة” ووزارة الإشراف التّي تحاول المناورة عبر عزل هذا الهيكل النقابيّ بعد تسبّبها في تأجيج الاحتقان عقب تنكّرها لاتفاق 7 جوان 2018 مع إتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين، يتشعّب في ملابساته ليعكس أزمة عميقة في قطاع التعليم العالي العمومي بالأساس. تراكمات تمظهرت بشكل جلّي في مطالب الأساتذة الجامعيّين والأرقام الكارثيّة حول واقع الجامعة العموميّة وفي حرمان 120 ألف طالب من اجتياز امتحاناتهم خلال الموسم الدراسي الفارط  والتحذيرات التّي أطلقتها “إجابة” حول إمكانية الوصول إلى سنة جامعيّة بيضاء.

أساتذة الجامعات في الشوارع بدل المدرّجات

كانت السنة الجامعية 2017/2018 نقطة الإنطلاق الفعليّة للحراك الاحتجاجيّ للأساتذة الجامعيّين المنضوين ضمن هيكل إتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين “إجابة”، والتّي رفعوا خلالها حزمة من المطالب أهمّها إنهاء التمييز الوظيفيّ وفرض احترام سلم التأجير حسب الشهادة العلمية في الوظيفة العمومية إضافة إلى ضبط جدول زمنيّ وخارطة طريق واضحتين من أجل صياغة قانون أساسي جديد للجامعيين الباحثين مع تفعيل تبعاته المالية من خلال زيادة جملية في ميزانية وزارة التعليم العالي بنسبة 0.75% على ثلاثة سنوات. مطالب تطلّبت سلسلة من التحرّكات والإضرابات طيلة سنة 2018 شاركت فيها قرابة 105 مؤسسة جامعية وأكثر من 4000 أستاذ جامعي بحسب إحصائيّات “إجابة” قبل أن تنجح المفاوضات بينهم وبين وزارة التعليم العالي وتفضي إلى إمضاء اتفاق 7 جوان 2018 بإشراف رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب ووزير المالية. هذه الإتفاقيّة سرعان ما تحوّلت من بادرة انفراج إلى محور أزمة ثانية بعد أن تنكّرت الوزارة المعنيّة للإتفاق، فاتحة الباب على مصراعيه لخطوات تصعيديّة انطلقت منذ شهر نوفمبر بإعلان اتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين إضرابا حضوريّا دوريّا على امتداد 6 أيّام. استمرار تجاهل وزارة التعليم العالي، دفع “إجابة” إلى خوض إضراب إداري عبر الامتناع عن إعطاء مواضيع امتحانات السداسي الأول ليتواصل هذا الإجراء خلال السداسي الثاني. الردّ الرسمي، تمثّل في قرار وزير التعليم العالي في 7 فيفري الفارط، تجميد أجور الأساتذة الجامعيين المضربين لشهر مارس. لتكون هذه الخطوة حاسمة في إعلان الأساتذة الجامعيّين إعتصاما مفتوحا منذ يوم 25 مارس في مقرّ وزارة التعليم العالي.

اعتصام مفتوح في انتظار قرار المحكمة الإداريّة

مع دخول الإعتصام يومه الرابع، أصدرت وزارة التعليم العالي بلاغين متتالين في 28 مارس 2019، لتتهّم في البلاغ الأوّل الأساتذة الجامعيّين “بإثارة الشغب والفوضى والتأثير على السير العادي للعمل الإداري وتعطيل مصالح المواطنين الوافدين على الإدارة المركزية”، إضافة إلى تحميل الطرف النقابي مسؤوليّة انسداد آفاق الحوار. أمّا البلاغ الثاني، فأكّدت فيه الوزارة إصرارها على “تطبيق القانون بإيقاف صرف الأجور المترتب عن معاينة عمل غير منجز” وبالتالي استمرار تجميد أجور الأساتذة الجامعيّين الذّين يرتهنون الطلبة بحسب نفس البيان، داعية إيّاهم إلى العودة إلى طاولة الحوار دون شروط مسبقة.

من ساحة الاعتصام، وعلى لسان المنسق العام الوطني لاتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين التونسيين، أكّد نجم الدين جويدة لنواة : ” لقد قاموا بإغلاق الأبواب أمامنا وتركونا نقضي ليلتنا الأولى في العراء وفي ظروف قاسية”. وحول امكانيّة العودة إلى المفاوضات؛ فقد بيّن المنسّق العام الوطني لإجابة أنّ التفاوض غير مطروح في ظلّ استمرار قرار تجميد أجور الأساتذة معتبرا هذا القرار غير قانونيّ والهدف منه ترهيب المحتجيّن وثنيهم عن مواصلة تحرّكاتهم الاحتجاجيّة. ليضيف؛ ” لقد قمنا برفع قضية استعجالية من اجل إيقاف قرار تجميد الأجور لدى المحكمة الإداريّة إضافة إلى  قضية ثانية من أجل تجاوز السلطة ضدّ كل من وزير التعليم العالي سليم خلبوص ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، وإن لم يتمّ إنصافنا فسيكون المرور إلى سنة بيضاء أمرا واردا.” أمّا عن مطالب الإعتصام؛ فيوضّح الأستاذ نجم الدين جويدة قائلا؛ “مطالبنا تنقسم إلى صنفين. الأوّل يتعلّق بتفعيل اتّفاق 7 جوان 2018، أمّا المستوى الثاني فيشمل وضعية التعليم العالي والجامعة العموميّة.” ليؤكّد؛ “تحرّكاتنا لا تقتصر على معالجة الوضعيّة الماديّة والمهنيّة للأساتذة الجامعيّين فحسب، بل نحن نحاول الدفاع عن مستقبل الجامعة التونسيّة العموميّة التّي تستهدفها سياسات الوزارة والحكومة ككلّ.”

تهميش الجامعة العموميّة لحساب القطاع الخاصّ

تصدّر مطلب إصلاح التعليم العالي العمومي مطالب التحرّك الأخير لإتحاد الأساتذة الجامعيّين الباحثين، الذّين نبّهوا في بياناتهم وتصريحاتهم إلى مستقبل غمض يلفّ الجامعة العموميّة التّي يُراد تهميشها لحساب القطاع الخاص المحلّي والأجنبيّ. في هذا السياق، لا تشذّ الأرقام الصادرة عن المكتب الإحصائيّ لوزارة التعليم العالي عن تلك التصريحات. حيث لم يتجاوز نصيب وزارة التعليم العالي من ميزانيّة الدولة 4.1% سنة 2018 بقيمة جملية لم تتجاوز 1481 مليون دينار، لم يُخصّص منها سوى 9.1% لنفقات التنمية والتطوير حسب ميزانية الوزارة لنفس السنة والتّي لم تتطوّر مقارنة بسنة 2017 سوى ب3.4%. أمّا على مستوى الإنفاق العام من الناتج المحلّي الخام، فلم تنل وزارة التعليم العالي سوى 1.48%. تدنّي الإنفاق الحكومي على مؤسسات التعليم العالي العموميّة يتجلّى بشكل أوضح في الموارد المخصّصة للبحث العلمي، والتّي لا تتجاوز 4.02%، إضافة إلى تجميد الإنتدابات منذ سنة 2015 صلب هذه الوزارة ليصل عدد العاطلين عن العمل من حاملي شهادة الدكتوراه نحو 5000 من الجنسين حسب تأكيدات اتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين. في المقابل، إزاء هذه المؤشّرات التّي تعكس حالة التهميش الذّي يعاني منها قطاع التعليم الجامعي العمومي، والبيانات الصادرة عن وزارة الإشراف التّي تشير إلى تراجع عدد الطلبة في الجامعات العمومية بين سنوات 2013 و2018 من 315 ألف طالب إلى 241 ألف طالب خلال الموسم الدراسي الأخير، شهدت الجامعات الخاصّة طفرة على مستوى عدد المؤسّسات التّي تمّ بعثها خلال السنوات الخمس الأخيرة، ليرتفع عددها من 42 إلى 75 مؤسّسة تعليم عالي خاصّة، لتبلغ نسبتها من إجمالي الجامعات 26.2%. تطوّر تزامن مع ارتفاع عدد طلبة القطاع الخاصّ خلال نفس الفترة من 21880 إلى 31177 طالبا بما يمثّل 11.5% من عموم الطلبة. هذا التطوّر الكمّي لمؤسّسات التعليم الخّاصة؛ اقترن بتطوّر حالات الفساد في هذا القطاع حسب ما كشف عنه تقرير دائرة المحاسبات عدد 31 لسنة 2018، والذّي رصد العديد من الإخلالات المتعلّقة بغياب التراخيص اللازمة أو منح شهادات جامعيّة غير مرخّصة أو تجاوز طاقة الاستيعاب إضافة إلى قيام 20% من الجامعات الخاصّة بالترفيع في معاليم التسجيل بنسبة 65% في مخالفة للسقف القانونيّ المُحدّد بـ5 %.

نحو شهادات جامعيّة “كرتونيّة”

التشجيع الرسميّ على خوصصة التعليم العالي، لم يقتصر على المستوى المحليّ، إذ تمّ في 5 مارس الجاري إحالة مشروع القانون المتعلق بتحسين مناخ الأعمال، والذي يقر تسهيلات لتشجيع المؤسسات التونسية والأجنبية على الاستثمار في قطاع التعليم العالي الخاص، على أنظار مجلس نواب الشعب بعد أن صادق عليه المجلس الوزاري في 20 فيفري 2019. ويهدف هذا المشروع إلى إلغاء أحكام الفقرة السّادسة من الفصل الرّابع من القانون عدد 73 لسنة 2000 المتعلّق بالتّعليم العالي الخاص والتّي تنصّ على أنّه “لا يمكن للشّركة الباعثة للمشروع أن تحصل إلّا على ترخيص واحد لإحداث مؤسّسة تعليم عالي وهو ما يعيق عديد الشّركات على إنشاء أقطاب جامعية”. كما يقترح إلغاء أحكام الفقرة الأولى من الفصل الخامس من القانون عدد 73 لسنة 2000 المتعلّق بالتّعليم العالي الخاص باعتبارها تنصّ على عدم إمكانية استثمار المؤسّسة الأجنبيّة في مجال التّعليم العالي الخاص بنسبة تفوق 35%. تنقيحات اعتبرها اتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين على لسان منسّقها العام الوطني نجم الدين جويدة، كارثيّة على مستقبل التعليم الجامعي العموميّ، في ظلّ عدم التكافؤ وانعدام المقدرة التنافسية في الظروف الراهنة لدى المنظومة العمومية للتعليم العالي في مواجهة التعليم الخاص والأجنبي بالخصوص. توجّه علّق عليه الأستاذ نجم الدين جويدة مؤكّدا؛ “الدولة تريد تعليما طبقيّا قائما على ثلاث مستويات؛ تعليم جامعي نخبوي باهظ للطبقات الثريّة والحاكمة في الجامعات الأجنبيّة، تعليم خاصّ محليّ يعتصر ما تبقى من إمكانيات لدى الطبقة الميسّرة، وتعليم عمومي لعامة الشعب بشهادات كرتونيّة تفرّخ أجيالا جديدة من العاطلين عن العمل أو الجهلة.”