لم يكن وقع العمليّتين الإرهابيّتين على عموم النّاس ومختلف الأطياف السياسيّة يوم 27 جوان 2019، بحجم الشخوص الذّي أصاب الجميع بعد تأكيد رئاسة الجمهوريّة في بلاغ مقتضب، نقل الباجي قائد السبسي إلى المستشفى العسكريّ إثر وعكة صحيّة حادّة. خبر تطوّر إلى إشاعة أقرب إلى القناعة لدى النّاس، بأنّ حاكم قرطاج يلفظ أنفاسه الأخيرة. لتبدأ عشرات الأسئلة والتكهّنات حول مآل الرئاسة وسط نذر أزمة دستوريّة تتعلّق بآليّة إعلان شغور منصب الرئيس في ظلّ تعطيل إرساء المحكمة الدستوريّة والتّي كان الباجي قائد السبسي وحلفاؤه في الحكم السبب الرئيسيّ في بقاءها مجرّد حبر على ورق. إلاّ أنّ الأزمة الأخيرة على مستوى سلاسة انتقال السلطة، لم تكن الخطأ الوحيد لرئيس الجمهوريّة، بل حلقة في سلسلة من القرارات والخيارات التّي جعلت الباجي قائد السبسي يجني على نفسه، وعلى البلاد بأسرها.

الوصاية على الإٍرث البورقيبي؛ مفتاح الوصول إلى قرطاج

بعد أكثر من عشرين سنة في من الغياب عن الساحة السياسيّة والإعلاميّة، اعتلى الباجي قائد السبسي المنصّة في أوّل مؤتمر صحفيّ له في 7 مارس 2011، كثاني رئيس حكومة انتقاليّة بعد الثورة. ومنذ الوهلة الأولى، حضرت سيرة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في خطابه لتكون فاتحة الصورة التّي رسّخها لاحقا كوريث شرعيّ وأوحد لما اعتبره الفكر أو المدرسة البورقيبيّة. ومنذ تلك اللحظة لم تغب سيرة “معلّمه الأوّل” عن خطاباته وتصريحاته حتّى اللحظات الأخيرة له في قرطاج. دغدغة الحنين إلى زمن بورقيبة، وإلى ذاكرة منتقاة من تاريخه، كانت الإستثمار المؤجّل للباجي قائد السبسي ومفتاح عودته لاحقا بعد إنتخاب المجلس الوطني التأسيسيّ ووصول الترويكا وعلى رأسها حركة النهضة إلى الحكم بأرجحيّة نيابيّة كبيرة عقب انتخابات أكتوبر 2011. ليخرج هذا الأخير في بداية شهر جوان 2012، معلنا تأسيس حزب نداء تونس الذّي لم يخفي منذ البداية أنّ هدفه سيكون تعديل كفّة الميزان السياسيّ في مواجهة تمدّد الإسلاميّين، مناصبا العداء بشكل مباشر لحركة النهضة ورافعا لواء الدفاع عن “تونس البورقيبيّة” ودولة “الزعيم”.

تتسارع الأحداث لاحقا، وتتقاطع العديد من العوامل الداخلية والخارجية في معركة الحشد ضدّ حكومة الترويكا التّي قبلت في نهاية المطاف الإنسحاب من الحكم تحت ضغط هتافات الجماهير الغاضبة في اعتصام الرحيل في باردو وشبح تكرار السيناريو المصري الذّي انتهى بتدخّل الجيش لإزاحة الإخوان المسلمين في 30 جوان 2014.

يعود الباجي قائد السبسي في 02 نوفمبر 2014، إلى المنستير، ليعلن من أمام ضريح الحبيب بورقيبة انطلاق حملته الانتخابيّة، محاطا بجمع شتات الناقمين على حكم النهضة، والهاربين من وزر حقبة بن عليّ والانتهازيّين الباحثين عن موطئ قدم في حزب وقع منذ لحظة تأسيسه في شرك البطرياركيّة التّي اكتوى بها التونسيّين طيلة 30 سنة بعد الاستقلال. كان الباجي قائد السبسي في تلك اللحظة هو الحزب، وكان ظلّه يحجب جميع الخلافات المؤجلّة إلى حين الوصول إلى قرطاج، والتّي انفجرت تباعا ما إن استوى الرئيس الجديد وراء مكتب الرئاسة.

تمرّد “البورقيبيّين الجدد”

لم تستطع عباءة بورقيبة التّي حملها الباجي قائد السبسي على كتفيه وتدثّر تحتها جمع المحيطين به أن تقف بوجه الأطماع الشخصيّة وصراعات الأجنحة التّي تكوّنت داخل الحزب لوضع اليد على إرثه. لتبدأ منذ سنة 2015 أولى الانشقاقات في هذا التنظيم الذّي تكوّن على عجل ككتلة غير متجانسة فكريا وسياسيّا.ليكون قدوم نجله حافظ قائد السبسي في 08 ماي 2014 مديرا للهياكل الجهويّة نقطة تحوّل فاصلة في مسار الحزب. الحرب التّي بدأت خافتة في أروقة مقرّ نداء تونس في البحيرة 2، سرعان ما انتقلت إلى العلن مع نجاح ابن الرئيس في تصفية خصومه في الهيئة التأسيسيّة وتحجيم أدوارهم على غرار الطيّب البكوش ولزهر العكرمي ومحسن مرزوق الذّي انسلخ معلنا عن تنظيم جديد لتصحيح المسار. ليأتي مؤتمر سوسة في 10 جانفي 2016، والذّي حسم سيطرة حافظ قائد السبسي على دواليب الحزب بدعم من رئيس الحكومة الحاليّ يوسف الشاهد الذّي عيّنه الباجي قائد السبسي شخصيّا على رأس ما عُرف بلجنة 13 لتقريب وجهات النظر ورأب الصدع الذّي نزل بكتلة نداء تونس. تدخّل حمل بصمات مؤسّس الحزب ورغبته في تغليب كفّة ابنه على حساب الباقين وغلق هذا الملّف نهائيّا. إلاّ أنّ ما تصوّره الباجي قائد السبسي خطوة ناجحة من قِبَله لإنهاء الخلافات، أدّى إلى تقلّص عدد نوّاب نداء تونس في مجلس نوّاب الشعب من 86 إلى 58 نائبا ليصبح حزب الأغلبيّة ثاني كتلة نيابيّة بعد حركة النهضة. موجة الاستقالات الجماعيّة التّي تلت مؤتمر سوسة، لن تتوقّف لاحقا، ليشهد حزب نداء تونس طيلة السنوات الثلاث اللاحقة موجة من الإنشقاقات التّي سترتفع وتيرتها مع احتدام الصراع بين رجليْ الرئيس؛ ابنه حافظ قائد السبسي، وما ظنّه ظلّه في القصبة؛ يوسف الشاهد.

رجُلا الرئيس يُطلقان رصاصة الرحمة على حزبه

بعد مؤتمر سوسة، بدا أنّ الباجي قائد السبسي قد اختار رجليْه للمرحلة القادمة. فثبّت نجله على رأس حزب نداء تونس بمساعدة يوسف الشاهد الذّي نال بدوره وزارة الشؤون المحليّة في 25 ماي 2016 كمكافأة على دوره في لجنة 13. إلاّ أنّ رغبة الرئيس في بسط نفوذه على القصبة، وتعزيز سيطرة حزبه وابنه على مقاليد الحكم، دفعت به مدعوما من حركة النهضة إلى الإطاحة برئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد عبر التلويح بسحب الثقة منه وتحميله مسؤولية إخفاق الحكومة في حلّ الملفات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. لتكون وثيقة قرطاج التّي صاغتها رئاسة الجمهوريّة مدخلا لحشد موقف جماعيّ من الأحزاب السياسيّة والمنظّمات الوطنيّة ضدّ رئيس الحكومة الذّي وقف لبرهة ضدّ رغبة الرئيس قبل أن ينصاع تاركا القصبة لساكنها الجديد. ولم يكن يوسف الشاهد سوى الخيار الأمثل للباجي قائد السبسي وهو الذّي كان يعدّه منذ زمن لمثل ذلك اليوم، ولتلك المكافأة التّي استحقّها لولائه وانحيازه لخيارات رئيس الجمهوريّة داخل نداء تونس.

علاقة رجُليْ الرئيس عرفت منحى آخر بعد تولّي الشاهد رئاسة الحكومة في 03 أوت 2016، لتبدأ مرحلة الفتور المتبادل خصوصا بعد أن طالت حرب الشاهد على الفساد عددا من مموّلي نداء تونس وعلى رأسهم رجل الأعمال شفيق جرّاية. خطوة رأى فيها حافظ قائد السبسي إشارات واضحة لانفلات إبن الحزب وتوسّع طموحاته نحو مواقع سياسيّة أكبر. تتدحرج كرة الثلج، ويزداد التنافر بين الرجلين، إلاّ أنّ رئيس الجمهوريّة واصل رهانه على الشاهد خلال أكثر من أزمة على غرار إعتصام الكامور والإحتجاجات الشتويّة في 2017 و2018. دعم توقّف في صيف 2018، مع احتدام الصراع بين نجله والشاهد، وانسلاخ عدد آخر من نوّاب نداء تونس الذّين أعلنوا عن كتلة برلمانيّة جديدة بدا واضحا للجميع أنّها ستكون الحزام السياسيّ المقبل لرئيس الحكومة لينزل عدد نوّاب حزب نجل الرئيس إلى 40 نائبا. خطوة جعلت الباجي قائد السبسي ينقلب على الشاهد في 15 جويليّة 2018 مطالبا إيّاه بالاستقالة أو تجديد الثقة في مجلس نوّاب الشعب .إلاّ أنّ رئيس الحكومة الذّي كسب دعم حركة النهضة لإحباط سيناريو عزله، كان قد حدّد مساره المنفصل بالمضيّ قدما في تأسيس حزبه الجديد تحيا تونس في 27 جانفي 2019 على أنقاض نداء تونس. يسلّم الباجي قائد السبسي بهزيمته إلاّ أنّه لم يغفر للشاهد خطيئة الإستقواء بحركة النهضة ونسف ما تبقّى من حزبه.

التحالف مع النهضة: ندم بعد فوات الأوان

ارتكز الباجي قائد السبسي عند تأسيس حزب نداء تونس على طرح نفسه كبديل لحركة النهضة، وحدّد أنَّ صراعه الأساسيّ معها منذ الإعلان عن تأسيسه. خيار بدأ يتبدّد مع لقاء باريس السريّ في 15 أوت 2013، بين مؤسّس نداء تونس وزعيم حركة النهضة. ليستمرّ الخطاب العدائيّ علنا بين الطرفين إلى حين انتهاء الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة. منذ ذلك التاريخ، انقلبت العلاقة بين الحزبين إلى تحالف وثيق وتأسيس حكومة إئتلافيّة. خيار تمسّك به رئيس الجمهوريّة رغم أنّه كان الإسفين الأوّل الذّي صدع حزب نداء تونس وأفقده مساندة أطراف إقليميّة دعمت رحلة وصوله إلى قرطاج على غرار الإمارات العربيّة المتحّدة. “الخطّان المتوازيان اللذان لا يلتقيان” بحسب الباجي قائد السبسي قبيل انتخابات سنة 2014، ظلّا متطابقين طيلة السنوات الأربع اللاحقة إلى أن استوعب مؤسّس نداء تونس أنّ حركة النهضة قرّرت “الغدر به” والمراهنة على الشاهد وتحصينه من مناورة الرئيس الأخيرة لجرّ رئيس الحكومة إلى مجلس نوّاب الشعب وسحب الثقة منه.

فشل الباجي قائد السبسي في إزاحة فتاه المتمرّد بعد استقواءه بخصمه اللدود، دفعه إلى إعلان “الطلاق” بين الحزبين الحاكمين في 24 سبتمبر 2018. ليُعرب عن ندمه على الدور الذّي لعبه في تلميع صورة النهضة في الخارج ودفاعه في أكثر من مناسبة عن عدم تعارض الديمقراطيّة والحركات الإسلامية بحسب تعبيره. إلاّ أنّ انهاء مرحلة التوافق، لم يعد مجديا بعد أن خرج رئيس الحكومة أقوى من ذي قبل وتفوقت كتلته البرلمانيّة عدديّا على كتلة نداء تونس التّي صارت في المرتبة الثالثة في البرلمان. وفي المقابل، خرجت النهضة من مرحلة التوافق التّي استمات الرئيس في الدفاع عنها، كأقوى حزب في البرلمان بعد أن تفتّت خصمها الأساسيّ، وبحليف شابّ وقويّ قادر على ضمان على استمرارها شريكا أساسيّا في الحكم إلى سنوات أخرى قادمة.

بعد خمس سنوات، وعدى بعض “الانتصارات” المحدودة، على غرار قانون المصالحة، ينهي رئيس الجمهوريّة مسيرته وهو يراقب انهيار كلّ ما حاول تأسيسه في الطريق إلى قصر قرطاج. فبعد خمس سنوات، تشرذم حزبه وتحوّل إلى قوةّ سياسيّة ثانويّة، ويزداد نجله عزلة فيما تبقّى من نداء تونس بعد انشطاره إلى نصفين في مؤتمري الحمامات والمنستير في 06 أفريل 2019. أمّا يوسف الشاهد الذّي خرج من ظلّ الرئيس ودخل القصبة بدعمه، فأذاقه طعم الخسارة وأنهى منظومة التوافق التّي راهن عليها لاستقرار حكمه، بغطاء من حليفه اللدود.