صورة لمالك خميري، 2018

وسط زحمة الأطروحات السياسيّة، وأسطول الخبراء التقليديّين في جميع المجالات الذّي احتلّ وسائل الإعلام المختلفة سنة 2011، ظهر أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد ليدير إليه الرقاب منذ الوهلة الأولى. الكثير ممن تابعوا مداخلته حينها لم يتبقى في أذهانهم سوى صوت اختلفت طبقته، وخطاب منتقى بعناية بالغة وشخصيّة جمحت تماما عن السائد. بعد هذا الظهور وما تركه من إنطباع لدى النّاس، سيكون لقيس سعيّد طيلة السنوات اللاحقة حضور لافت في الشأن السياسيّ، كانت سمته الأبرز الوفاء لإطلالته الأولى بما أثارته في آن واحد من جدل وسخريّة وافتتان.

مُقاطع يراهن على أصوات الناخبين

لم تكن تفصل البلاد عن موعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سوى أيّام، عندما كان أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد يلقي كلمة في 16 أكتوبر 2011 ضمن فعاليات حملة لمقاطعة هذه الانتخابات الذّي اعتبرها في مداخلته التفافا على الثورة و”سطوا على الإرادة الشعبيّة” نفذّته الأحزاب السياسيّة بعد تجاهلها المطالب التّي تمّ تقديمها إلى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بخصوص تنظيم استفتاء شعبيّ حول آلية الاقتراع. الخطاب الذّي دام 16 دقيقة، تضمّن في جزء منه ملامح المشروع السياسيّ لقيس سعيّد القائم على إنشاء مجالس محليّة في المعتمديات ومن ثمّ تصعيد الأعضاء المنتخبين إلى المجالس الجهويّة وأخيرا إلى البرلمان. ضاع صوت أستاذ القانون الدستوري وسط جلبة الانتخابات وتلاشى مشروعه وسط صراعات الاستقطاب الثنائيّ طيلة السنوات الثلاث اللاحقة، ليخرج مرّة أخرى قبل الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة سنة 2014، ويكون وفيّا لموقفه الأوّل حول إفلاس منظومة الأحزاب وعقم آلية الاقتراع الراهنة، داعيا الناخبين مرّة أخرى إلى المقاطعة واستكمال المسار الثوري خارج المنظومة السياسيّة القائمة وآلياتها.

لكن خمس سنوات، بما أنتجته من أزمات على مستوى المشهد السياسيّ وفشل اقتصاديّ للائتلاف الحاكم، وموجة الانشقاقات صلب الأحزاب الحاكمة والمعارضة، غيّرت ربّما من موقف قيس سعيّد وهو يشهد واقعا يؤكّد مقولاته حول فشل منظومة الأحزاب وآلية التمثيل النيابي بشكلها الراهن. قرار أستاذ القانون الدستوري الذّي تفاخر دوما بأنّه لم يصوّت يوما لأحد، بخوض الانتخابات الرئاسيّة القادمة، لم ينبع فقط من إخفاق الآخرين، بل من حاضنة افتراضيّة في مواقع التواصل الإجتماعيّ رفعته إلى مراتب متقدّمة في نتائج سبر الآراء ليحلّ حسب نتائج نوايا التصويت لسيغما كونساي والذّي نشرته جريدة المغرب في 10 جويليّة 2019، في المرتبة الثانيّة، مستحوذا على 20% من أصوات من شملهم سبر الآراء.

رصيد المواقف: جدل وسخريّة وافتتان

أينما حلّ، يبرّر أستاذ القانون الدستوريّ قراره بالتخلّي عن “تعفّفه” عن الانتخابات مستشهدا بالآية 216 من سورة البقرة؛ “كُتب عليكم القتال وهو كُره لكم.” تبرير لا يقلّ إثارة للجدل عن مواقفه السابقة من مختلف الشؤون والأحداث السياسيّة التّي مرّت بها البلاد منذ سنة 2011. فمنذ خروج بن عليّ، صار “للقانونيّين” حضور طاغ في المشهد الإعلاميّ ومع توغّل العمل السياسيّ شيئا فشيئا في التفاصيل التقنيّة القانونيّة، ليكون المثال الأبرز وجود 32 محاميّا ضمن تركيبة مجلس النوّاب الذّي أفرزته الإنتخابات التشريعيّة سنة 2014.

كانت البداية بقصّة الحمار الذّي قد يأكل دستور جانفي 2014، تصريح، اعتبره أنصار حركة النهضة والترويكا الحاكمة وقتها، تهجّما وهجوما صريحا عليهم رغم موقفه “الناعم” سنة 2012 من مسألة التنصيص على الشريعة كمصدر للتشريع في الدستور. حينها، كان قيس سعيّد ما يزال يرى السياسة “ابتلاء” يملك تفاديه وهو الغائب عن أذهان العموم كلاعب محتمل في ساحة الحكم. إلاّ أنّ ظهور اسمه كمرشّح محتمل لرئاسة الحكومة سنة 2014، جعل نجمه يسطع ووسّع من دائرة ارتدادات مواقفه وتصريحاته. فالرجل الذّي نزل من مدارج الجامعة كأستاذ مساعد في القانون الدستوري، إلى المنابر الإعلاميّة وجد نفسه صانعا للنقاش العام واسما يفرض نفسه على قائمات الترشيح للمناصب الوزاريّة. فالقطيعة التّي طالما أعلنها هذا الأخير مع جلّ الأحزاب، تحوّلت في محطّات عديدة إلى تقاطعات في المواقف، خصوصا مع حركة النهضة التّي وجدت في صوته ورأيه دعامة من خارج الحزب لمواقف تتحرّج من إعلانها من داخل حلقتها السياسيّة، على غرار قضيّة المساواة في الإرث. إذ بقدر ما أثاره موقف قيس سعيّد حول هذا الملّف من سخط لدى فئة من التونسيّين، بقدر ما خلق حوله حالة من الافتتان لدى فئة أخرى لم تجد في الطيف السياسيّ من يملك جرأته للتعبير عن رأيهم وليكون صوتهم المسموع. يواصل صوت سعيّد في إدارة الرقاب مرّة تلو الأخرى، بعد أن صارت وسائل الإعلام تقتنص تصريحاته، وتسعى وراء حوارات وإياه، ليخلّف بعد كلّ ظهور إعلاميّ موجة جديدة من الافتتان وأنصارا جددا يقرّبون خطواته شيئا فشيئا من قرطاج ويساندونه في قتاله المكروه. أمّا من بعيد، فترقبه أعين الأحزاب كلّ من موقعها، فمنهم من يراه انفلاتا قد يهدّد حدود العمليّة السياسيّة وهو الذّي أعلنها صراحة بمقته لمنظومة المحاصصة الحزبيّة، ومنهم من يرى فيه “العصفور النادر” الجديد.

ولكنّ الأكيد، أنّ قيس سعيّد وهو يجهّز نفسه للدورة الثانية من “واقعة” الانتخابات الرئاسيّة قد وجد تذكرته المناسبة، لا لركوب قطار السياسة في تونس، بل للتوجّه رأسا إلى القاطرة معوّلا على أصوات الناخبين الذّين طالما دعاهم إلى هجر العمليّة الانتخابية، وخالقا حالة من الجدل في الوسط السياسيّ بعد أن استطاع أن يزيح مرشّحين تقف خلفهم حواضن حزبيّة ووسائل إعلاميّة وخزائن بعض رجال الأعمال.