مسيرة راشد الغنوشي نحو رئاسة البرلمان لم تبدأ مع الفترة الانتخابية، بل انطلقت منذ المؤتمر العاشر للحركة في ماي2016، حيث أكد مؤيدوه داخل الحركة على وجوبية أن يتوج زعيم الحركة التاريخي مسيرته السياسية بمنصب بارز في الدولة خاصة وأنه لن يترشح لرئاسة الحركة في المؤتمر القادم، وكان الحديث آنذاك عن رئاسة الدولة لكن الحركة أدركت صعوبة هذا المنال مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي فأصبحت تطلب رئاسة المجلس النيابي لرئيسها.
مسار توسيع نفوذ الغنوشي
وظهرت الصعوبات أمام تحقيق هذا المنال منذ المؤتمر العاشر للحركة (ماي 2016) والذي شهد اختلافا حادا بين قيادات النهضة بخصوص النظام الداخلي الذي أعطى رئيس الحركة صلاحيات مطلقة في تعيين قيادات النهضة والترشيح للمناصب العليا في الدولة، فقد مرر الغنوشي بصعوبة الفصل الذي يمنحه حق تسمية أعضاء المكتب التنفيذي للحركة رغم المعارضة الشديدة من قيادات التيار المعارض له وأبرز من يمثله عبد الحميد الجلاصي وعبد اللطيف المكي. مخرجات هذا المؤتمر سمحت للغنوشي بتعيين جميع أعضاء المكتب التنفيذي وثلث أعضاء مجلس الشورى مع حق الترشح للمناصب العليا للدولة أو اقتراح شخصيات أخرى عوضا عنه، بالإضافة إلى التدخل في اختيار قائمات الحزب المترشحة للانتخابات التشريعية.
الامتحان الثاني الذي واجهه راشد الغنوشي هو اختيار ممثلي الحركة في الانتخابات التشريعية، حيث أنهت المكاتب الجهوية للحركة اختيار قائماتها التشريعية في جوان 2019 والتي مكنت التيار المناهض (ما يُسمى الشق الثوري في الحركة) للغنوشي من ترؤس غالبية القائمات ترجمة لتوجهات القواعد النهضوية الغاضبة من سياسة الغنوشي والموالين له المعتمدة على المهادنة. لكن الغنوشي غير المعادلة واستغل الفصل 112 من النظام الأساسي للحركة الذي ينص على أنه “يتولى المكتب التنفيذي المصادقة النهائية على القائمات، وللمكتب التنفيذي صلاحية تغيير الترتيب وله استثنائيا إضافة عضو للقائمة وله استثنائيا جدا إضافة رئيس للقائمة”.
وكان المكتب التنفيذي المنعقد بتاريخ 21 جويلية 2019 حاسما في تشكيل القائمات ومخالفا لإرادة الناخبين النهضويين، فقد أُحدث تغييرات جذرية أبرزها ابعاد عبد اللطيف المكي من رئاسة قائمة تونس 1 لفائدة راشد الغنوشي وتعيين يمينة الزغلامي في المركز الثاني رغم فشلها في الانتخابات، بالإضافة إلى ابعاد محمد بن سالم من رئاسة قائمة زغوان وتعيين عبد الكريم الهاروني في قائمة تونس 2 و آمال عزوز التي تم نقلها الى دائرة قابس. كل هذه التغييرات أحدثت حالة من الاحتقان داخل الحركة حيث اعتبرها عبد اللطيف المكي “استغلال المكتب التنفيذي لصلاحياته التي يمنحها القانون الأساسي والشطط في استعمالها من أجل إزاحة بعض القيادات على أساس الموقف والتصنيف السياسي”.
طموحات “الشيخ” ورهانات خلفائه
يهدف راشد الغنوشي من خلال هذه التغييرات، التي كادت أن تحدث انشقاقا داخل النهضة بسبب غضب القيادات البارزة التي ابعدها من رئاسة القائمات الانتخابية، إلى ضمان كتلة برلمانية موالية له في حال توليه رئاسة المجلس النيابي حتى تنفذ سياساته وتوافق على تعييناته في المناصب الحكومية العليا وتضمن له تحالفاته المقبلة وتبقيه في قلب المعادلة السياسية وتبعد عنه شبح العزلة عن الحركة وقراراتها وسياساتها، خاصة وأنه سيبتعد عن رئاسة حركة النهضة منتصف العام المقبل حسب النظام الأساسي للحركة مما سيفقده التأثير على قراراتها.
وسيكون المؤتمر العام القادم لحركة النهضة في ماي أو جوان منتصف العام المقبل (لم يتم تحديده بعد) محطة فارقة في تاريخ الحركة، حيث يفرض الفصل 31 من النظام الأساسي مغادرة راشد الغنوشي لرئاسة الحركة مما سيُذكي تنافسا شرسا بين الموالين للغنوشي والمعارضين له من أجل قيادة الحركة في مرحلة ما بعد الزعيم التاريخي. وربما كان هذا الاستحقاق عاملا اساسيا في تمسك قيادات مثل عبد اللطيف المكي وعبد الحميد الجلاصي ومحمد بن سالم وسمير ديلو وغيرهم بالبقاء داخل العائلة النهضوية وعدم انشقاقهم عنها، حيث يعتبر المؤتمر القادم فرصة سانحة بالنسبة لهم للمنافسة على قيادة النهضة في ظل غياب مرشح من العيار الثقيل كراشد الغنوشي، بالإضافة إلى استغلال حصيلة الحكم الهزيلة لحركة النهضة وتطبيعها مع منظومة الفساد لاستمالة القواعد النهضوية الغاضبة من سياسات المجموعة المحيطة براشد الغنوشي وهو ما ترجمته الانتخابات الداخلية للحركة (انتخابات قائمات التشريعية) والتي رفضها الغنوشي وغيرها جذريا كما جاء في بداية المقال.
في المقابل يسعى الغنوشي إلى “توريث” قيادة النهضة للمجموعة المحيطة به والتي نفذت سياساته طيلة سنوات، فقد دأب منذ انتخابات 2014 إلى تقديم وجوه جديدة غير تلك التي استُهلكت في سنوات حكم الترويكا على غرار زياد العذراي وعماد الحمامي وعماد الخميري وسيدة الونيسي وجعلها الشخصيات “الوزارية” في الحركة تمهيدا لمنحها أدوارا سياسية أكبر في الفترة القادمة مع وجوه تقليدية أخرى على غرار علي العريض ونور الدين البحيري وعبد الكريم الهاروني ونور الدين العرباوي.
مغادرة راشد الغنوشي لحركة النهضة لن تكون نهائية بمغادرته رئاسة الحركة في المؤتمر القادم والمتوقع انعقاده منتصف العام المقبل، ذلك أنه سيكون في واجهة الأحداث رئيسا لمجلس نواب الشعب ومتحكما في الكتلة البرلمانية الأكبر. وأيا تكون نتائج المؤتمر القادم للنهضة فسيبقى للغنوشي دور، بشكل أو بآخر، في تقرير مصير الحركة ضمن ما يشبه الفترة الانتقالية الفاصلة بين رئاسة الزعيم التاريخي والقيادة التي ستخلفه.
مقال ممتاز موضوعي ودون تحامل على أي كان من الموالين والمعارضين للغنوشي وينحت في نفس الوقت شخصية الزعيم التاريخي بعد الثورة مع التركيز على الطموحات السياسية التي لم يتخل عنها أي زعيم سياسي تونسي إلا عنوة كالموت أو الانقلاب والرئسين قبل الثورة أحسن مثال وكذلك الباجي، رحمهم الله جميعا. لكن أملي أن لا يعرف الغنوشي نفس المسير و يعطي أنصار النهضة من الموالين والمعارضين الرجل حقه في الخروج من الحياة السياسية من الباب الكبير.