عند الحديث عن مجموعات الأحباء الألتراس حول العالم عادةً ما يُصنفون على أنهم “مجموعات متطرفة” تمارس العنف ضد قوات الأمن خاصة. يقوم المنتسبون إلى الألتراس بافتعال المشاكل مع أعوان الأمن، إلقاء قوارير في الميدان وأحيانا تبادل العنف مع جماهير الأندية المنافسة، وهو ما يجعل فرقهم عرضة لعقوبات شديدة منها اللعب دون حضور جمهور أو غلق منطقة معينة من المدرجات (الفيراج) لمدة غير محددة باعتبار أنها المجال الحيوي لمجموعات الألتراس.
العنف نتاج تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية
لا يمكن الحديث عن العنف في الملاعب دون العودة إلى كونه ظاهرة مجتمعية تتغذى من عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية أيضا، بل إنه ناتج عن تراكم لجميع هذه العوامل والتي تنتهي بالانفجار في سياقات محددة. وبالعودة إلى المثال التونسي، نجد أن الثورة فتحت المجال أمام تحولات جذرية على المستوى السياسي، خاصة فيما يتعلق باتساع هامش الحرية وظهور فاعلين سياسيين جدد وكسر الحواجز التي كانت تفصل عامة الناس عن الشأن العام. لكن الأمر تجاوز ذلك لتظهر بوادر عنف سياسي على مستوى الخطاب العام في البلاد ظهرت بعده مجموعات متطرفة نفذت عمليات اغتيال ومارست العنف كوسيلة لحسم خلافات سياسية، كما راهن جزء من الطبقة السياسية على خطاب تحريضي عنيف بهدف استقطاب الناخبين وتوسيع قاعدة الأنصار مما ساهم في تطبيع المجتمع مع العنف. هذا بالإضافة إلى الأزمات السياسية المتتالية والصعوبات الاقتصادية التي تترجمها نسب البطالة المرتفعة وتراجع نسب النمو، كل ما سبق ساهم في تنامي الاحتقان الاجتماعي لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة والتي عادة ما تكون المتضرر المباشر من هذه الأزمات.
من جهة أخرى، كان لضعف الدولة وتراجع سيطرتها على الفضاء العام وفقدانها امتياز احتكار العنف الشرعي تأثير مباشر، حيث تأقلم الفضاء العام في تونس مع ظاهرة العنف الذي تمارسه مجموعات أو أفراد. كما ساهمت حالة عدم الاستقرار الاجتماعي وفشل الحركات الاحتجاجية في تعميق الأزمة، حيث فقد المحتجون ثقتهم في قدرة التحركات الاجتماعية السلمية في تحقيق المطالب وفرض تغيير في الواقع، وأصبح العنف أحد وسائل الاحتجاج بهدف تحقيق المطالب.
الشباب حامل لفيروس العنف؟
يمثل الشباب الفئة العمرية الأهم في التركيبة الديمغرافية في تونس، وهي المتضرر المباشر من الأزمات التي سبق ذكرها باعتبار أنها المؤهلة أكثر من غيرها لاستبطان العنف وممارسته. ويُعتبر الشباب الذكور، خاصة من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، المكون الأساسي لمجموعات الألتراس والمصمم الرئيسي لتحركاتها وشعاراتها. كما أنه عامل حاسم في نقل العنف من المجتمع إلى مدرجات الملاعب. وأصبحت المدارج وخاصة “الفيراج” فضاء يجمع عددا كبيرا من الشباب الغاضب في مكان وزمان، وبذلك يتحول المدرج من فضاء رياضي تشجيعي إلى منبر حر للتعبير عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية.
إعادة تصدير العنف من المدارج إلى الشارع
تعبر مجموعات الالتراس عن العنف الكامن في المجتمع والذي يكون نتاجا لظروف معينة في الملاعب، لكن المتغيرات الجديدة تؤكد أن هذه المجموعات لم تعد تمارس العنف ضد قوات الأمن في الملاعب أو ضد جماهير الفرق المنافسة فحسب بل شملت فئات أخرى. في ظل سيطرة الدولة على الفضاء العام وتقهقر الروابط الاجتماعية التقليدية وتراجع دور المدرسة كفضاء تربوي واستقالة المؤسسات الثقافية من دورها في تأطير الشباب، تتعامل هذه المجموعات على أنها تعيش نوعاً من الإقصاء الاجتماعي. لذلك تعمل دائما على إيجاد روابط تعزز لديها الشعور بالانتماء، ويتم التقارب بين الشبان الذين يعانون من مشاكل متشابهة ويحاولون البحث عن رابط يجمعهم، ومن هنا تكونت مجموعات خلقت لديهم إحساسا بالانتماء وعوضتهم عن الإقصاء الاجتماعي حتى لو كان هذا الرابط يتلخص في حب جمعية رياضية وتشجيعها.
ليست الغاية من تكوين مجموعات الأحباء تشجيع الفريق بقدر ما هو خلق إحساس بالانتماء، وإن كان ذلك يحدث بطريقة غير واعية. ولتعزيز هذه الرابطة والتعويض عن شعور لديهم بالإقصاء من الفضاء العام، وجدت مجموعات الأحباء في مدرجات الملاعب فضاء مناسبا لممارسة أنشطتها، وبمعنى أدق فضاء لممارسة سلطتها. إذ تخضع المدرجات في ذلك الحيز الزمني إلى سلطة مجموعات الألتراس أين يمارسون طقوس حبهم لفريقهم، يضعون شروطا وقوانين تضبط دخول مجموعات أخرى من الأحباء أو جماهير عادية إلى مناطق نفوذهم وسيطرتهم. الفيراج بالنسبة لمجموعات الألتراس ليس مجرد فضاء يضم جماهير كرة القدم بقدر ما هو مجال للتعويض عن الإقصاء الذي يعيشه المنتسبون لها في الفضاء العام، مما يجعل الفيراج فضاء يقسم إلى مجالات محددة كل منها تسيطر عليه مجموعة. ويمكن لأي محاولة ولوج لهذا الفضاء أن تكون مبرراً للعنف والصدام. وباعتبار أن اللغة المنتشرة في الذهنية الجماعية هي العنف فلن يتخذ ردهم إلا شكلا عنيفاً، فالأمر ليس شجارا حول تشجيع الفريق بقدر ما هو تنازع على مجالات فرض السيطرة داخل مدرجات الفريق الواحد. وينتقل هذا العنف إلى خارج المدرجات وأحيانا إلى كيلومترات بعيدا عن الملعب، وذلك في إطار تجسيم العنف المنتشر في المجتمع والذي نقله هذا الشباب إلى الملعب. فالعنف الذي تمارس هاته المجموعات في الشارع ليس صنيعة المدارج، بل هو أنتجه الفضاء العام قبل أن يكون موجودا في الملعب.
إن العنف بارز أكثر في مدرجات الملاعب باعتبار أن الجميع يتابع مباريات كرة القدم وترصده كاميرات الفضائيات المتعددة. ولا يمكن معالجة هذه الظاهرة بغلق المدارج أو أجزاء منها ومعاقبة الفريق، بقدر البحث عن إيجاد حلول للأسباب الكامنة وراء تفاقم هذه الظاهرة.
iThere are no comments
Add yours