يوم الخميس الماضي، استقبل قيس سعيد في قصر قرطاج المرشّح لتولي وزارة الثقافة وليد الزيدي ليخبره أنه يدعم ترشحه لهذه الوزارة. وكان رئيس الحكومة المكلف قد قدّم اسم الزيدي لتولي حقيبة الثقافة ضمن تركيبة الحكومة المقترحة التي عرضها على رئيس الجمهورية، لكن الزيدي كتب بعد يومين فقط، انه يتعفف عن تحمل المسؤولية وانه لا يصلح لغير الجامعة. الأمر الذي سبب حرجا لرئيس الحكومة المكلف وجعله يسارع بالبحث عن بديل قبل أن يتدخل سعيد في تجاوز واضح لصلاحياته التي لا تمنحه، دستوريا، غير التشاور مع رئيس الحكومة حول إسناد حقيبتي الخارجية والدفاع. فهل تراجع قيس سعيد عن دعمه للمشيشي بعد سعيه السطو على صلاحياته وتحويله إلى مجرّد وزير أوّل؟ أم أن طموحاته أبعد من ذلك بكثير؟

ورقة المشيشي

جاء تكليف هشام المشيشي، في ظرف زمني سريع التحرّك، حيث لم يكن يدور بخلد أي تونسي، قبل الحوار التلفزي بقناة التاسعة يوم 14 جوان الماضي أن حكومة إلياس الفخفاخ التي تولت مقاليد الحكم في وضع وطني ودولي صعب، وتجاوزت الموجة الأولى لأزمة كورونا بنجاح، ستسقط ويستقيل رئيسها بعد أيام. لتطرح على الرئيس إعادة خلط الأوراق واختيار المشيشي باعتباره الشخصية الأقدر.

في الحقيقة لم يكن المشيشي سوى ورقة من ضمن أوراق قيس سعيد، الذي التجأ في اللحظات الأخيرة إلى إقناع الفخفاخ بالاستقالة، عوض مواجهة سحب الثقة، والمحافظة بذلك على حق رئاسة الجمهورية في اختيار الشخصية الأقدر على تشكيل الحكومة. ومنذ البداية كانت فكرة سعيد التي أقنع بها المشيشي حكومة كفاءات غير متحزّبة تقصي حركة النهضة وقلب تونس والدستوري الحر وائتلاف الكرامة، وتمثل فيها أحزاب التيار وحركة الشعب وتحيا تونس وكتلة الإصلاح من خلال اقتراح شخصيات مستقلة، وهو مقترح رفضه منذ البداية التيار الديمقراطي الذي تمسّك بمبدأ ترميم حكومة الفخفاخ. وقد كان أول تصادم بين سعيد والمشيشي في محاولة هذا الأخير اعتماد مبدأ الشخصيات المستقلة على كل الأحزاب. وعلى الرغم من أن المشيشي رضخ في النهاية لإرادة قيس سعيد في اختيار أغلب الوزراء، إلا أن رسائل سعيد لقطاف حكومة المشيشي قبل إيناعها كانت واضحة.

ويبدو أن لعبة الأوراق ولعبة لي الذراع والتكتيكات التي انشغلت بها الطبقة السياسية لم تضع في الحسبان أن البلاد تعيش أزمة اقتصادية حادة، واقع ازداد تعقيداً مع عودة أزمة كورونا وبوادر احتقان اجتماعي، كل ذلك في مناخ من اليأس والإحباط الاجتماعي وتراجع الثقة في الأحزاب السياسية وفي مؤسسات الدولة.

لعبة الأوراق هذه دخلت في طور من العبث السياسي، يستعصى عن أي تحليل منطقي، فرئيس الجمهورية قيس سعيد الذي استمات في الدفاع عن تعيين هشام المشيشي، ورفض تشريك أي طرف في اختيار رئيس الحكومة، انقلب عليه في أوّل مناسبة سانحة داعياً إلى إسقاطه لتدخل البلاد في ذلك في مرحلة من الشك مفتوحة على كل السيناريوهات، موجهاً رسالة سلبية لأي شخصية محترمة في المستقبل بأن الترشح لمنصب وزاري هو مجرد خضوع لألعاب السياسيين ونزواتهم. وحركة النهضة التي عملت بأقصى إمكانياتها للتخلص من حكومة الفخفاخ، في وضع وطني ودولي صعب، هاهي تجلس حول الطاولة لمناشقة ترميمها وإعادتها إلى الحياة، لكن ماذا يريد رئيس الجمهورية من وراء لعبة خلط الأوراق؟

لقاء رئيس الجمهورية بممثلي عدد من الأحزاب والكتل البرلمانية. قرطاج، الإثنين 31 أوت 2020.

تفويت فرصة للإصلاح

في سياق الأزمة الحكومية المتعلقة بقضية تضارب المصالح التي لاحقت رئيس الحكومة المستقيل، والأزمة التي عصفت بالبرلمان وعطّلت أشغاله ووصلت إلى حد التصويت على سحب الثقة من رئيسه، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، كل يُنتظر من قيس سعيد أن يستعمل سلطته المعنوية كرئيس للبلاد وأن يستغل ثقة التونسيين فيه وفي مؤسسة الرئاسة  لجمع شمل التونسيين باختلاف مشاربهم السياسية، من أجل حوار حقيقي يمكن أن يقود إلى اتفاق وطني يخرج البلاد من أزمتها. وذلك بوضع خارطة طريق هدفها الأساسي وقف النزيف الحاد الذي تمر به البلاد والاتفاق حول حكومة إنقاذ، وفي الأثناء تلتزم كل الأطراف باستكمال الإصلاحات الدستورية، على غرا ر تشكيل الهيئات والمحكمة الدستورية بعيدا عن المحاصصة الحزبية، فضلا عن استكمال إصلاح القوانين وخاصة القانون الانتخابي.

لكن الرئيس فوّت الفرصة وما حدث هو العكس تماما حيث واصل قيس سعيد وكأنه في حملة انتخابية سابقة لأوانها، يتصرف باعتباره أولا أستاذ الجامعة الذي يلقي محاضرات، دون انتظار رجع صدى أفكاره التي يدرّسها وثانيا باعتباره المرشح لرئاسة الجمهورية. فهو نادرا ما يتواصل مع الأحزاب السياسية ومع المنظمات الوطنية في ظرف تعيش فيه البلاد أزمة قد تعصف بوحدتها وسيادتها، وهو لا يعطي بالا لتعطّل الإصلاحات الدستورية، ولا يبذل جهدا من أجل الدفع بعملية ملائمة التشريعات مع أحكام الدستور وروحه، لدعم منظومة الحقوق والحريات.

على الرغم من أن نتائج سبر الآراء تعطي سعيد أسبقية على كل خصومه في نوايا التصويت، وهو يحسن جيدا، إلى حد الآن، استعمال أوراقه ويمسك جيدا بشعلة السلطة، لكن شعلة السلطة غير شعلة الديمقراطية، فالتجربة الديمقراطية الهشة تواجه تحديات حقيقية قد تعصف بها في ظل الأزمة الخانقة وتعطل الإصلاحات الدستورية، وخاصة في ظل نجاح أحزاب المال والفساد في جر الفاعلين السياسيين الذين كانوا أمل هذه التجربة الديمقراطية إلى مربع لعبة الأوراق.