المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لا يمكن الاكتفاء بمشاهدة أفلام تاركوفسكي دون قراءة كتابه “النحت في الزمن”. إن عنوان الكتاب يشي لوحده بشاعرية المخرج التي لا تخطئها عين. أما بالنسبة للمحتوى، فيبوح فيه تاركوفسكي بتعليقاته عن سبعة من أفلامه، عن علاقته بالاتحاد السوفياتي، عن أعماله وحياته، وعلى نصيب هام من الشعر، شعر أبيه، الشاعر الروسي أرسيني تاركوفسكي. الخوض في غمار أفلام تاركوفسكي يتطلب بداية فهم علاقة المخرج الروسي بالشعر أوّلا، وبالفلسفة ثانيا، من خلال كتابه هذا ومن خلال  يومياته كذلك.

تاركوفسكي السينمائي الشاعر

أنا شمعة. احترقت في العيد.

اجمع الشمع عند وصول الصباح

حتى تذكرك هذه الصفحة

كيف تكون فخوراً وكيف تبكي

أرسيني تاركوفسكي (شاعر وأب المخرج أندري)

يذكر أندريه تاركوفسكي والده كثيرا في مذكراته، كما يحتوي كتابه “النحت في الزمن” على عدد من قصائد والده. علاقة تاركوفسكي المخرج بتاركوفسكي الشاعر هي علاقة فاترة عنوانها الأبرز “الغياب”. حيث يشتكي تاركوفسكي من علاقته بوالده. في 12 سبتمبر 1970، يكتب اندريه قائلا:

لم أرى والدي منذ فترة طويلة. كلّما طالت فترة غيابي عنه، كلما صار الأمر محزنا وكئيبا بالنسبة إليه… من الواضح لديّ أنني أعاني من عقدة تجاه والدي، لا أشعر أنني راشد عندما أكون حوله، ولا أعتقد أنه يعتبرني كذلك… أنا أحبّه، لكنني لا أشعر بالراحة معه، ولا أشعر أنني ندّ له.

مذكرات أندريه مليئة بمقاطع تتحدث على تطور علاقته بوالده، ولعلّ هذه العلاقة كانت سببا في اهتمام تاركوفسكي بالشعر ودراسته له، حيث أنه درس الشعر بلغات عديدة، منها العربية. وبينما تخصص تاركوفسكي الأب في الشعر والنظم، فإنّ اندريه اهتم أكثر بالسينما الشاعرية، ومثلما يكوّن الشاعر قصيده بالأبيات والأسطر، يبني تاركوفسكي أفلامه في شكل قصائد، ينوب فيها المشهد السينمائي عن البيت الشعري.

قصائد أرسيني تاركوفسكي حاضرة بقوة في أفلام أندريه، حيث نجد مثلا اقتباس لقصيدة “اليوم السعيد” (اليوم الأبيض بالروسية 1942) في فيلم “المرآة” (1975)، مع ثلاثة قصائد أخرى لوالده، في نفس الفيلم. أفلام تاركوفسكي لا تخلو من تأثّر واضح بعلاقته مع أبيه وعلاقته مع الشعر، لكنّها تتميّز أيضا بتأثر فكري واضح بالفيلسوف الروسي نيكولا برداييف.

تاركوفسكي الفيلسوف

بالإضافة إلى ذكر برادييف في مذكراته، يمكننا ملاحظة تأثر تاركوفسي بهذا الفيلسوف في أعماله. يشترك الاثنان في مفهوم “الشّخص”، حيث يتأثر تاركوفسكي بالشخصانية الروسية التي كانت رائجة في القرن التاسع عشر. يتمّيز مفهوم الشخصانية بالتمييز بين الفرد والشخص، وبينما تعتبر الوجودية الأوروبية أن الإنسان هو فرد يعيش في تكامل وتأثّر ببيئته ومحيطه الاجتماعي المادي البيولوجي، تتجاوز الشخصانية الروسية هذا المفهوم وتعتبر أن الفرد له بعد آخر يجعله يعيش في اغتراب عن هذه البيئة وفي انفصال عنها. وهكذا تميّز الشخصانية الروسية بين ما هو فرد أي الجزء الذي يعيش داخل المجتمع، وبين ما هو شخص أي الجزء المنفصل عن المجتمع والمغترب عنه.

يكتب برداييف قائلا :

عندما يدخل الشخص المتفرد وغير المتكرر إلى العالم، تتحطم عملية العالم وتضطر هذه العملية إلى تغيير مسارها.

إذ يعتبر برداييف أن وجود الفرد داخل المجتمع هو في تضاد وصراع مع وجود شخصه المنفصل عنه، ويعتبر أن الشخص هو البعد الأخلاقي للإنسان، الذي يكون في صراع مع البعد الاجتماعي له، الذي هو الفرد. هنا يظهر تأثر تاركوفسكي ببرادييف في نقطتين كبيرتين : أوّلا، أفلام تاركوفسكي تتمحور أساسا حول الصراع الداخلي بين الفرد والشخص، أي بين الشخص و العالم، مثل شخصية الضابط في “طفولة ايفان”، حيث يموت ايفان و كل من لا يملك استقلالية عن بيئته (أي الحرب) وينجو الضابط وحده لأنه بقي غريبا عن تلك البيئة. ويتكرر الأمر في فيلم “اندريه روبليف” حيث ينتقل تاركوفسكي من “فقدان الشخص” في فيلم طفولة إيفان، إلى البحث عن الشخص في اندريه روبليف. ثانيا، بما أن الشخص هو البعد الأخلاقي للإنسان، فإن ذلك جعل تاركوفسكي يهتم بالأخلاق ودعائمها وأسباب وجودها.

وإن كان أندريه، في ظاهره، يعتنق الأخلاق المسيحية بما تحمله من مفهوم الانعتاق والتكفير عن الذنوب بالألم (“سولاريس” و “المرآة”)، إلا أنه في الواقع لا يحمّل أفلامه بعدا دينيا بقدر ما يحمّلها بعدا روحيا. تبقى أفلام تاركوفسكي محمّلة بفكرة تسامي الشخص عن محيطه، حيث يصل إلى خلاصة مفادها أن تسامي الشخص حد الاكتمال يعني الموت، مثلما حدث في فيلم “الحنين”.