كنا نحرق المسافات حتى نصل في الوقت المناسب لنغطي مسيرة الفلاحين الصغار وأهالي معتمدية ملولش وقرية أولاد جاب الله والقرى المجاورة لها المتضررة من قرارات رفع أسعار الأسمدة وعدم توفر كميات كافية منها لتغطية حاجيات الفلاحين من الأعلاف. كان ذلك يوم الأربعاء 17 فيفري، حين طفح كيلهم بعد أسابيع من الاحتجاج.

منذ وصولنا للكيلومتر صفر بمدخل قرية أولاد جاب الله والتعريف بهويتنا كصحفيين حتى انهمرت علينا شكاوى الأهالي كالشتاء وبدا الغضب واضحا في أصواتهم وعيونهم وحركاتهم. الجملة المشتركة التي سمعناها أينما حللنا في ملولش وأولا جاب الله وكل من يعترضنا في الطريق الرابط بينهما “لا نريد شيئا من الدولة، لا شغل ولا أي شيء، نريدهم أن يتركونا في حالنا فقط، ويهنيو علينا”.

الكثير من الاتصالات والتنسيق على الطريق حتى عرفنا وجهتنا ووجدنا من يدلنا على هذه القرية المنسية. فما عدى مستوصف شبه مهجور ومقهى أو اثنان، لا يوجد شيء من معالم الدولة سوى الطريق المهلل الذي يعود حسب أهالي المنطقة للثمانينات من القرن الماضي، وهو الوحيد الذي يلتقي فيه شباب القرية لتبادل الأخبار وقضاء بعض الوقت مثلما بيّن لنا سالم بن جدو، متخرج صاحب ماجيستار في المالية، أسس مشروعا فلاحيا يقوم على تربية الأبقار والماشية. لكن الدولة أبت إلا أن تضيق عليهم “وأقدمت على نسق متسارع من الزيادات في أسعار الأعلاف منذ منتصف سنة 2020 حيث ارتفع سعر كيس العلف من 37 دينار ليصل لــ 54.5” بحسب محدثنا الذي قال كذلك “لم نعد نبحث عن الربح بل نطالب بمجرد الحفاظ على رأسمالنا فقط، وهذا لوحده سبب كاف ليدفع الشباب للحرقة التي أصبحت معروفة بها ملولش بسبب التضييقات الممارسة على الفلاح الصغير الذي لم يتركوا له خيارات أخرى”.

مسيرة وتصعيد في ملولش

وصلنا لمعتمدية ملولش ونحن في سباق مع الزمن حتى لا تفوتنا تحركات الأهالي هنالك، كانت المسيرة توشك أن تنطلق من أمام المعتمدية لتجوب شوارع المدينة كلها، اختلطت الأصوات والحناجر بالشعارات التي رافقت المسيرة التي وصلت لمركز الحرس الموجود في طرف المدينة قبل أن تعود أعقابها لنقطة الانطلاق والتجمع أمام مقر المعتمدية.

“يا مواطن يا مقموع زاد الفقر زاد الجوع”

“بارونات بارونات.. ثورة الفلاح بدات”

“اتحاد الفلاحين.. اتحاد الفاسدين”

“صف واحد في النضال تلامذة وطلبه وعمال”

“يسقط قمع البوليس يسقط جلاد الشعب”

كانت هذه أهم الشعارات التي رفعها المتظاهرون في المسيرة السلمية التي نظمها أهالي ملولش بتضامن وتنسيق مع أهالي أولاد جاب الله الذين أطلقوا الشرارة الأولى لما أصروا على تسميته “بداية ثورة الفلاح الصغير”. المسيرة حضر فيها فلاحون وشباب وكبار في السن وتلاميذ وطلبة وناشطين في المجتمع المدني، الكل عبر عن تضامنه مع مطالب الفلاحين إلى أن جفت الحناجر وابتلت الوجوه بالعرق في يوم شتاء قائظ من حرارة التحركات والاحتجاجات.

لطفي الحاج حسين، فلاح وناشط في المجتمع المدني في مدينة ملولش، قال لنا “صحيح أن التحركات الاحتجاجية بدأت في قرية أولاد جاب الله وامتدت للقرى المجاورة لتتوسع في معتمدية ملولش. لكنها انتشرت كذلك في مناطق أخرى من الجمهورية من بينها صفاقس وقفصة وسيدي بوزيد وسيدي علي بلعون وقبلاط من ولاية باجة وغيرها من مدن وأرياف البلاد”. وعن مشكلتهم مع الأعلاف، أوضح قائلا “لدينا إشكالية في تزويد الفلاح بمادة السداري والشعير. ملولش كلها تحصل فقط على نصف الكمية المخصصة لها”. وبالنسبة للمطالب التي خرجوا للاحتجاج من أجلها، قال “مطالبنا هي تخفيض أسعار الأعلاف المركبة والأسمدة وتزويدنا بكميات كافية منها، لأن أسعارها مرتفعة جدا ولا تصل بكميات مناسبة”.

وتابع “الدورة الاقتصادية في ملولش وأولاد جاب الله كلها تقوم على الفلاحة، وإذا لم يشتغل الفلاح المدان ولم ينتج الحليب واللحوم ولديه ديون فإن العطار لن يخلص هو الآخر في ديونه والجزار كذلك وتاجر مواد البناء كذلك…”.

لم نكد ننهي حديثنا مع لطفي الحاج حتى قاطعنا رابح : “السداري والشعير لوحدهما لا يساعدان البقرة على إنتاج الحليب، العلف الرئيسي المدر للحليب عند البقرة هو العلف المركب إلي زادت أسعاره ثلاث مرات في 15 جانفي و05 و15 فيفري، حتى مادة القرط عرفت زيادة كبيرة من 05 دينارت وأًصبح بـ 10.5 دينار في يوم وليلة ليصل سعره 15 دينار في حين لتر الحليب بقي بنفس السعر 1080 مليم”، وأضاف “ماعادش قادرين على الأعلاف المركبة وصرنا نعطي الحلفاء علفا للأبقار بدل من أن نصنع بها الحبال”.

مع اقتراب الساعة من منتصف النهار، اشتدّت حرارة الشمس واختلط وهجها بوهج الأجساد الثائرة، وامتزجت ألوان المتظاهرين بألوان قوارير الغاز في الشاحنات المارة بالطريق. كان مسار المظاهرة طويلا بعض الشيء، وكانت كل نقطة تتوقف فيها المسيرة فرصة لمركزة الشعارات من جديد والتفاعل مع أهالي المدينة الذين عبروا كل بطريقته على تبنيه لمطالب المحتجين.

معطيات اجتماعية واقتصادية

أغلبية متساكني المدينة الذين التقيناهم يومها أكدوا لنا أن ملولش تعتبر المدينة المركز للأرياف والقرى المحيطة بها، لا يوجد فيها فرع بنكي واحد ولا بنية تحتية رياضة محترمة ما عدى ملعب بلدي، وحتى الفرع البريدي لم يمر عليه سنوات منذ انشائه، فقط اقتصاد بدائي قائم على غراسة الزيتون وتربية الماشية وإنتاج الحليب واللحوم.

ويبلغ عدد سكان بلدية ملولش 7500 ساكن، يمثل هذا الرقم تقريبا ثلث سكان المعتمدية الذي يبلغ 22000 ساكن، بنسبة نمو ديمغرافي 2,33%. 50% من مجموع السكان تتراوح أعمارهم بين 20 و50 سنة.

تعتبر ملولش بلدية ذات طابع فلاحي حيث يصنف نشاط السكان كالآتي

حاولنا الوصول للمعتمد أو أحد المسؤولين لكن باب المعتمدية كان مغلقا، ونفس الشيء بالنسبة لاتحاد الفلاحين الذي توقفت عنده المسيرة، هو الآخر كان مغلقا ولم يظهر أي عضو من أعضائه. بالرغم من أن الفلاحين الصغار يعتبرونه مشاركا في المسؤولية عما وصل له الفلاح الصغير من ضعف وخسارة، يقول رابح “اتحاد الفلاحين لم يقم بدوره في الأزمة، ولم يكن في خدمة الفلاحين الصغار”.

العودة إلى مهد الاحتجاجات

بعد انفضاض المسيرة، عدنا على أعقابنا إلى قرية أولاد جاب الله. كانت أشجار الزيتون منتشرة على امتداد الأراضي الفلاحية. الطريق يضيق كلما اقتربنا من ريف أولاد جاب الله، وتتكاثر الحفر. وبعد أكثر من ست ساعات من السفر والطريق والالتقاء بالمحتجين ومرافقة المسيرة في ملولش وكل الصخب والانفعالات، أرشدنا مرافقنا بسّام، من أبناء المنطقة، على مقهى قريب من تقاطع طرقات للاستراحة والتحضير لجولة ثانية من اللقاءات مع الأهالي.

“نحن أربعة اخوة في العائلة، كلنا متخرجون ولدينا شهائد عليا، لم نحصل على شغل ولو لفرد واحد منا، رغم مطالبنا الكثيرة. اتجهنا للفلاحة حتى لا نبقى بلا مورد، لكن الدولة الغائبة وبارونات الأعلاف مصرون على تدميرنا، يريدون أن يقطعوا عنا الأمل حتى وإن كان خيطا رفيعا”، هكذا عبّر الشاب أيمن، مسير المقهى.

انطلقنا إثر ذلك نحو حضائر الأبقار والأغنام، كانت الطرق الفرعية المؤدية إليها متكسرة ومتعرجة. أشجار الزيتون في كل مكان، والقليل من البيوت مبعثرة هنا وهنالك، وكل بيت مرفقة به حظيرة. جميع مربي الحيوانات هناك يشتكون من قلة الأعلاف وارتفاع أثمانها “كانت حصتنا من الأعلاف تقدر بـ400 كلغ اليوم لا نحصل سوى على 100 كلغ، وبحكم عملي خارج القرية وتنقلي لا أجد أحيانا حصتنا من الأعلاف، الأزمنة تغيرت، والعمل في الدواجن والأبقار صار مستحيلا بالنسبة للفلاح الصغير”.

غير بعيد عنهم، استقبلنا نسيم بن جدو الناطق الرسمي باسم تنسيقية أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل بملولش، وعضو تنسيقية صغار الفلاحين بأولاد جاب الله، كان في جمع من الأهل وشيوخ القرية. الفلاحون الحاضرون لم يخفوا نقمتهم على شركات الأعلاف التي يحملونها مسؤولية تدمير مشاريعهم وقطع رزقهم.

يقول نسيم شارحا ما حصل في أول يوم من الاعتصام “ذهبنا في البداية للاحتجاج أمام مقر الولاية لكنهم لم يستمعوا إلينا ولم يستقبلونا، عندها نظمنا وقفة احتجاجية على الطريق بما أننا لا نملك فانة بترول مثل الكامور، ثمة العديد من الشاحنات لم تستطع المرور بفعل غلق الطريق كوسيلة ضغط، لكننا لم نفتك شاحنات مثلما تروج بعض القنوات الإعلامية”. وتابع “أول ما اعتصمنا وسط الطريق جاء المعتمد والأمن يريد مفاوضتنا، قلنا لهم نريد مسئولا من الولاية أو الحكومة ممن لديهم سلطة القرار فكانت اجابتهم قصفا مكثفا لمدة ثلاثة أيام كأننا في غزة لقمع احتجاج صغار الفلاحين”.  وأضاف “بعد عدة تحركات وضغط الشارع أجابنا الوالي كالتالي “هنالك أشياء يمكن القيام بها على المستوى الجهوي وأمور أخرى تتعلق بغلاء الأعلاف يتم النقاش حولها بين وزارة التجارة والشركات الأربعة المنتجة والمزودة بالأعلاف”.

“نكسرهم قبل ما يكسروني”

في طريق مغادرتنا لقرية أولاد جاب الله، مررنا بالمقر الرئيسي للاعتصام، المئات من قنابل الغاز المسيل للدموع المنتهية الصلاحية وأعقاب خراطيش الرش تقدر بالمئات أُفرغت بين سيقاننا، كما أن آثار المواجهات بين المحتجين والأمن مبعثرة في كل مكان.

رمضان لسود فلاح من أولاد جاب الله “يريدون تكسير مشروعي، أصبحت مُدانًا بـ10 آلاف دينار بسبب تراجع الأرباح عند بيع الحليب، واضطررت لبيع عجلين ب14 دينار للكغ في حين أن سعره في الأسواق يقارب 30 دينار، وسحب بعض المدخرات لتغطية مصاريف البقرات وسداد جزء من ديوني”. ويضيف وقد غصّ صوته بعبراته “أنا ولد مناضل قاوم الاستعمار لم أطلب شيئا من الدولة ولم تعطيني شيئا كل ما أكسبه بعرق جبيني، واليوم يريدوني تكسيري، أنا نكسرهم قبل ما يكسروني”.

شارف اليوم على الانتهاء، لكن انتفاضة فلاحي أولاد جاب الله لم تنته بعد، ولم تعد محصورة في حدودهم الجغرافية، فجذوة نضالاتهم ضد بارونات الأعلاف ولوبيات توريد اللحوم والحليب انتشرت في العديد من القرى والمدن وفي مناطق مختلفة من البلاد. وحدها الأيام والأسابيع القادمة قادرة على أن تسرد لنا ما إذا كانت احتجاجات أولا جاب الله ستبقى معزولة محليا أم أنها ستتحول لحركة احتجاجية وطنية ذات أبعاد اجتماعية.