الصدمة الثانية التي تلقّتها البلاد في نهاية الأسبوع الماضي عندما أعلن صندوق النقد الدولي أن على تونس أن تخفّض من كلفة الأجور والحد من دعم الطاقة لتقليص العجز المالي، ودعا الصندوق إلى تعزيز الحوكمة وتنفيذ نظم مكافحة الفساد ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعزيز عدالة النظام الجبائي. وجاء في بيان للصندوق، بتاريخ 26 فيفري 2021، أن فاتورة الأجور في القطاع العام في تونس هي من بين أعلى المعدلات في العالم، حيث تبلغ حوالي 17.6٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وكالة موديز للتصنيف الائتماني وصندوق النقد الدولي وجّها رسالة غير مباشرة للحكومة التونسية بأن تفادي الكارثة وتجنّب حالة الإفلاس يقتضي إجراءات استعجالية في مقدّمتها الخروج من الأزمة السياسية الحادة وتحقيق الاستقرار السياسي، الذي سيمكّن من الشروع في الإصلاحات العاجلة.

أنصار النهضة في مسيرتهم نحو شارع بورقيبة على مستوى البنك المركزي بشارع محمد الخامس

لعبة في يد الكبار

البيانات الاقتصادية التي نشرها صندوق النقد الدولي ووكالة موديز، سبق وأن عبّرت عنها بوضوح شديد التمثيليات الديبلوماسية لبلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، التي أكّدت على ضرورة التوصّل إلى استقرار سياسي وتفاهم بين مختلف السلط، واتفاق مع الأطراف الاجتماعية قبل الحديث عن أي دعم. حيث تميزت الفترة الماضية  بالزيارات المكّوكية التي قطعها سفراء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بين القصبة وباردو وقرطاج. فقد التقى راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان سفير الاتحاد الأوروبي ثم سفير الولايات المتحدة الأميركية، والتقى حليفه رئيس الحكومة، هشام المشيشي، بسفير الاتحاد الأوروبي وسفراء الدول السبعة الكبرى، والتقى رئيس الجمهورية قيس سعيّد بدوره سفراء دول الاتحاد الأوروبي. وبدا وكأن الدولة التونسية مقسمة إلى ثلاث مقاطعات وتسير بثلاثة رؤوس، ولعبة بين أيادي الدول الكبرى. في المقابل، أكّدت مواقف هؤلاء السفراء على أن تونس في حاجة إلى أن تساعد نفسها قبل أن تتوجّه بطلب لمساعدة الآخرين، وأن الأولوية في المرحلة الحالية هي إيجاد حل نهائي للأزمة السياسية التي تعيشها البلاد والتي تعمّقت بسبب وباء كورونا.

النهضة تستعرض القوة

ردّ رئيس حركة النهضة على هذه المؤشرات السلبية لم يتأخّر كثيرا، فقد ظهر راشد الغنوشي، يوم السبت الماضي، على شاكلة زعيم طائفة أكثر منه رئيس مؤسسة تشريعية ورئيس حزب سياسي في بلد يصف نفسه بأنه ديمقراطي. ومنذ دخوله إلى تقاطع شارع بورقيبة ومحمد الخامس بالعاصمة وسط تهليل الآلاف من أنصاره، حاول الغنوشي أن يحاكي في الكثير من التفاصيل الزعماء المشارقة ، عندما نزل من سيارته وتوجه للحشود الملتهبة حماسا، ومدّ يده لتقبيلها تبرّكا به. هكذا أراد منظمو الاستعراض تصوير زعيمهم.

وضعت حركة النهضة الإسلامية كل ثقلها وإمكانياتها خلال العرض الذي قامت به يوم السبت الماضي، والى جانب إمكانيات الدولة التي سخّرها رئيس الحكومة هشام المشيشي لحليفه وصاحبة الفضل عليه في توليه لمنصبه، حركة النهضة. فقد تم تسخير إمكانيات استثنائية من حافلات ولوجستيك وأموال لا نعلم مصدرها، حيث أن استجلاب الآلاف من الناس من الجهات في فترة حجر صحي وإجراءات منع التنقل بين المدن، ليس بالأمر الهيّن.

وعلى عكس الإجراءات الصارمة التي اتخذها رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالنيابة يوم 6 فيفري ذكرى اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد، من غلق للمنافذ ومنع المواطنين من المدن والأحياء القريبة من الدخول إلى العاصمة، جنّد المشيشي عشرات الآلاف من أعوان البوليس للعمل كأعوان استقبال لجمهور الغنوشي. وفي الوقت الذي انتهت فيه تظاهرة 06 فيفري بالمئات من الاعتقالات في صفوف الشباب، عمدت قوات الداخلية إلى غض النظر والتساهل مع ميليشيات النهضة التي اعتدت على الصحفيين والصحفيات وتحرشت بهن. وأنهت قوات البوليس يومها بالاعتداء على جرحى الثورة الذين نظموا مسيرة في ذات اليوم، كما تم اعتقال ناشطين معارضين.

رسائل الغنوشي

كان راشد الغنوشي وحزبه يريدون توجيه مجموعة من الرسائل في نفس الوقت، الرسالة الأولى التي وجّهها الغنّوشي هي للأطراف الدولية وأساسا بلدان الخليج العربي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومفادها أنه يمتلك حزبا قويّا رغم ما اعتراه من تصدّعات وتمرّد، وهو قادر على لعب دور هام في المستقبل ويمكن التعويل عليه.

الرسالة الثانية أرادها الغنوشي لقيس سعيد رئيس الجمهورية الذي نزل إلى الشارع والتحم بالناس، لكن مع فارق أن سعيد لم ينفق كل هذه المليارات ولم يسخّر إمكانيات الدولة ولم يسع إلى استعراض للقوة. وقد أراد الغنوشي إبلاغ سعيد انه بإمكانه هو أيضا استعمال الشارع، وأن يذهب أبعد من ذلك بتجييشه ضد من يريد.

الرسالة الثالثة التي وجّهها راشد الغنوشي هي لأنصاره وخصومه وأساسا التجمّعين لدفعهم لمزيد الانخراط في الاستقطاب الثنائي: إسلاميين/دساترة. استقطاب تعود الغنوشي على تحويله في المستقبل إلى توافق.

الرسالة الأخيرة التي وجّهها الغنوشي هي إلى النخب والمثقفين وعموم المواطنين الذين صنّفوه في مختلف عمليات سبر الآراء باعتباره الشخصية السياسية الأسوأ، ومفادها التحدي بأنني الشخصية الأقوى التي تمتلك الحزب الأكبر والأغنى والذي يحرك كل دواليب الدولة ويسخّرها كما يشاء، حتى وإن كانت هذه الدولة في بلد منهك مفقر.