إن عملية رصد وتحليل المحتوى الإعلامي لفيديوهات البث المباشرة التي استعملها كل من سيف الدين مخلوف وعبير موسي منذ حوالي عام وأربعة أشهر، وتحديدا منذ 13 نوفمبر 2019 تاريخ الجلسة الافتتاحية للدورة النيابية الحالية، تجعلنا نخرج بخلاصة مفادها أن خطاب هاتين الشخصيتين شبه خال من الرؤى والبرامج السياسية والاقتصادية، حيث لا نجد حديثا عن مشاكل التشغيل والبطالة والأزمة الصحية وتداعياتها، كما لا نجد نقاشا أو برامجا ولا حتى تعبئة حول قضايا إنسانية أو قضايا الحرّيات. وتخلو هذه الفيديوهات المباشرة في أغلبها من قضايا الاحتجاجات الشبابية التي انطلقت نهاية العام الماضي وما تلاها من إيقافات تعسّفية وتعذيب في الإيقاف وفي السجون اهتزّت لها البلاد بأكملها.

عرض أداء القسم

ومنذ الجلسة الافتتاحية للدورة النيابية الحالية التي انطلقت يوم 13 نوفمبر 2019 بدأت عبير موسي عرضها الفرجوي بالصراخ بعد أن طالبت بنقطة نظام ورفضت أداء القسم، معللة موقفها بتغيب بعض النواب عن مراسم أداء القسم الجماعي، مما يجعله غير دستوري وغير قانوني وبالتالي فإن كل مداولات الجلسة باطلة حسب زعمها. ورفضت عبير موسي وقتها ترديد ” النشيد الوطني” مع زملائها بل وقاطعتهم بالصراخ.

صورة لأحمد زروقي

الحقيقة أن تاريخ عبير موسي السياسي مليء بالعروض الفضائحية والعنف اللفظي والسب والشتم، ومن يعرف عبير موسي داخل قطاع المحاماة زمن نظام بن علي يعرف جيّدا أنها زعيمة ميليشيا التجمع داخل قطاع المحاماة، مكلّفة بمهمّة إفساد اجتماعات الهيئة الوطنية للمحامين وجلساتها العامة. وقتها لم تكن النهضة موجودة كتيار أو حزب سياسي له حضور واضح في المشهد السياسي، والنهضويين أمثال نورالدين البحيري كانوا يتخفون ولا يخوضون معاركا مع السلطة. وقتها لم يكن الإسلاميون هدفا لعبير موسي في عروضها الفضائحية داخل قطاع المحاماة وخارجها، وإنما كان اليسار والقوميين والمستقلين عن السلطة. كانت معارك موسي زمن نظام بن علي مع الشهيد شكري بلعيد وراضية النصراوي وفوزي بن مراد وعبد الرؤوف العيادي والمئات من المحامين الشرفاء. وكان سلاحها العنف اللفظي وأحيانا المادي، والتشويه وطبعا الصراخ وإحداث الفوضى والتهريج.

محامي قضايا الإرهاب

أمّا سيف الدين مخلوف فقد سطع نجمه مع بداية المصادمات بين الدولة والإرهاب منذ 2011. مباشرة بعد قيام الثورة، رفع مخلوف قضية ضد قناة نسمة بسبب عرض فيلم برسيبوليس المتهم بالمس من الذات الإلهية، وقد سبق أيضا وأن رفع ضدها قضية في أوت 2010 بسبب عرض مسلسل يوسف الصدّيق. ومنذ سنة 2012 بداية المصادمات بين الإرهابيين والدولة، برز اسم مخلوف للدفاع عن عديد المتهمين في قضايا إرهابية ولعل أبرزهم الناطق الرسمي باسم أنصار الشريعة سيف الدين الرايس، ثم المتهمين في مدرسة الرقاب وصولا إلى فخري الأندلسي الذي حكم عليه بالإعدام في قطر بسبب عمل إرهابي تمثل في ذبح مواطن صومالي.

وإذا كان الدفاع ركنا أساسيا لأي محاكمة عادلة، وحقا أساسيا لأي متهم مهما كانت قضيته، إلّا أن مخلوف لم يكن محاميا عاديا فهو لا يرافع داخل قاعات المحكمة وحسب، وإنما وبشكل خاص في وسائل الإعلام وبطريقة فضائحية تعتمد الصراخ والسب والشتم في تماه كبير مع ما تقوم به عبير موسي. ففي قضية مدرسة الرقاب مثلا وصل مخلوف حد تهديد وكيل الجمهورية بسيدي بوزيد عندما قال له “كانك راجل ايجا لتونس”. وفي قضية المطار التي جدّت مؤخرا، تحوّل مخلوف على عين المكان وحاول تسفير فتاة تخضع للاستشارة الحدودية S17 بالقوّة.

صورة لأحمد زروقي

سياسيًا، كان مخلوف المدافع الشرس والداعم الأساسي لروابط حماية الثورة (ميليشيات عنيفة مرتبطة بحركة النهضة ولا علاقة لها بالثورة) التي تم حلّها قضائيا لتورّطها في قضايا عنف. وعلّق سيف الدين مخلوف حول مقتل لطفي نقض رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بتطاوين ومنسق حركة نداء تونس سنة 2012 إثر تعنيفه من قبل شرذمة من أنصار رابطة حماية الثورة، بالقول أن ملف اغتيال لطفي نقض مهزلة وأن الضحيّة توفي جرّاء سكتة قلبية بعد أن أعدّ المولوتوف والحجارة والماء الساخن للاعتداء على مسيرة رابطة حماية الثورة في تطاوين ضد الفساد، وأن التقرير الذي يؤكد وفاة نقّض بسبب السحل “مزوّر”. وعلى أنقاض روابط حماية الثورة، أسس مخلوف ائتلاف الكرامة.

في هذا الخضم، بدا راشد الغنوشي عاجزا تماما عن تسيير الجلسات بسبب تشويش عبير موسي على عمله، وفاقدا لاحترام أغلب النواب مما أفقده السلطة المعنوية داخل البرلمان، ففوّض أمر موسي لمخلوف وكتلته، ومن ساعتها بدأ العرض المتواصل من العنف بجميع أشكاله والانحدار الأخلاقي والفوضى، وبدا مجلس النواب كساحة معركة. وصُوِّرت هذه الفوضى باعتبارها معارك سياسية.

صلافة وعنجهية وعربدة

سيف الدين مخلوف كما عبير موسي يخوضان معاركهما بكثير من الجرأة تصل إلى حدّ الصلافة والعنجهية والعربدة في كثير من الأحيان، وقلّ ما تخلو هذه المعارك من عنف واتهامات. من الطبيعي أن مثل هذه المعارك لا يمكن أن تحتضنها وسائل الإعلام التقليدية، فالإعلام التقليدي هو بالأساس فضاء للنقاش والجدال والاختلاف. كما يخضع الإعلام التقليدي للتعديل والتعديل الذاتي. وعلى الرغم من الفوضى هنا وهناك إلا أن الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهايكا) تتدخل في الغالب لتسليط عقوبات أو لفت نظر ضد هذه المؤسسات. وبهذا الشكل، فإن مخلوف وموسي لا تلائمهما وسائل الإعلام التي تضع ضوابطا وأخلاقيات للنقاش العام وترفض الفكر الأحادي والوثوقية المطلقة والعنف.

لذلك يمثل فايسبوك وبثه المباشر فرصة من ذهب لموسي ومخلوف وأمثالهما لبث التحريض والصراخ والعنف وهتك الأعراض ودغدغة مشاعر الغاضبين من الطرفين على دولة عاجزة عن تطبيق القوانين ومعاملة المواطنين على قدم المساواة مهما كانت مواقعهم. إنها الشعبوية باختلاف ألوانها التي تشجّع على ثقافة العنف والبلطجة وأخذ الحقوق أو ما يُعتقد أنها حقوق بالقوة والتشريع لدولة اللّاقانون، دولة الجماعة والعصابة والتطرّف بجميع أشكاله.