أعادت تصريحات عبد الكريم الهاروني موضوع التعويض لضحايا الاستبداد للنقاش من جديد، حيث يندرج صندوق الكرامة ضمن آليات ردّ الاعتبار وجبر الضّرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة والممنهجة، والّتي تفضي إلى المصالحة وضمان عدم تكرار تلك الانتهاكات، في إطار تفعيل مسار العدالة الانتقالية. ويهدف مسار العدالة الانتقاليّة بالأساس إلى كشف حقيقة الانتهاكات ومساءلة المتسبّبين عنها ومحاسبتهم لضمان عدم تكرار تلك الممارسات، بهدف بناء منظومة ديمقراطيّة متكاملة يُنصَف فيها الضّحايا ويُردّ اعتبارهم وتُكرَّس فيها علويّة القانون وتُحفَظ فيها الذاكرة لاستخلاص العبر وتخليد ذكرى الضّحايا. وتُعتبر المصالحة الوطنيّة الشاملة الهدف الأسمى من العدالة الانتقاليّة، الّتي ظلّ عدد من الفاعلين السياسيّين يُشكّك في أهدافها وفي إجراءات تفعيلها إلى اليوم. ويعتبر الإسلاميون، خاصة المنتسبين لحركة النهضة ،  أكبر المنتفعين بهذا الصندوق. كما أن أغلب المناضلين النقابيين واليساريين تعففوا على التعويضات معتبرين تضحياتهم مسألة مبدئية وأخلاقية لا تقتضي جبر ضرر مادي يحمل المجموعة الوطنية عبئاً ثقيلاً في فترة إقتصادية حساسة.

صندوق الكرامة: هل يُثقل كاهل الدّولة؟

تمّ التنصيص على إحداث صندوق الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد بمقتضى قانون المالية لسنة 2013 في فصله 93 الّذي نصّ على إحداث “حساب خاص يطلق عليه اسم “صندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد” يتولى المساهمة في التعويض لضحايا الاستبداد في إطار العدالة الانتقالية، وتُضبط طرق تنظيم الصندوق وتسييره وتمويله بأمر.كما نصّ الفصل 41 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المتعلّق بإرساء العدالة الانتقاليّة وتنظيمها على إحداث “صندوق يطلق عليه صندوق “الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد” تضبط طرق تنظيمه وتسييره وتمويله بأمر”. وفي 28 فيفري 2018، صدر الأمر الحكومي عدد 211 المتعلّق بضبط طرق تنظيم صندوق الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد وتسييره وتمويله.

ووفق الفصل الثاني من الأمر المحدث لهذا الصّندوق، فإنّ مصادر تموليه تتمثّل بالأساس في الأموال المتأتّية من تنفيذ القرارات التحكيميّة الصّلحيّة الصادرة عن هيئة التحكيم والمصالحة المُحدثة صلب هيئة الحقيقة والكرامة، بالإضافة إلى مصادر تمويل أخرى مثل الهبات والتبرّعات. لدى إحداثه، تُساهم الدّولة في تمويل هذا الصّندوق بمبلغ قدره 10 مليون دينار، وفق الفصل الثالث من هذا الأمر الحكومي.

في 9 مارس 2016، تمّ إحداث الهيئة العامّة لشهداء وجرحى الثورة والعمليّات الإرهابيّة لدى رئاسة الحكومة بمقتضى الأمر الحكومي عدد 338 لسنة 2016، وتمّ تعيين عبد الرزّاق الكيلاني على رأسها في 23 أكتوبر 2020، وتمّ تكليفه بتسيير لجنة التصرّف في صندوق الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد، بهدف استكمال مسار العدالة الانتقاليّة إثر انتهاء مدّة عمل هيئة الحقيقة والكرامة في ديسمبر 2018. وفي تصريح له بتاريخ 8 جانفي 2021، أوضح رئيس الهيئة أنّ عدد قرارات جبر الضّرر الصّادرة عن الهيئة تبلغ 29950 قرارا تشمل جبر الضّرر المادّي وجبر الضّرر المعنوي وإصلاح المسار الوظيفي، بقيمة جمليّة تُقدَّر بحوالي 3 مليار دينار. وأُعيد تداول هذا التصريح للتذكير بحجم التعويضات الّتي ستُرصد لفائدة صندوق الكرامة، في الوقت الّذي تعاني فيه البلاد استفحال الأزمة الوبائيّة.

المستفيدون من التعويضات

في 29 ماي 2018، أصدرت هيئة الحقيقة والكرامة قبل نهاية عُهدتها القرار الإطاري العام عدد 11 لسنة  المتعلق بضبط معايير جبر الضرر ورد الاعتبار، الّذي يُحدّد معايير جبر الضّرر المادّي والمعنوي لفائدة ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان المشمولين بالقانون المنظّم للعدالة الانتقالية، خلال الفترة الممتدّة من 1 جويلية 1955 إلى غاية 31 ديسمبر 2013. كما يضبط هذا القرار طرق صرف التّعويضات للضّحايا عبر تحديد عتبة 2000 دينار كوحدة قيس قيمة التّعويض. كما حدّد هذا القرار الأصناف الأربعة المعنيّة بالتّعويضات الماديّة. يتمثّل الصّنف الأوّل في الانتهاكات الّتي تمسّ الحقّ في الحياة مثل القتل العمد أو الموت تحت التّعذيب، وحُدّدت قيمة التّعويضات بقيمة 100% من الوحدة الحسابيّة المُحدّدة بـ2000 دينار. أمّا الصّنف الثاني فيتمثّل في الانتهاكات التّي تمسّ السلامة النّفسيّة والجسديّة، والّتي تتراوح قيمة التّعويضات فيها بين 25 و70%، وتشمل بالخصوص الاغتصاب والتعذيب والعنف الجنسي وكلّ أشكال المعاملة اللاإنسانية. ويشمل الصّنف الثالث الانتهاكات التي تمس من حق الفرد في الحرية والأمن على شخصه وتُمثّل قيمة التّعويض عنها 40%. أمّا الصّنف الرابع والأخير فيشمل الانتهاكات المتعلقة بالحقوق المدنية والاجتماعية مثل الطلاق القسري، بتعويض قدره 15%.

أمّا عن الانتهاكات وطبيعتها، فقد دقّقت فيها هيئة الحقيقة والكرامة خلال عُهدتها وضمّنتها في تقريرها الختامي. وتشمل بالخصوص ارتدادات الصّراع اليوسفي البورقيبي بين 1955 و1963، معركة بنزرت سنة 1961، الملاحقات ضدّ اليسار وضدّ القوميّين وضدّ الإسلاميين، الملاحقات ضدّ النّقابيين في جانفي 1978 وغيرها، أحداث الخبز لسنة 1984، أحداث الحوض المنجمي، أحداث الثّورة من 17 ديسمبر 2010 إلى 14 جانفي 2011 وأحداث ما بعد الثورة إلى حين 31 ديسمبر 2013، تزوير الانتخابات، الفساد المالي وغيرها. (الصفحة 50 من الملخّص التنفيذي لتقرير هيئة الحقيقة والكرامة).

وفي 24 جوان 2020، صدر التقرير الختامي الشامل لهيئة الحقيقة والكرامة بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية. ووفق الفصل 70 من القانون الأساسي المنظّم للعدالة الانتقالية، فإنّ الحكومة ملزمة في أجل سنة من صدور التقرير بـ “إعداد خطة وبرامج عمل لتنفيذ التوصيات والمقترحات التي قدمتها الهيئة وتقدم الخطة والبرنامج إلى المجلس المكلف بالتشريع لمناقشتها”، وهو ما لم يتمّ العمل به إلى الآن، بعد مضيّ أكثر من سنة على صدور التقرير.