تمحورت كل خطابات الرئيس قيس سعيد منذ الأحد 25 جويلية حول ثنائية الإصلاح والمحاسبة: إصلاح الخراب الذي حل بالدولة ومحاسبة من تسبب في ذلك، وهو يقصد هنا التحالف الحكومي الذي تقوده حركة النهضة بمعية شركائها في حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة. إلى حد كتابة هذه الأسطر لم تنطلق خطوات المحاسبة فعليا باستثناء تنفيذ بطاقات جلب وتنفيذ أحكام قضائية في حق بعض النواب (ياسين العياري وماهر زيد وفيصل التبيني ومحمّد العفاس وغيرهم)، وهو ما يضعف حجة المعسكر الداعم لإجراءات الرئيس قيس سعيد باعتبار أنه لم يبدأ فعليا في محاسبة المسؤولين الحقيقيين على تدهور الوضع السياسي الاقتصادي والاجتماعي والصحي من سياسيين ومسؤولين في الدولة ورجال أعمال نافذين يسيطرون على مفاصل الاقتصاد ويستفيدون من منظومة الريع الاقتصادي.
المحاسبة قبل المصالحة
وأمام غياب خطة طريق واضحة للمرحلة المقبلة، وامتناع الرئيس قيس سعيد عن التصريحات الإعلامية مما يزيد من الغموض المحيط بالرئيس وإجراءاته المنتظرة، بدأت أطراف من داخل النهضة بالترويج لإمكانية عودة عمل البرلمان مع انتهاء مهلة الشهر في إطار خطة متكاملة ”لاستعادة الديمقراطية“، وهي في الحقيقة تمهيد لعرض مصالحة بين النهضة والرئيس يتم بمقتضاها عودة البرلمان مع تعهد بالمصادقة على كل ما قرره ـ وسيقرره ـ قيس سعيد وغض النظر عن مسار المحاسبة الذي يتمسك به الرئيس والداعمون له. فقد ركز قيس سعيد في خطاباته على المحاسبة وإنفاذ القانون على الجميع دون استثناء ومحاسبة النواب في القضايا والتتبعات العدلية في حقهم والتي توقفت بموجب الحصانة التي يمنحها الدستور التونسي لنواب الشعب.
وبغض النظر عما ستبوح به الرئاسة في الساعات والأيام القادمة، فإن التراجع وتوزيع الأدوار الذي اعتمدته حركة النهضة منذ تفعيل الفصل 80 يعبر عن مأزق حقيقي تعيشه الحركة التي تجد نفسها لأول مرة خارج السلطة منذ انتخابات أكتوبر 2011، فهي تجند صفحاتها ومدونيها و”النخبة“ المقربة منها في الداخل والخارج للترويج لما تعتبره انقلابا على الشرعية الدستورية، وفي نفس الوقت تبعث برسائل للداخل والخارج وللرئيس قيس سعيد بأنها مستعدة لمراجعات عميقة وشاملة وإعادة ترتيب بيتها الداخلي بفعل ”الصدمة“ التي أحدثها تفعيل الرئيس للإجراءات الاستثنائية حسب ما صرح به المتحدث السابق باسم النهضة عماد الحمامي. بل إن القيادي في النهضة والمعارض لسياسات راشد الغنوشي سمير ديلو أشار بكل وضوح في حوار مع إذاعة شمس أف أم الأربعاء 4 أوت، إلى أخطاء جسيمة ارتكبتها حركته على غرار التسرع في تنحية حكومة إلياس الفخفاخ وهو ما أضر بمصلحة البلاد، بالإضافة إلى المصادقة على قانون المصالحة والإصرار على المصادقة على الوزراء المرفوضين من رئيس الجمهورية في التعديل الوزاري ”المعلق“.
الطريق إلى الفصل 80
الطريق إلى الفصل 80 مر بعديد المراحل والأزمات خاصة بين الرئيس قيس سعيد من جهة ورئيس الحكومة المقال وحليفه راشد الغنوشي من جهة أخرى، وبدأت ملامح هذه الأزمة منذ إطلاق الترويكا البرلمانية (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة) مساعيها لسحب الثقة من حكومة إلياس الفخفاخ وتقديم هذا الأخير استقالته لدى رئيس الجمهورية في 15 جويلية 2020. وبلغت هذه الأزمة مداها عندما استمالت حركة النهضة هشام المشيشي وأبعدته عن رئيس الجمهورية الذي اختاره لتشكيل الحكومة، منذ ذلك التاريخ وصلت الأزمة بين الطرفين إلى نقطة اللاعودة وشحت اللقاءات بين سعيد والغنوشي حتى بلغت قيام وساطات لعقد لقاء بين الرجلين (وساطة لطفي زيتون التي توجت بلقاء جمع رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان في 24 جوان الماضي) بعد انقطاع هذه اللقاءات طيلة ستة أشهر. وساطة لم تنجح في تقريب وجهات النظر بين الرجلين، بل إن قيس سعيد كان يشير في كل خطاباته إلى أن محاسبة الفاسدين و”دويلات الفساد“ التي تتحكم في مصير تونس هي الأولوية القصوى من أجل إنقاذ ما تبقى من الدولة.
وترافقت هذه الفترة مع غضب شعبي واسع بفعل تدهور الوضع الصحي وعدم قدرة الحكومة على توفير مستلزمات صحية على غرار الاكسجين الذي نفد مخزونه في ذروة انتشار فيروس كوفيد 19 وهو ما تسبب في وفاة العشرات من التونسيين، بالإضافة إلى عدم مرافقة الفئات المتضررة من إجراءات الحجر الصحي وغلق الأسواق والمحلات، والتدهور الشامل على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. كل هذا يمر دون تحرك جدي من الحكومة والحزام الداعم لها، بل إن هذا الحزام ظل يخوض معارك سياسوية وحزبية ضيقة داخل البرلمان وخارجه ومارس الابتزاز ضد رئيس الحكومة المعفى هشام المشيشي من أجل التعيينات في الإدارة والولايات والمعتمديات والشركات العمومية، في الوقت الذي ينتظر فيه الشعب شيئا من الجدية في معالجة أزماته الاقتصادية والاجتماعية.
بل إن الحكومة وبدعم من حزامها السياسي تعاملت مع مطالب الشعب بالقوة الأمنية والاعتقالات والتعذيب وضرب حرية التظاهر والتعبير وتحصين مرتكبي هذه الجرائم من الإفلات من العقاب. كل هذه المعطيات تسببت في حالة من الغليان الشعبي ضد الحكومة وحزامها السياسي وخاصة النهضة التي تحملت فاتورة الفشل العام الذي تعيشه البلاد منذ عشر سنوات.
قد تكون إجراءات قيس سعيد الأخيرة قفزة في الهواء أو خطوة غير محسوبة العواقب قد تعيدنا إلى الوراء، وقد تضعنا هذه الاجراءات أيضا أمام خطر الانفراد بالسلطة وإعادة الحكم الفردي المطلق من قبل رئيس الجمهورية، لكن التفاعل الشعبي والسياسي معها أثبت أن الفترة تحتاج إجراءات تعيد ثقة المواطن في الدولة وإعادة الاعتبار للديمقراطية الحقيقية التي تقوم على أساس حماية مصالح الشعب والعدالة للجميع على قدم المساواة وانهاء الإفلات من العقاب وحماية حقوق الانسان والحريات الأساسية، وخاصة توفير الحد الأدنى من الكرامة للمواطنين، وهو ما كان مفقودا في الفترة السابقة.
iThere are no comments
Add yours