في ديسمبر 2019، شهران بعد أدائه قسم توليه منصب رئيس الجمهورية، زار قيس سعيد مقر فيلق القوات العسكرية الخاصة عدد 61 بثكنة الرمادية بمنزل جميل. لم يلق كلمة ذات أهمية، لكنه زرع زيتونة حفر حفرتها بنفسه. وفي شهر جويلية 2020، قام سعيّد بزيارة ثانية إلى مقر فيلق القوات الخاصة في وقت متأخر جدا من الليل، ووقف أمام القيادة العسكرية هناك وقال “القوات العسكرية جاهزة ضد كل من يفكر في التعدي على الدولة أو الشرعية” جاهزون؟” فرد عليه عميد بالفيلق “أي نعم سيدي الرئيس”، “من يفكر بالتعدي على الشرعية بأي شكل من الأشكال من الخارج أو من الداخل […] هناك القوات المسلحة العسكرية التي لي بها ثقة للتصدي للمؤامرات التي تحاك بالخارج ومن يري التآمر مع الخارج ضد الدولة التونسية جاهزة”، “تهنى سيدي الرئيس”. “جيشنا البطل وجيشنا إلا بالانتصار والاستشهاد لن يقبل بأيّ تعدّ على تونس ولا بتعدّ على الشرعية ومن يفكر بالاعتداء على الشرعية فليعلم أنه سيصطدم بحائط ستتكسر عليه أحلامه”. “تهنى سيدي الرئيس”. قبل أن يغادر الرئيس مقر القوات العسكرية الخاصة، متوجها نحو وزارة الداخلية للاجتماع بقيادات أمنية وبوزير الداخلية هشام المشيشي آنذاك، ساعات قليلة قبل بزوغ الفجر، وقف سعيّد أمام شجرة الزيتون المثمرة التي غرسها هناك قبل عدة أشهر وقال ” إن شاء الله مطالب الشعب ستثمر كهذه الشجرة”.
تهيئة المناخ لتفعيل الفصل 80
بدأ قيس سعيّد في غزل حزامه العسكري المتين منذ الأشهر الستة الأولى من الحكم، وكان يتحدث عن المؤامرات الخارجية أمام صفوف الضباط العسكريين والأمنيين. ففي 16 ماي 2020، ألقى قيس سعيد خطابا واضحا عن الأزمة السياسيّة وعمّا أسماه كذب السياسيين وعن الشرعية والمشروعية وعن ثغرات القانون أمام تلاميذ الأكاديمية العسكرية بفندق الجديد وقال
أيها الضباط… من البلية خطاب من لا يفهم. يذهب الظن بالبعض بان تقاسم مآدب الإفطار مع قواتنا المسلّحة مقدمة لما يتوهمون لأنهم عاشوا ولا زالوا مصرين على العيش في الأوهام وفي أضغاث الأحلام…هم يعلمون أننا وإياكم حريصون على الشرعية. فالمرجع هو القانون على نقائصه وثغراته، ولن يغيّر إلا بالقانون”. وواصل سعيد في خطاب دام قرابة النصف ساعة قائلا “لم نكن ولن كون دعاة خروج عن الشرعية، لكن حين لا تتقابل الشرعية مع المشروعية وتثبت التجربة الهوة الواسعة بينهما، من حق أي كان لأنه مواطن أن تتقابل القوانين مع المشروعية الشعبية.
كان خطاب سعيد في ذلك اليوم مقسما بين ضميري النحن، وهم الوحدات العسكرية والرئيس و”الشعب” والـ”هم”، السياسيون والمتآمرون والفاقدون للمشروعية الشعبية حسب قوله. كان خطابا سياسيا بدأه بنجاعة تدخل الجيش التونسي في غير المهام القتالية “لدعم السلط المدنية” حسب قول رئيس الجمهورية مثل الفلاحة والصناعة وتأمين الخدمات والامتحانات. وقال سعيّد “ساهمتم في النجدة والتنمية وكنتم في طليعة المساهمين. إنكم الدرع الذي لا يسقط أبدا”. وقف الرئيس في ذلك اليوم متحدثا عن النظام الانتخابي وعن سحب الثقة وعن الشرعية. وقبل ذلك بخمسة أيام، طار قيس سعيد إلى قبلّي لمتابعة تركيز المستشفى العسكري الميداني هناك، وتحدث بصراحة أمام العسكريين هناك عن الفساد وعما أسماه “المرض السياسي والدستوري الذي يعتبر أخطر من جائحة كورونا”. ولمّح إلى سحب الثقة من مجلس النواب بالقول “الحرية هي أن يعبر الشعب عن رأيه بكل حرية وأن يسحب الوكالة ممن خان الأمانة”، وواصل بلهجة مهدّدة “البؤس الذي يعاني منه الشعب سببه البؤس السياسي لكننا سنقضي على البؤس الاجتماعي والبؤس السياسي “.
لم يختلف خطاب قيس سعيد أمام الوحدات العسكرية بقبلي عن خطاب الأكاديمية العسكرية بفندق الجديد، فقد لمح إلى برنامجه الانتخابي المتركز على الانتخاب المباشر على الأفراد، والذي يمكن المواطن من اتخاذ القرار في إدارة البلاد. وقال بشيء من الغموض، ملمّحا إلى تغيير القانون والشرعية الانتخابية : “سنواصل على نفس النهج حتى يرتقي المواطن إلى مرتبة القرار رغم أن الوسائل القانونية محدودة وإرادتكم غير محدودة وصعودكم تاريخي… سنحترم الشرعية بطبيعة الحال. لكن لتكون الشرعية متلائمة مع إرادة الشعب يجب أن تكون مشروعة”.
أدى قيس سعيد زيارته الثانية التي جاءت بعد يوم من ذهابه لقبلي، من ضمن ثلاث زيارات إلى القوات المسلحة في ظرف أسبوع، إلى ثكنة بوشوشة، وقال للأمنيين إنه “سيصدع بالحق في كل مكان”.
غزل الثكنات
بدأت أذرع حركة النهضة بالحديث عن مخاوفها من تمهيد لانقلاب يقوده سعيد بالاستعانة بالجيش. ولكن قيس سعيد سخر من تلك المزاعم، من جهة، ورد عليها بجدية بالقول إنه لن يخرج عن الشرعية وإن القوات المسلحة ستحمي الشرعية والقانون. وقال في جويلية 2020أمام الوحدات العسكرية : “لا نريد الخروج عن القانون ومن يتصور أننا سنخرج عن القانون فهذا من أضغاث الأحلام”. وكرر تلك التطمينات في وزارة الداخلية أمام قيادات أمنية و بحضور هشام المشيشي حين كان وزيرا لها، قائلا “نحن في ظروف عادية لكن نتحسب لأي ظروف غير عادية يمكن أن يهيئ لها بعض الأطراف والخطر موجود ليس من الخارج لكن من الذي يتواطأ مع الخارج وكنت الآن مع لواء الفيلق 21 من القوات الخاصة… كثرت الحسابات السياسية الضيقة وأنتم تعلمون تفاصيلها ودقائقها وتعلمون ما يروم البعض تحقيقه… نحن نتمسك بالشرعية ونتمسك بالقانون حتى وإن كان لا يعبر في بعض الأحيان عن المشروعية الحقيقة”.
سار الرئيس قيس سعيد بخطى ثابتة رغم محدودية صلاحياته نحو قلب المشهد السياسي، باستعمال فصل باركته حركة النهضة في السابق، ليثبت أن “رئاسة الدولة ليست بالكرسي الفارغ” كما قال. وحين بدأ حديثه عن المؤامرات، كان ذلك في قلب الثكنات العسكرية وخلال اجتماعاته العلنية مع مسؤولين، وهو حديث قلّل “خصومه” من أهميته، بما في ذلك رئيس الحكومة هشام المشيشي الذي قال إنّ على رئيس الدولة أن يبعث تطمينات في خطابه، قبل أن يبدأ بدوره في استعراض “نفوذه” على جزء من القوات المسلحة خاصة بعد إقالة وزير الداخلية ووضع الوزارة تحت إشرافه بالنيابة.
لجأ هشام المشيشي المدعوم من حركة النهضة وحلفائها في البرلمان، إلى “استعراض” نفوذه لدى القوات المسلحة، فبعد إفطار رمضاني لقيس سعيد في ثكنة بوشوشة في أفريل الماضي، ثم في جبل الشعانبي، نزل المشيشي من الغد، بدوره للثكنة، وبدا أنه فهم أن قيس سعيد قد كون حزاما متينا بدأ يخيف خصومه.
واجه قيس سعيد العزلة التي أرادت حركة النهضة وحلفائها فرضها عليه، بإعلان ثقته المطلقة في القوات العسكرية من أجل إدارة الأزمة الصحية، فأمر يوم 20 مارس 2020، بنشر عدد أكبر من قوات الجيش الوطني في كامل تونس، من أجل التأكد من فرض الحجر الصحي الكامل، ووسع سعيد شيئا فشيئا من دور الصحة العسكرية في مواجهة الأزمة الصحية، بدأت في سبتمبر الماضي، حين أمر بتعزيز المستشفى الميداني بالمنزه بإطارات عسكرية شبه طبية. وكان سعيد قد ذكر خلال اجتماع مجلس الجيوش إن وزراء طلبوا منه السماح بتدخل الجيش في تسيير قطاعات مثل الصحة والتعليم، لأنها “الأسرع والأنجع” حسب قوله.
في 13 جويلية 2021، أصدرت وزارة الدفاع بلاغا دعت فيه الإطارات الطبية وشبه الطبية والبيوطبية بالتقدم للتجنيد “وتنفيذا لقرارات السيد رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة والمتعلقة بتعبئة كل الإمكانيات المادية والبشرية لمكافحة هذه الجائحة ” حسب البلاغ. ومنذ بدأ تدفق المساعدات على تونس بعد اشتداد الأزمة الصحية، وضع الرئيس التونسي إدارة تلك المساعدات تحت إشراف الصحة العسكرية، وهو ما جعل صراع الصلاحيات يحتد أكثر بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية. صراع وصل حد إقالة وزير الصحة فوزي المهدي المنتمي للمؤسسة العسكرية، وهو نوع من الانتقام من سعيّد، والذي لم يكن المرة الأولى من نوعه، فقد سبق أن “انتقم” المشيشي ، ومن ورائه حليفه النهضة، من الشخصيات التي اقترحها سعيد لمناصب عسكرية أو أمنية مثل توفيق شرف الدين وعماد الحزقي وزير الدفاع السابق من خلال إقالتهما. قرارات رد عليها سعيد إما بالتوسيم مثلما فعل مع شرف الدين في أفريل الماضي، أو بإسناد مسؤولية مثلما حصل مع الحزقي الذي عينه رئيس الجمهورية رئيسا للهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية في ديسمبر الماضي. قبل أيام قليلة من منعرج الفصل 80، أعلن الرئيس التونسي أن الإدارة العسكرية ستتولى إدارة الأزمة الصحية، وكان ذلك بمثابة الرد على إقالة فوزي المهدي.
لم تكن زيارات قيس سعيد الذي توجه بخطابات للتونسيين عن الأزمة السياسية من داخل ثكنات التدريب أو القتال، رسائل لخصومه في الأحزاب فحسب، بل “للمتآمرين والفاسدين” الذين لم يذكر من هم، والذين عزم في كل مرة على تذكيرهم حين قللوا من أهمية هامش صلاحياته، بأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهي صفة ذكر بها في كل البلاغات الرئاسية الرسمية.
في أفريل 2020، قال قيس سعيد “اليوم صبر وغد أمر”، وبعد قرابة الثلاثة أشهر، كشف عن ذلك الأمر خلال اجتماع بالقادة العسكريين والأمنيين. وردد في خطاب 25 جويلية شعار “رصاصة واحدة ستقابل بوابل من الرصاص لا يعده الإحصاء ” وهو شعار كرره ثلاث مرات الأولى خلال تنصيبه والثانية في ثكنة الرمادية والثالثة خلال إعلانه عن القرارات الاستثنائية.
iThere are no comments
Add yours