“لم أتدخّل في القضاء، ولكنّي أعلم كيف توجّه الدّعوات وكيف تتمّ تبرئة من تدلّ القرائن كلّها على أنّه متورّط”. كان هذا حديث قيس سعيّد في اجتماع مجلس الوزراء، الّذي أكّد فيه علويّة القانون، وأن لا وجود “لدولة قضاة” أو لـ”حكومة قضاة”. تأتي هذه التصريحات بعد أيّام من صدور قرار عن دائرة الاستئناف بالمحكمة الإداريّة في حقّ بشير العكرمي، والّذي تمّ بموجبه إلغاء قرار المجلس الأعلى للقضاء القاضي بإيقافه عن العمل، وإثر إصدار المرسوم المُنقّح للقانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء، والّذي تمّ بمقتضاه وضع حدّ للمنح والامتيازات التي يتمتّع بها أعضاء المجلس بمقتضى القرار الترتيبي الصادر عنه، والمُقدَّرة بـ2364 ألف دينار و400 لتر من المحروقات شهريّا.
استقلالية على مستوى التعيينات
خصّص دستور 2014 بابا كاملا للسّلطة القضائيّة (الباب الخامس)، تحدّث فيه عن استقلالية القضاء وعن خضوع القاضي للقانون دون سواه في ممارسة عمله. وحجّر الفصل 109 من الدستور كلّ تدخّل في سير القضاء، فيما نصّ الفصل 110 على اختصاص المحاكم العسكريّة في النّظر في الجرائم العسكريّة. أمّا عن تسمية القضاة، فيتمّ تعيينهم بمقتضى أمر رئاسي بناء على رأي مُطابق من المجلس الأعلى للقضاء، ويُسمّى القضاة السّامون بأمر رئاسي بالتشاور مع رئيس الحكومة وبناء على ترشيح حصري من المجلس الأعلى للقضاء، وهو ما يعني نظرياً أنّ المجلس الأعلى للقضاء هو المؤسّسة الضامنة لاستقلالية القضاء وحسن سيره. ويبدي المجلس رأيه وجوبا في مشاريع القوانين المتعلّقة بتنظيم العدالة وإدارة القضاء واختصاصات المحاكم طبقا للقانون الّذي يُسيّره.
ويُعهد إلى السلطة التشريعيّة إصدار قوانين عاديّة وأساسيّة تخصّ تباعًا إحداث المحاكم والإجراءات أمام مختلف أصنافها وتنظيم العدالة والقضاء بمقتضى الفصل 65 من الدّستور. مع صدور الأمر عدد 117 لسنة 2020 المتعلّق بالتدابير الاستثنائيّة أصبح تنظيم العدالة من اختصاص رئيس الجمهوريّة الّذي أصبح بإمكانه إصدار نصوص قانونية لتنظيم المحاكم أو لمراجعة إجراءات التقاضي. ولعلّ الاختلاف الأبرز بين القوانين والأوامر الرئاسيّة لتنظيم القضاء هو غياب النقاش وتشريك الأطراف المتدخّلة من منظّمات وجمعيات ونقابات وهياكل قضائيّة، فالقضاء المستقلّ في دولة القانون “لا تشرّع له السلطة التنفيذيّة بمراسيم أحاديّة” وفق الرئيسة الشرفيّة لجمعيّة القضاة التونسيّين روضة القرافي.
تدخّل السلطة التنفيذيّة في القضاء
يرى الرئيس الشرفي لاتّحاد القضاة الإداريّين أحمد صواب أنّ رئيس الجمهورية لا يريد إصلاح القضاء. فهو لم يبادر بمراجعة عدد من النقاط المتعلقة بسير المرفق القضائي، أبرزها التقليص من أطوار التقاضي وإجراءاته خاصّة فيما يتعلّق بآجال البتّ في الجرائم الانتخابيّة، إلى جانب عزوفه عن تكوين لجنة لتتبّع القضاة المعنيّين بجرائم فساد مالي، وعدم إصدار مرسوم أو أمر رئاسي إلى اليوم لإعادة تنظيم اختصاص المحكمة العسكرية. “رئيس الدولة يتعامل مع القضاء كأنّه يتعامل الشركة التونسية للكهرباء والغاز”، يقول القاضي الإداري السابق لنواة، في إشارة إلى عدم مراعاة خصوصيّة العمل القضائي وإلى مساعي الرئيس في “تدجين” القضاء. ويضيف: “قيس سعيّد لم يناضل يوما ولم يقل كلمة في استقلال القضاء”.
من جهة أخرى، قام رئيس الجمهورية بإلغاء الهيئة الوقتيّة لمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين بمقتضى الأمر الرئاسي 117 والّتي تُعتبر هيكلا قضائيّا بمقتضى القانون المحدث لها، وهو ما يطرح إشكالا على مستوى مراقبة النصوص القانونية الصادرة عن رئاسة الجمهورية. فغياب المؤسسة التشريعية التي كانت –على هناتها- تضمن الحدّ الأدنى من النقاش والشفافية في أعمال هياكلها من لجان تشريعية وجلسة عامّة، وغياب أحد الهياكل القضائية من شأنه أن يساهم في تركيز السّلط بيد رئيس الجمهورية.
في ظلّ التدابير الاستثنائيّة، طالت المحاكمات والإحالات على القضاء العسكري معارضي رئيس الجمهوريّة، وتمّ وضع عدد من الشخصيات تحت الإقامة الجبريّة من وزراء سابقين ومحامين، وهو ما فسّره القاضي السابق أحمد صواب بـ”قضاء 25 جويلية” الّذي يحتكم لإرادة رئيس الجمهورية: “مقاربة الرّئيس في تسيير القضاء هي مقاربة شعبوية عموديّة رجعيّة قروسطيّة”، وفق القاضي الإداري السابق.
iThere are no comments
Add yours