المسألة أصبحت أعمق بكثير وأشد خطورة بما أن المواطن التونسي أصبح مهددا اليوم في قوته اليومي في ظل نقص المواد الغذائية الأساسية من قمح وأرز وسميد وبيض وزيت مدعم من الأسواق، وغياب الدولة عن دورها في إيجاد حلول عمليّة لهذه الأزمة متعددة الأوجه والخلفيات.
الشعبوية في مواجهة الأزمة الاقتصادية
هذه الأزمة كشفت أيضا عن وجود احتقان وغضب شديدين في الشارع التونسي وحالة استياء عامة من طريقة معالجة المنظومة الحاكمة الحالية لواحد من أشد الملفات خطورة وتأثيرا على عيش التونسيين وهو الملف الاقتصادي.
وفي الوقت الذي يُفترض فيه من الماسكين بزمام الحكم تقديم رؤية سياسية اقتصادية واضحة المعالم للمرحلة القادمة والاستعانة بخبراء ومستشارين في الاقتصاد لإيجاد حلول عاجلة لنقص وفقدان المواد الأساسية من الأسواق، نجد أن قصر قرطاج مثلا، وبعد مسح وتفحص للسير الذاتية لمستشاري الرئيس، يكاد يخلو من كفاءات في هذا المجال، ونفس الشيء تقريبا بالنسبة لأعضاء الحكومة.
في هذا السياق، قال أستاذ العلوم الاقتصادية، رضا شكندالي، في حديث لموقع “نواة” إن الرئيس قيس سعيد لا يستعين بخبراء ومستشارين وكفاءات في الاقتصاد ليجد الحلول للأزمة الحالية، وإنما بقرارات شعبوية لا تؤدي لنتائج علمية وعقلانية”، مشيرا إلى أنه “على الرغم من نواياه الحسنة فإن ذلك غير كفيل لوحده بإيجاد حلول لنقص التموين والغلاء والاحتكار”.
وأوضح أستاذ العلوم الاقتصادية أن “مقاومة الاحتكار من قبل الرئيس بالقانون والحلول الأمنية لن يؤدي لنتيجة حاسمة وواقعية لأزمة نقص المواد الأساسية من الأسواق لأن المشكل اقتصادي بالأساس وليس قانوني”.
الإحتكار: إنتقام سياسي أم مؤامراتية ؟
في المقابل، هنالك من يتقاطع مع توجهات الرئيس قيس سعيد لحل أزمة نقص المواد الغذائية عن طريق معاقبة المحتكرين وتجريم المضاربة والتلاعب بأسعار المواد الأولية، على اعتبار أنها السبب في غلاء الأسعار وفقدان المواد الأساسية، إذ “يجب مقاومة الاحتكار من خلال الردع وتفعيل القانون ضد المحتكرين”، بحسب تصريحات وزير المالية الأسبق في حكومة الترويكا، حسين الديماسي لموقع “نواة”.
قيس سعيد لم يفوت الفرصة عند زيارته لمقر وزارة الداخلية في 9 مارس 2022 لمهاجمة المحتكرين، وقال “لا بد من تحميل كل طرف مسؤوليته كاملة لأن المناوئين للشعب التونسي هدفهم التنكيل به في كل مظاهر الحياة، فمرة يتعلق الأمر بالأدوية الحياتية، ومرة بالبنزين والفضلات، وهذه الأيام بالنسبة لعدد من المواد الأساسية كالقمح والزيت المدعم”.
وأشار في ذات السياق إلى أن النقص المسجل في المواد الأساسية ليس من قبيل الصدفة، ولكنه بتدبير وبترتيب مسبق ممن يهزّهم الحنين إلى ما قبل 25 جويلية 2021، في إحالة واضحة على الأطراف السياسية والمجموعات الاقتصادية المتضررة من التدابير الاستثنائية.
وفي المقابل، قال مدير المنافسة والأبحاث الاقتصادية بوزارة التجارة وتنمية الصادرات حسام الدين التويتي في حديث للإذاعة الوطنية إن كل المواد متوفرة و “لا خوف من نقص المواد الأساسية. فقط اضطرابات في التوزيع لكن مخزوناتنا الاستراتيجية من كل المواد الاستهلاكية الحساسة موجودة وتغطي حاجيات البلاد لمدة من شهرين إلى أربع أشهر”.
من جهته، اتهم الديماسي في حديثه لنواة أطرافا سياسية، خاصة حركة النهضة بالدفع نحو مزيد تأزيم الأوضاع وإشعال أزمة المواد الأساسية وفقدانها من الأسواق، حتى تضعف الرئيس سعيد بسبب استبعاده لها من الحكم وتدفع بالتالي نحو المزيد من الاضطرابات.
خلفيات الأزمة
أزمة فقدان المواد الأساسية من الأسواق وارتفاع الأسعار لها ارتباط كذلك بأزمة تزوّد دولية وارتفاع في أسعار المواد الأولية والغذائية والمحروقات على خلفية الحرب الأوكرانية الروسية حيث تجاوز سعر برميل النفط 120 دولار أمريكي.
كما أن مشكلة التضخم النقدي وارتفاع الأسعار ليست بجديدة، ولكنها زادت بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة لتصل نسبة التضخم في تونس 6.6% بالتزامن مع تراجع نسبة النمو إلى 0.3% في الثلث الأخير من سنة 2021، مما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة لتصل حسب آخر تحيين للمعهد الوطني للإحصاء لـ18.4 بالمائة.
ويُرجع خبراء اقتصاديون، هذه الأرقام السلبية لعجز ميزان المبادلات التجارية وارتفاع نسبة المديونية والتراجع الملحوظ في انتاج الثروة مما جعل الدولة عاجزة عن الإيفاء باستحقاقاتها المالية المحلية والدولية، وهو ما انعكس سلبا على مسالك الإنفاق وقلّص من احتياطي العملة الصعبة، وبالتالي عدم القدرة على إتمام الصفقات التجارية الخارجية من حبوب وأرز وزيوت نباتية.
وشرح شكندالي لـنواة مسألة تراجع الثقة في تونس باعتبارها مرتبطة بتراجع التصنيفات الائتمانية الدولية من وكالات “موديز” و”فيتش” لـ Caa1 سلبي. وهذا يجعل الثقة تتراجع فيها من قبل المصدرين الدوليين للمواد الأولية من زيوت نباتية وأرز وحبوب التي يُنتج منها الفارينة والسميد والمعجّنات وغيرها، ويضعون تونس في ذيل سلم الأولويات بالنسبة للمشترين لمنتجاتها.
ومن نتائج اهتزاز ثقة الأطراف الدولية في الاقتصاد التونسي مثلا ما حصل قبل أشهر قليلة من رفض عدة سفن تجارية في موانئ رادس وصفاقس من إفراغ حمولاتها من القمح والشعير والفارينة واشتراطها الدفع مسبقا.
هنالك كذلك عامل داخلي مهم يؤثر على عملية تزويد السوق بالمواد الغذائية واستقرار الأسعار مرتبط أساسا بعمل الفلاحين والمنتجين، لأن القاعدة الاقتصادية تقول إنه عندما ترفع الدولة في كلفة المواد الأساسية والمحروقات يقابله منطقيا الترفيع في الأسعار، وعندما لا يحصل الترفيع في الأسعار وتقوم الدولة بتحديد الأسعار دون اعتبار ارتفاع تكاليف الانتاج يبقى أمام المنتجين والمزودين واحد من أمرين: إما إيقاف الإنتاج أو الاحتكار وتخبئة المواد حتى يرتفع سعرها، ويتم إعادة بيعها لاحقا.
انفجار اجتماعي وشيك؟
أزمة التضخم النقدي وارتفاع الأسعار الدوري أدّى، بحسب دراسة جديدة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى توسع دائرة الفقر في تونس لتشمل ثلث السكان (حوالي 4 ملايين فقير)، وتآكل الطبقة المتوسطة، نتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة وانخفاض نسبة النمو، والتداين المفرط بسبب انعدام خلق الثروة.
ومن المتوقع أن يؤدي الوضع الراهن لضغوط واضطرابات اجتماعية واحتداد وتيرة الأزمة الاقتصادية، بل وربما لانتفاضة شعبية بسبب الأسلوب الارتجالي وغير المدروس لتعامل رئيس الدولة وحكومته مع الأزمة الحالية، و”افتقراهم لكفاءات اقتصادية في مقابل الاعتماد على الهواة عند التعامل مع المشاكل التي تعيشها البلاد”، بحسب أستاذ العلوم الاقتصادية.
المقاربة الأمنية والقانونية لوحدها لم تقدر لحد الآن على القضاء على الاحتكار والزيادات المتسارعة في الأسعار، فعدم اعتماد مقاربة علمية مدروسة ورؤية سياسية واقتصادية واضحة من شأنه أن يزيد في اغراق البلاد في المشاكل الاجتماعية وتدنى مستوى المعيشة، وربما انحدار الدولة في الفوضى والاضطرابات، وقد شاهدنا مقدمات لهذا السيناريو إثر الهجمات الأخيرة للمواطنين على شاحنات السميد و المواد الغذائية الأساسية.
iThere are no comments
Add yours