في 9 أوت الجاري، وجدت رئيسة بلديّة طبرقة آمال العلوي نفسها قابعة في سجن الكاف، في إطار “حملة أمنية لمكافحة استغلال الملك العمومي”، وفق ما ذكره الناطق باسم محكمة جندوبة في تصريح لإذاعة شمس أف أم بتاريخ 10 أوت، في حين رصدت هيئات رقابية وطنيّة تجاوزات طالت الملك العمومي البحري، من خلال تغيير صبغة الأراضي من ملك عمومي إلى ملك خاصّ، واستغلال رمال الشواطئ في أعمال البناء، ومنح رخص استغلال لمستثمرين خواصّ دون اتّباع التراتيب الجاري بها العمل.

صورة شهد لينا بلحاج

استغلال الملك العمومي البحري: تحديد المسؤوليات

يشمل الملك العمومي البحري الملك الطبيعي مثل الشواطئ وضفاف البحار والبحيرات والمستنقعات، والملك الاصطناعي مثل الموانئ البحرية والمراسي والجزر الاصطناعية. وينصّ الفصل 22 من القانون عدد 73 لسنة 1995 المتعلّق بالملك العمومي البحري على إمكانيّة استعمال الملك العمومي البحري استعمالا خاصًّا في إطار إشغال وقتي أو لزمة طبقا لخصوصية هذا الملك وبصفة متماشية معها، ووفق الشروط التي يحددها القانون.
اللزمة، على معنى القانون عدد 23 لسنة 2008 المتعلّق بنظام اللزمات، هي عقد يمنح بمقتضاه شخص عمومي إمكانية التصرّف في مرفق عمومي إلى شخص عمومي أو خاصّ، كأن تمنح وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي بصفتها شخصًا عموميًّا رخصة إنشاء ميناء ترفيهي لمستثمر خاصّ لفترة يتمّ تحديدها بعقد يضبط مدّة الاستغلال والتزامات طرفَي العقد، وهما مانح اللزمة، أي الدّولة، وصاحب اللزمة، أي الطرف المستفيد من العقد.

صورة شهد لينا بلحاج

أمّا الإشغال الوقتي للملك العمومي البحري، فيحدّده الأمر عدد 1847 لسنة 2014 المتعلّق بالإشغال الوقتي للملك العمومي البحري، الّذي يمكّن أيّ شخص طبيعي أو معنوي من ممارسة نشاط يستوجب التواجد قرب البحر أو داخله، شريطة عدم إقامة أشغال ثابتة. ويفرض هذا الأمر الحكومي في فصله السابع أن تكون التجهيزات التي ستُقام على الشاطئ قابلة للتفكيك “وموضوعة بشكل ينسجم مع الخصائص الطبيعيّة والثقافية والجمالية للموقع”، تمامًا مثل تركيز المظلاّت الشمسية على الشواطئ بشكل موسمي.
أمّا السلطة المحلّية المتمثّلة في البلديات، فيُعهد إليها بمقتضى الفصل 243 من مجلّة الجماعات المحلّية “التصرّف في الشريط الساحلي الواقع بتراب البلديّة وتهيئته، إلى جانب ” المحافظة على مناطق ارتفاق الملك العمومي البحري وتطبيق التراتيب المعمول بها”. وقد تحصّلت بلديّة طبرقة على ترخيص في الإشغال الوقتي للملك العمومي البحري منذ 24 أكتوبر 2011، وهي رخصة تتجدّد ضمنيّا كلّ سنة وفق ما ذكره قيس المحسني، عضو فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بجندوبة في تصريح لنواة، عند تكليفه بنيابة رئيسة بلديّة المنطقة في فترة إيداعها السجن.

قضيّة رئيسة بلديّة طبرقة: في عدم التناسب بين الإجراءات والعقوبات

وفق محضر جلسة انعقدت بتاريخ 27 جوان الجاري بحضور ممثّلين عن المجلس البلدي في شخص رئيسته ومساعدها الأوّل وإحدى المستشارات، وممثّلين عن كلّ من وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي والحرس الوطني والحماية المدنية والإرشاد البحري، فإنّ البلديّة أسندت 46 ترخيصًا “بمعدّل بين 4 و5 مظلات شمسية لمجموع 200 مظلّة مسندة من قبل وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي.
ونظرا لضيق الوقت، لم تتمكّن رئيسة البلديّة من الشروع في تحضير إجراءات البتّة وتوزيع المظلات الشمسية على الراغبين في ذلك. فقد تولّت مهامّها بصفة رسميّة في 17 ماي الجاري، والحال أنّ إجراءات البتة وإعلان الصفقات العموميّة يتمّ في شهر مارس من كلّ سنة. ولتلافي التأخير الذي قد يحصل ولامتصاص غضب طالبي الرّخص، اتّصلت رئيسة البلدية بممثّل وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي الّذي وافق على تسويغ البلدية جزءًا من الملك العمومي البحري دون إمضاء اتّفاق مكتوب، وفق ما ورد بمحضر الاستنطاق الأول لآمال العلوي الّذي تحصلت نواة على نسخة منه.
وحسب محضر سماعها المؤرّخ في 05 أوت الجاري، تؤكّد آمال العلوي أنّ البلدية لم تتعمّد تجاوز المساحة الممنوحة لها من طرف وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي المقدَّرة بـ 836 متر مربّع، موضّحة أنّ هناك اتّفاقًا بينها بصفتها رئيسة بلديّة مع ممثّل الوكالة ورئيس مركز الحرس البحري لتجاوز المساحة، نظرًا لاستيلاء شخص يُدعى حبيب اليحياوي على كامل الواجهة البحرية بشاطئ المارينا.

شاطئ مدينة طبرقة صورة لسيف كوساني

ولدى سماع الأسعد الدوفاني، ممثّل وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي، يقول إنّ الطريقة التي اعتمدتها بلدية طبرقة في إسناد الرّخص ليست قانونية، لأنّها لم تقم بإجراء بتّة يتمّ على إثرها اختيار المناول المناسب، كما أنّ البلديّة منحت تراخيص للغير دون الحصول على موافقة مسبقة من الوكالة، وهو ما يستوجب سحب رخصة الإشغال الوقتي للملك العمومي البحري. ولكنّ رئيسة البلديّة تقول في محضر سماعها بتاريخ 05 أوت الجاري إنّها اعتمدت على منح الرّخص للمتمتّعين بها سابقًا وعلى الحالات الاجتماعيّة التي ارتأت أنّها تحظى بالأولوية في الحصول على ترخيص لكراء المظلات الشمسية. وأقرّت بأنّها لم تتولّ إجراء بتّة حول إسناد الرّخص نظرا لضيق الوقت، مضيفة أنّها لم تراسل وكالة حماية الشريط الساحلي بشكل مسبق لمنح تراخيص استغلال الملك العمومي البحري، ولم تدعُ المجلس البلدي للانعقاد للتداول بشأن إسناد الرخص للمنتفعين بها. وهي أخطاء إداريّة تستوجب سحب الرّخصة من البلدية، ولكنّ القضيّة تكيّفت جزائيًّا ليتمّ إيداع رئيسة البلديّة السّجن.

تجاوزات استغلال الملك العمومي البحري

سجّلت تقارير رقابيّة تجاوزات على مستوى إسناد رخص استغلال الملك العمومي البحري، من خلال إخراج مساحات تابعة للملك العمومي البحري وإلحاقها بملك الدّولة الخاصّ بهدف بيعها لمستثمرين ورجال أعمال، في خرق واضح للقانون واستغلال للنفوذ من أجل تحقيق منافع خاصّة، إضافة إلى الإضرار بالبيئة.

صورة شهد لينا بلحاج

حيث رصدت محكمة المحاسبات في تقريرها الرقابي حول التصرّف في الملك العمومي البحري بولايات سوسة والمنستير والمهدية الصادر في جويلية 2017 تلوّث ضفاف البحر ومياهه وتفاقم ظاهرة الانجراف البحري واندثار الكثبان الرملية وتراجع مساحات الشواطئ. هذا إضافة إلى تغيير صبغة الأراضي ليستفيد منها أصحاب النفوذ المالي والسياسي خاصّة في فترة ما قبل 2011، مثل مشروع مارينا قمّرت والفضاء الترفيهي جربة أجيم والميناء المنتزه الترفيهي بمدينة الحمامات وغيرها.
ففي سنة 2007، تمّ إخراج مساحة تناهز 10 هكتارات من الملك العمومي البحري بمنطقة قمّرت بالعاصمة وإدراجها ضمن ملك الدّولة الخاصّ لتستفيد منها الشركة السياحية والعقارية “مارينا قمرت“، بناء على توصية من الكاتب العام لرئاسة الجمهورية، بهدف إحداث ميناء بحري ومنشآت تجارية وسكنيّة. كما تمّ إنشاء منتزه ترفيهي بمدينة الحمامات سنة 2000 دون إجراء طلب عروض، وهو ما يضرب مبدأي الشفافية وتكافؤ الفرص. وفي منطقة هرقلة من ولاية سوسة، تمّ إخراج قطعة أرض تفوق مساحتها 344 هكتار من الملك العمومي البحري ليتمّ إلحاقها بملك الدولة الخاصّ بهدف إحداث مشروع سياحي.

 

من جهتها، لاحظت الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية في تقرير نشاطها لسنتَي 2016-2017 (انظر صفحة 59-61) أنّ وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي لم تتمكّن من تدارك بعض النقائص المتعلٌّقة بتسوية الوضعيات التي تمّ فيها تجاوز القانون في عهد بن علي، خاصّة فيما يتعلّق بإخراج بعض المساحات من الملك العمومي البحري وإدماجها ضمن ملك الدولة الخاصّ. ولتدارك هذا الأمر، دعت هيئة الرقابة الإدارية والمالية وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي إلى تحيين الإطار القانوني المنظّم لطريقة احتساب المعاليم الموظّفة على الإشغال الوقتي للملك العمومي البحري.
وعموما، فإنّ الملاحظ في التقارير الرقابية أنّ هناك إشكاليات في متابعة تراخيص الإشغال الوقتي للملك العمومي واحترام شروط عقود اللزمات وتسوية الوضعيات العالقة وتحديد تعريفات استغلال الملك العمومي البحري.
وقد أودعت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد سنة 2019 (انظر صفحة 291-292) قضيّة تمّ تضمينها بدفاتر النيابة العمومية بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي حول شبهات تستّر أعوان وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي على الاعتداءات اللاحقة بالملك العمومي البحري والشريط الساحلي من خلال التستر على معتدين بالبناء على الملك العمومي البحري وعدم تفعيل قرارات هدم صادرة ضدهم، وصرف أموال بقيمة 500 ألف دينار لفائدة مكتب دراسات قبل تسليم الدراسة، وخلاص مقاول مكلّف بترميم الميناء البونيقي بقرطاج قبل إتمام الأشغال.

التصرّف في الملك العمومي البحري يحتاج إلى مراجعة قانونية جذريّة وإلى هياكل رقابيّة تطبّق القانون على المخالفين دون تمييز. فالمسألة تتجاوز تحديد الملكيّة لتهدّد التوازن البيئي عبر استغلال رمال الشواطئ في عمليات البناء والتوغّل في المساحات البحرية لإنجاز مشاريع تهمل أغلبها المسؤولية الاجتماعية.