فعلى سبيل المثال، ندرة توزيع مادّة الحليب تعود إلى قلّة الإنتاج الناتجة بدورها عن الجفاف وعدم وفرة المراعي الطبيعيّة، ممّا سيدفع الفلاّح إلى اعتماد العلف المركّب الّذي ارتفع ثمنه، والّذي لا يملك قدرة على تغطية نفقات شرائه. ومن جهة أخرى، إذا كانت كميات الحليب متوفّرة لا تملك الدّولة قدرة على تخزينها، وهو ما يخلق فوائض في الإنتاج ”تطمئن الإدارة ولكن تؤرّق منظومة الحليب برمّتها“، وفق ما قاله كمال الرجايبي عن المجمع المهني للحوم الحمراء والألبان، في ندوة نظّمتها كونفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية ”كوناكت“، يوم 29 سبتمبر المنقضي.

قطاع الحليب: سياسة مرتجَلة للدولة

يشكو قطاع الحليب صعوبات متعدّدة الأبعاد ناتجة عن الجوائح الطبيعيّة والحرب الروسيّة الأوكرانيّة والتضخّم المالي وشحّ المياه الناتج عن الجفاف والتغيّرات المناخيّة. ”البقرة في تونس تشكو الجوع والعطش“، يُنذر ممثّل مجمع اللحوم الحمراء والألبان، مُذكّرًا بارتفاع كلفة دعم الحليب من 40 ملّيما على اللتر الواحد في فترة التسعينات إلى 410 في السنوات الحاليّة.


بعد الاستقلال، كانت تونس تستخدم الحليب المجفّف. وبداية من سنة 1983، أصبح القطاع الفلاحي يعتمد على تربية الماشية لإنتاج الحليب سعيًا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المادّة، إلى أن تمّ اعتماد استراتيجية وطنية للنهوض بتربية الماشية سنة 1994 حقّقت تونس من خلالها اكتفاءها الذاتي من الحليب بحلول سنة 1999، مع مراكمة فوائض إنتاج حوّلتها للخزن والتجفيف، إلى أن رفعت الدّعم على هذه المادّة في تلك الفترة، لأنّ ثمن البيع الحقيقي يغطّي كلفة الإنتاج.
يقول علي الكلابي مدير شركة ”فيتالي“ للحليب إنّ إنتاج الحليب بين شهرَي جوان وسبتمبر هذه السنة انخفض بنسبة 12%، مع احتمال بلوغ النقص نسبة 30%.

قد نلجأ إلى توريد الحليب من إسبانيا التي تشكو بدورها نقصًا في هذه المادّة، علمًا وأنّ سعرها لا يقلّ عن 1.08 أورو للتر الواحد، أي ما لا يقلّ عن 3 دنانير،

يقول مدير الشركة في ندوة ”كوناكت“، مُشيرا إلى الصعوبات التي تعرفها شركات تصنيع الحليب التي تقلّص عددها من سبع شركات إلى أربع فقط.
ومع تواتر الأزمات المناخية والاقتصادية والماليّة، ارتفعت أسعار الموادّ الأولية لصنع الأعلاف، ممّا أدّى إلى ارتفاع أسعارها وعدم قدرة الفلاح على تغطية نفقاتها، إلى جانب ارتفاع كلفة تجميع الحليب باعتبار ارتفاع عناصر الكلفة، بداية بالعلف وصولا إلى نفقات التخزين، بمعدّل بلغ 11.6% في سنة 2022. هذه العناصر تؤدّي إلى نقص كميات الحليب وارتفاع محتمل في الأسعار، إضافة إلى شحّ الموادّ الأساسية وتذبذب تزويد الأسواق، ممّا يُفهَم في مستوى أوّل على أنّه ”احتكار“، ولكنّ المشكلة أعمق من ذلك.

تراجع دور الدولة يخلق ”الاحتكار“

إذا كان لا بدّ من حصر أسباب الاحتكار، فإنّها تعود لثلاثة عوامل، هي النقص في الإنتاج، والعجز عن التوريد، وعدم القدرة على تعديل السّوق. ”في تونس تجمّعت كلّ هذه الأسباب، ولو كانت هناك وفرة في الإنتاج لما كان هناك احتكار“،
يقول عبد الجليل البدوي، الخبير الاقتصادي في تصريح لنواة، معتبرًا أنّ التذبذب في تزويد السّوق بالموادّ الأساسية يعود بالأساس إلى غياب سياسات وتصوّرات عموميّة للنهوض بسلسلة الإنتاج الفلاحي، تمكّن البلاد من تحقيق اكتفائها الغذائي وتحقيق التوازن بين صادراتها ووارداتها الغذائية، وخاصّة ”تعديل مفهومها للاكتفاء الغذائي“ مضيفاً:

الاتحاد الأوروبي يمنحنا قروضا بامتيازات تنافسيّة لإنتاج القوارص والغلال الموجّهة للتصدير، مقابل التخلّي عن الزراعات المستدامة مثل زيت الزيتون والحبوب الّذي تحتكره شركات عالميّة كبرى،

هذا الواقع أكّده سابقا الخبير في التنمية المستدامة حسين الرحيلي في تصريح لنواة، قال فيه إنّ تونس تصدّر طبق الفاكهة وتستورد الطّبق الرئيسي، في إشارة إلى استيراد الحبوب وتصدير الغلال، خاصّة الفراولة و ”الدلاّع“ التي تستنزف الثروات المائية الشحيحة بطبعها، معتبرًا أنّ الدّولة لا تعرف أصلا ما تريده من القطاع الفلاحي، الّذي تعتبره قطاعًا مدرّا للعملة الصّعبة فقط، ولا تتعامل معه كقطاع اجتماعي خالق للأمن الغذائي:

دولتنا لا تعرف عدد المستغلات الفلاحية ومساحتها الجمليّة وإنتاجها ولا تعرف عدد ممارسي النشاط الفلاحي ولا تعرف حتّى ماذا تريد من القطاع الفلاحي.

وبخصوص النقص في الإنتاج، يُجمع أغلب المختصّين في الفلاحة والتنمية المستدامة أنّ كلّ منظومات الإنتاج الفلاحي متأزّمة، مثل قطاع تربية الماشية والألبان والأعلاف وغيرها، نظرًا لنقص المياه وغلاء المعيشة ”وعدم استغلال الوفرة“ وفق عبارة البدوي. وهو ما أكّده رئيس المجمع المهني للحوم الحمراء والألبان الّذي يقول إنّ كلّ مراكز التجميع التي تتكفّل بتخزين فوائض الإنتاج هي شركات خاصّة، وهي مؤسّسات ذات غاية ربحيّة بالأساس. هذا الاكتساح للخواصّ، وإن يبدو ظاهريًّا تجسيدًا للشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ، إلاّ أنّه يُخفي تراجع دور الدولة في تعديل السّوق والتحكم في حلقات الإنتاج والخزن والتبريد.

أصبح الخواصّ يجنون المحاصيل قُبيل وقت حصادها ويُخزّنونها ويوزّعونها قطرةً-قطرةً على الأسواق حتّى تبقى أسعارها مرتفعة. يجب على الدّولة أن تسترجع دورها في التبريد والتخزين وألا تسمح للخواص فقط باحتكار هذه الحلقة، لأنّ القطاع الخاصّ يبحث عن عائدات الاستثمار، وهو ليس مؤسسة خيريّة.

يصرّح البدوي لنواة، مُشيرًا إلى ضرورة تعويل الدّولة على تحقيق سيادتها الغذائيّة: ”لا بدّ من توجيه الإنتاج إلى مكوّنات الأكلة الرئيسية، خاصّة الحبوب والبقول“.

تواجه الدّولة النقص في الموادّ الأساسية بمقاربة قانونية جافّة، من خلال إصدار قوانين ومراسيم تزعم محاربة الاحتكار وتنصّ على عقوبات مالية وأخرى سالبة للحريّة ضدّ مرتكبي هذه الجريمة. ولكن يبدو أنّ المُشرّع يتغافل عن الأسباب العميقة وراء نقص الإنتاج الفلاحي، فبالإضافة إلى تأثير الأوضاع الدولية وتغير العوامل المناخية، وجب على الدولة وضع سياسات استباقية والكف عن تبنّي نموذج يتّجه نحو التصدير عوضًا عن تحقيق الاكتفاء الغذائي، بدلا عن تعليق شماعة الفشل على أشباح الاحتكار.