المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
الجماهير التونسية ترفع علم فلسطين في ملاعب قطر خلال كأس العالم 2022. صورة لمحرز برناس

تساؤلات مشروعة عندما تأتي من شخص لا يعرف تاريخ هذه الرياضة ومدى تجذرها في العقول وفي القلوب. كيف لا وقد تم التصرف في مقولة كارل ماركس وتعويض الدين بكرة القدم كأفيون للشعوب. كيف لا وقد اتخذتها السلطات الديكتاتورية كأداة للتحكم في شعوب كاملة إلى أن انقلب السحر وأصبحت الملاعب المتنفس الوحيد لممارسة الحرية. كيف لا وقد أحبها محمود درويش وكتب عن هدف مارادونا الأسطوري قائلا:

يا مارادونا، ماذا فعلت بالساعة؟ ماذا صنعت بالمواعيد؟

ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟

مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهراً تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟

هذه الأسطر هي محاولة بسيطة لفهم سحر هذا الجلد المستدير الذي يأسر قلوب الملايين حول العالم إلى حد التعصب القاتل أحيانا. ولو أن الهدف الأساسي لكرة القدم ولكل رياضة هو الروح الرياضية وتعزيز حس الانتماء إلا أن هذا الانتماء قد يصبح أحيانا متطرفا كما نراه عند المشجعين الألتراس أو الهوليغانز أو البارابرافا.وفي حالات أقل تطرّفا تعتبر كرة القدم بمثابة الهواء لبعض المشجعين الذين يعيشون ويتنفسون، يكتئبون ويسعدون، يكرهون ويعشقون بحسب نتائج فرقهم المفضلة.

كرة القدم كمحرّك اجتماعي رمزي

قبل الخوض في الأسباب المعاصرة لهذا التعلق يجب الرجوع إلى أصل هذه اللعبة لفهم بعض الظواهر.

كانت كرة القدم حكرا على الطبقة الارستقراطية البريطانية من ثم بدأت الطبقة الشغيلة في تكوين فرق للمنافسة. كرة القدم كانت متنفسا للخوض في أحاسيس قوية خارج إطار العمل الشاق والحياة الصعبة وكانت الإطار الذي يجمع بين العمال ليخلق بينهم ما يسمى بـالانتماء والولاء. وبهذا تكون الفرصة سانحة لأن يكونوا فخورين بأنفسهم عند الفوز بكأس بريطانيا مثلا على حساب الطبقة الارستقراطية، مما يكسبهم نقاطا معنوية واجتماعية وإن كانت رمزية!

كرة القدم كانت لهم أيضا محركا اجتماعيا تضامنيا لجمع الأموال وللتصدي لرؤوس الأموال في تلك الفترة.

تملك كرة القدم أكثر من مليار مشجع لها حول العالم وبالتالي فإن شعبيتها تتخطى شعبية أي رياضة أو نشاط ترفيهي آخر.

قدرة على المساهمة في السلم الاجتماعي

كانت كذلك في يوم من الأيام قادرة على تخفيف بطش الحرب، ولعل أشهر القصص التي اختلفت رواياتها هي “هدنة عيد الميلاد”.

في إحدى ليالي ديسمبر 1914، استعد الجنود الألمان والبريطانيون من كلا الجانبين لملاقاة العدو خلال الحرب العالمية الأولى، لكن بدلا من ملاقاة العدو بالحراب والرصاص والمدافع أحضروا السجائر وكرات القدم.

يروي أحد الجنود البريطانيين أحداث تلك الليلة قائلا: “وجدنا أنفسنا نلعب مباراة مع الألمان، مباراة اشترك فيها المئات من الجانبين، مباراة لا تشبه ما تراه حاليا من مباريات، مباراة لم يسجل فيها أهداف تلعب بأحذية ثقيلة وبين فريقين يعلم كل منهما أن ما يفصلهما عن العود للفتك ببعضهما البعض محض أيام قليلة”.

يقال إن الألمان فازوا بهدفين مقابل هدف واحد، لكن الأرجح هو أن الفائز الحقيقي في تلك الليلة كان سمو المشاعر الإنسانية. عادت العداوة بين الألمان والانجليز ودامت حوالي 4 سنوات إلا أن المعنى القوي لتلك المباراة دام لفترة أطول ومازال حتى يومنا هذا مخلدا بنصب تذكاري بمدينة ليفربول.

كما ساهمت كرة القدم كذلك في الاعتراف الدولي لفلسطين والكوسوفو وغيرها عن طريق منتخباتها بالفيفا رغم أنّها لم تكن موضوعية في تعاملها مع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.

يطول الحديث عن الأسباب التي تجعلنا نحب كرة القدم. تلك المستديرة الساحرة التي تعتبر أعظم فرجة على مر العصور والتي اقترنت برهانات مالية كبيرة من إشهار وميركاتو ورهانات رياضية وحتى العروض الكبرى.

كثيرة هي الأفلام والمسلسلات والروايات التي تدور أحداثها حول كرة القدم نقترح منها سلسلة ” The English Game ” و”Dogs  Of Berlin” على منصّة ناتفليكس وكتاب “كرة القدم بين الشمس والظل” للكاتب الأوروغواني إدواردو غاليانو والذي نعتها بـ”مرآة العالم”.