نوايا التصويت التي كشفت عنها سيغما كونساي أثارت بداية شهر فيفري غضب عدد من الشخصيات السياسيّة، خاصّة وأنّها وضعت قيس سعيّد في مقدمة الترتيب، يليه الصافي سعيد ثمّ “كادوريم” في المرتبة الثالثة. كادوريم، أو كريم الغربي، يقدم نفسه كمغنّي راب تونسي مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، تُطرح الأسئلة حول ثروته وسبب احتفاء وسائل الإعلام به في كلّ مناسبة تتمّ دعوته فيها. بلغت نوايا التصويت لفائدته 4.8% من مجموع الجسم الانتخابي، بعد الصافي سعيد وقيس سعيّد الّذي تُمثّل الفئة التي تؤيّد ترشّحه مرّة أخرى 40.1% من الجسم الانتخابي.

أمّا معهد إيمرود، فقد وضع قيس سعيّد في المرتبة الأولى بنسبة 65%، ما يعني أنّه سيفوز بالمرتبة الأولى دون الحاجة إلى المرور إلى دور ثان. ويأتي الصافي سعيد في المرتبة الثانية في نوايا التصويت بنسبة 7% من جملة المستجوَبين البالغ عددهم 1200، فيما أتت عبير موسي في المرتبة الثالثة بنسبة 6% لتستبعد كادوريم من السباق نحو قرطاج، بعد أن حظيت بالمرتبة الرابعة في استطلاع الرأي الذي قامت به سيغما كونساي. وظهر اسم راشد الغنوشي في نوايا تصويت إيمرود بنسبة 1% في حين أنّه لم يكن موجودًا ضمن قائمة سيغما كونساي. أمّا المنصف المرزوقي فقد حظي بنسبة 2% من نوايا التصويت حسب إيمرود، فيما نال 4.3% من نوايا التصويت وفق سيغما كونساي.

هذا الترتيب يعكس آراء الأشخاص الّذين تمّ استجوابهم فقط. ولئن تباينت التقييمات حول جديته، فهو يُعيد التساؤل حول كيفيّة تنظيم سبر الآراء ومدى استجابته للمعايير العلميّة وتأثيره في الناخبين. ورغم ما يُقال عن استجابة استطلاعات الرأي إلى “المعايير العلميّة”، فهي تبقى دائمًا مرتبطة بالسلوك البشري الّذي يمكن أن يتغيّر، وهي ليست “علما صحيحا”، وفق ما قاله أستاذ علم الاجتماع ورئيس منتدى العلوم الاجتماعيّة التطبيقيّة عبد الوهاب بن حفيّظ لنواة.

استطلاعات الرأي علوم “غير صحيحة”

في محاولة لتنسيب صحّة استطلاعات الرأي وقدرتها على صناعة الرأي العامّ، يعتبر عالم الاجتماع بيار بورديو أنّ تكوين الرّأي والتعبير عنه ليس أمرًا مُتاحًا للجميع، كما يرى أنّ العبرة لا تكمن في مراكمة الآراء ولكن في قيمة هذه الآراء. أمّا المنطلق الثالث الّذي على أساسه يُنسّب عالم الاجتماع الفرنسي صناعة الرأي العامّ عبر تقنية سبر الآراء فيتمثّل في الأسئلة المطروحة على المجموعة والّتي يُراد من خلالها التعبير عن مشاغل المجتمع. إذ أنّ نوعيّة الأسئلة المطروحة لا تعكس بالضرورة المشاغل الحقيقيّة للعيّنة، وبالتالي فهي لا تصنع توافقًا حول القضايا المطروحة.

“يرتبط استطلاع الرأي بالسلوك البشري في مختلف أبعاده الإنسانية، حيث يتعلق الأمر بدراسة رأي ما في لحظة معيّنة. وتختلف وسائل البحث من مؤسّسة إلى أخرى، كما تختلف الضوابط الأخلاقية من شخص لآخر، وهو ما يعني أنّ أشكال المعرفة -على تنوّعها- لا يمكن أن تكون بمنأى عن المغالطة. يبقى فقط أن نحلّل كيفيّة تأثير سبر الآراء على الناخبين أنفسهم. أن يكون هناك تأثير لدى شريحة من الناخبين هذا أمر وارد. ولكن بأي درجة ولدى من تحديدا، هذا لا يمكن قيسه. في بعض الأحيان يتمّ الحديث عن تأثير الجماعة بمعنى أنّ الاسم الذي يتصدّر قائمة يمكن أن يستدرج عددًا من الأشخاص لصالحه”، يفسّر أستاذ علم الاجتماع عبد الوهاب بن حفيّظ لنواة، مضيفًا أنّ الانتقادات الموجّهة لاستطلاعات الرأي تتعلّق أساسا بكيفيّة توظيفها سياسيًّا وإعلاميّا.

في تصريح لإذاعة أي أف أم، يشرح حسن الزرقوني، مدير مؤسسة سبر الآراء سيغما كونساي، المنهجيّة المعتمدة في استطلاعات الرأي مؤكدا سلامة النتائج المعلنة، قائلا “إنّ سيغما للاستشارات تشرف على إعداد دراسات تلقائية مسبقة على مدار السّنة حول الشخصيات السياسيّة الجديرة بأن تكون على رأس السلطة. وتفرز هذه الدراسات أربعين أو خمسين اسما، يتمّ اختيار خمسة وعشرين فقط من بين هذه القائمة عند القيام بسبر الآراء. وغالبًا ما تكون الشخصيات الّتي يفكّر الناخب في اختيارها موجودةً ضمن هذه القائمة”.

مصداقية على المحك

لا يخضع سبر الآراء إلى إطار قانوني، رغم المبادرات التشريعية التي تمّ إيداعها خلال الدّورة البرلمانية الأولى (2014-2019) من نواب الكتلة الديمقراطية، بالإضافة إلى مشروع قانون قدّمته الحكومة في 2020، وهو ما يجعل هذا النشاط غير محدّد بتوقيت أو بسياق، من جهة، كما أنّه غير خاضع لمنهجيّة واضحة ولا لوسائل بحث تحدّ من موجة التشكيك في النتائج التي يفرزها.

هذا الفراغ التشريعي والمؤسّساتي أتاح للشركات الخاصّة ممارسة سبر الآراء السياسي لقياس نسبة التفاؤل والتشاؤم والشخصيات الأوفر حظًّا في الرئاسيّات، أو مشاريع القوانين المعروضة أمام البرلمان، مثل الاستطلاع الّذي قامت به سيغما كونساي حول مشروع قانون المصالحة في نسخته الاقتصادية، والّذي كان محلّ رفض مجتمعي واسع. وكان لحسن الزرقوني مدير سيغما كونساي حضور إعلامي كضيف قارّ في برامج الحوار التونسي وفي القناة الوطنية الأولى لتقديم نتائج استطلاعات الرأي الّتي تعدّها الشركة، والتي تكون منطلقًا لمحاولة فهم التوجّهات الكبرى للمجتمع، وإسقاط تلك التوجّهات على المستقبل بشكل يوحي كأنّها واقع لا مفرّ منه. وقد كانت شخصية حسن الزرقوني مثيرة لتحفّظات عدد من السياسيّين على اعتبار أنّه كان مقرّبًا من حزب نداء تونس، وكان يتردّد على مقرّ الحزب خلال الحملة الانتخابية، وفق تصريح القيادي بالحزب رضا بالحاج، عندما تصدّع الحزب. هذه العلامة السياسية ظلّت تلاحق الزرقوني وتجعل كلّ أرقامه محلّ تشكيك، ممّا يُحتّم ضرورة وضع إطار قانوني يضمن سلامة إجراءات استطلاع الرّأي.

سبر الآراء السياسي: إشكاليات منهجية وتقنية

يمكن تقسيم سبر الآراء السياسي إلى نوعين: سبر الآراء الّذي يتمّ يوم الاقتراع، وهو لا يطرح إشكالا لأنّ النتائج التي يفرزها تكون قريبة من النتائج المعلَن عنها وتعبّر عن أصوات الناخبين، وسبر الآراء الّذي يتمّ خارج فترات الانتخابات، والّذي يتمّ فيه نشر نسبة ثقة التونسيّين في الشخصيات السياسيّة، أو نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية والرئاسية. يرى أستاذ علم الاجتماع أنّ استطلاعات الرأي التي تتمّ في فترات ما قبل الحملات الانتخابية تطرح إشكاليات من النواحي التقنية المنهجية، والسياسية، والثقافية:

“تقنيّا، تتمّ استطلاعات الرأي في فترة ما قبل الانتخابات في وقت “بارد”، خارج فترات الحشد الانتخابي. في هذه الحالة، تلجأ بعض مؤسسات سبر الآراء إلى طرق بحث عبر الهاتف وطرح جملة من الأسئلة عوضا عن طريقة طرح الأسئلة وجها لوجه. هذه الطريقة، وإن كانت أقلّ كلفة، فهي لا تغطّي الفئة المتردّدة ولا الفئة التي لا تشملها قاعدة البيانات التي تمتلكها مؤسسة سبر الآراء، ولا تشمل أيضا الأشخاص الّذين يرفضون الإجابة عن الهاتف”.

سياسيّا، يُطرَح الإشكال على مستوى “الرغبة في توجيه المستجوَبين” من خلال تقديم مقترحات أثناء طرح السؤال أو تصويب الخطأ عند تلقّي الإجابة. أمّا الإشكال الثقافي فيتعلّق بكيفيّة قراءة الأرقام التي يتمّ تقديمها، وكذلك بالوسيلة الإعلامية، حيث تُقدَّم الأرقام في شكل نسب مئوية دون الكشف عن قيمتها الحقيقيّة.

“إليكم نموذجًا من المغالطات: عندما تتكوّن العينة من 1200 شخص، يُعبّر 80% منهم على آرائهم إزاء شخصيّة معيّنة. في حقيقة الأمر هذا الرأي يمثّل فقط 200 أو 250 شخص، من جملة ملايين الأفراد الّذين يمثّلون الجسم الانتخابي، وهذا هو مدخل المغالطة. فيما بعد، يتولّى قانون رجع الصدى في وسائل التواصل الاجتماعي تدجين الآراء. كما تعمد بعض المؤسسات إلى إخفاء الأرقام الخام عن الناس، بتعلّة حماية السر الصناعي، وهو ما يمنع الناس من معرفة كيفيّة تحويل هذه الأرقام”، يفسر أستاذ علم الاجتماع عبد الوهاب بن حفيّظ.

تستفيد شخصيات سياسيّة من استطلاعات الرأي الّتي تزدهر زمن الصمت المجتمعي، حين يقل اهتمام المواطنين بالسياسة والشأن العامّ. فتظهر شخصيات غير تقليديّة قد تبدأ في الزحف شيئا فشيئا نحو الساحة السياسية، يساعدها في ذلك مشهد إعلامي تسوده الفوضى، رغم الهيئات التعديلية والقوانين المُحدثة للغرض.