قبل الحديث عن كمال الفقي في الداخلية وجب الوقوف عند فترة إشراف توفيق شرف الدين عليها بعد 25 جويلية، وكيف استعادت الوزارة دورها السياسي الذي طالما تمتعت به قبل الثورة. آخر ظهور لوزير الداخلية توفيق شرف الدّين قبل إعلان استقالته، كان يوم 7 مارس 2023 خلال موكب إحياء ملحمة بن قردان. حيث تحدث في تصريح اعلامي عن المؤامرات وعمن لا يريدون خيرًا بالوطن، متهجّمًا على الإعلاميّين بالقول ”خسارة فيهم رجال إعلام، هم مرتزقة، ورجال الأعمال والنقابيون والأحزاب باعوا الوطن وتحالفوا ضد الشعب التونسي.. أتوجه إلى الشعب التونسي بالقول كل ما تعرفونه صحيح.. إنهم خونة“.

خطاب قد لا يصدر عن أكثر أنصار الرئيس حماساً، فما بالك بوزير داخلية انتقى بحرص كلماته ثم كلف مسؤولي الإعلام عنده بنشر التصريح على الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية، ما دفع 40 منظمة نقابية و مدنية إلى إصدار بيان إدانة مع المطالبة بالاعتذار و سحب فيديو التصريح الفضيحة.

ممارسات قديمة متجدّدة

يلاحظ كل متابع للعملية السياسية، أن وزارة الداخلية لم تعد تكتفي بدورها الأمني في الحفاظ على أمن البلاد والمواطنين والممتلكات العامة والخاصة٫ بل إنها تحولت إلى فاعل سياسي يحدد مسار الأمور في تونس منذ 25 جويلية 2021، تاريخ تجميع كل السلطات بيد الرئيس قيس سعيد. إجراءات مثل التنصت الواسع والعشوائي على المكالمات والتتبع اللصيق للشخصيات العامة والتطفل على حياتهم الخاصة وإيقاف الشخصيات السياسية دون احترام الإجراءات والقوانين وقمع الحركات الاحتجاجية في الجهات مع إيقاف المحتجين والنقابين، فضلا عن اتخاذ الرئيس قيس سعيد لوزارة الداخلية منبرا لإعلان قراراته المصيرية مثل قرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء في فيفري 2022، كلها سياسات وممارسات حولت وزارة الداخلية من جهة سيادية تسهر على أمن البلاد إلى مركز للعملية السياسية برمتها.

حاول شرف الدين في البداية خوض حرب ضد النقابات البوليسية من خلال إيقاف الاقتطاع الآلي من أجور الأعوان لفائدة النقابات بعنوان ”خدمات اجتماعية“ تبلغ قيمتها 40 مليون دينار، لوضع حدّ لمخالفة القانون، ما أنتج صدامات بوليسية صرفة، احتج خلالها البوليس من قمع طالما سلطه على التونسيين. ولئن بدت هذه المعركة تمهيدًا لتطهير الداخلية من سطوة نقاباتها إلا أنّها انحصرت في صراع النفوذ بين الوزير ونقابات البوليس، دون أن يكون لها امتداد على مستوى الممارسة البوليسية.

القمع شمل الجميع

لأول مرة منذ سنوات نعيش شهر جانفي دون تحركات. صحيح أن هذا العام شهد بعض التحركات المتفرقة لكنها لم ترتق إلى الشتاء الساخن مثلما تعودت على ذلك تونس منذ سنوات طويلة، منذ ما قبل الثورة. يفسر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تراجع وتيرة التحركات الاحتجاجية في تونس بأن ”السلطة تتجه بقوة نحو تجريم الحراك الاجتماعي خاصة بعد أن زجت بالوضع الاجتماعي في عاصفة الإيقافات الجارية واعتبار ذلك مطية لتحركات سياسية“. أرقام المنتدى تشير إلى تراجع وتيرة الاحتجاجات من 1212 في جانفي  2022إلى 520 في جانفي 2023 وهي أقل نسبة تُسجل في تقرير الحركات الاجتماعية، بالإضافة إلى تراجع في تقرير شهر فيفري بنسبة %18.6 مقارنة بشهر جانفي، أي أن النسبة أصبحت قياسية.

يؤكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن هذا التراجع سببه ”التطورات السياسية والأمنية التي عاشتها البلاد طيلة شهر فيفري والتي تميزت بإطلاق سلسلة واسعة من الإيقافات في حق رجال أعمال وسياسيين ووزراء سابقين ونواب سابقين ونقابيين وإعلاميين بتهمة التآمر على أمن الدولة دون أن توضح المؤسسات الرسمية طبيعة هذه التهم. رافق ذلك خطاب عنف وكراهية وتخوين ضد المنظمات والحقوقيين سواء في الخطاب الرسمي أو في منصات التواصل الاجتماعي عبر نشطاء محسوبين على السلطة القائمة“.

ورغم اختلاف السياق، فإن تعامل الداخلية مع الاحتجاجات السياسية التي تنظمها المعارضة والمجتمع المدني لم يختلف عن التعامل مع الحركات الاجتماعية لتبقى لغة القمع مسيطرة، فقد قمعت قوات البوليس اغلب تظاهرات جبهة الخلاص وقوى معارضة أخرى ومظاهرات للمجتمع المدني رفضا للدستور الجديد في جويلية 2022. وعادت تونس مع توفيق شرف الدين إلى استعمال العنف وقنابل الغاز لتفريق المحتجين السلميين سواء كانوا يرفضون أن تتحول مدنهم إلى مصب للنفايات في عقارب أو كانوا يرفعون شعارات سياسية في شارع الحبيب بورقيبة أو في الشوارع المحيطة به. بعد كل تحرك احتجاجي، اجتماعيا كان أو سياسيا، تحيل الشرطة عددا من المحتجين على القضاء ليبدأ بذلك الجزء الثاني من مسلسل القمع أي المحاكمات الكيدية، خاصة وأن للسلطة قوانين قمعية قادرة على توظيفها لتجريم الرأي والتعبير والاحتجاج السلمي مثل المرسوم  54ومجلة الاتصالات وغيرها.

وزارة الداخلية طرف سياسي منحاز لأنصار الرئيس

أظهرت وزارة الداخلية تمييزا واضحا أثناء تعاملها مع المظاهرات المساندة والمعارضة لقيس سعيد. ظهر ذلك من خلال القمع الشديد لتظاهرات المعارضة في الذكرى الثانية عشر للثورة وضد الاستفتاء على الدستور. كما شمل القمع أغلب مظاهرات جبهة الخلاص المعارضة لقيس سعيد، بالإضافة إلى الاعتداء على المتظاهرين وإيقاف العشرات منهم قبل إطلاق سراحهم.

في المقابل، تتعامل وزارة الداخلية بانحياز فاضح مع المظاهرات المساندة لقيس سعيد، ما أكّده وزير الداخلية السابق توفيق شرف الدّين عندما نزل إلى التظاهرات المؤيدة للرئيس في شارع الحبيب بورقيبة في 8 ماي 2022 داعيا إلى ”الوحدة الوطنية والالتفاف حول رئيس الجمهورية من أجل إنقاذ البلاد“ حسب قوله.

تواصل وزارة الداخلية انحيازها عبر نشر صور للتحركات المعارضة للرئيس مستعملة ”الدرون“ (طائرة دون طيار) من مكان عال حتى تبين للرأي العام أن عدد المشاركين في تظاهرات المعارضة قليل جدا، في حين أنها لا تنشر مثل هذه الصور عندما يتعلق الآمر بمظاهرات موالية للرئيس رغم قلتها وقلة المشاركين فيها. وهذا لا يقل خطورة عن القمع في حد ذاته، فعندما تتحول أجهزة الدولة وخاصة وزارة الداخلية إلى فاعل سياسي منحاز محتكر للعنف الشرعي، فإن هذا يبعدها تماما عن مبدأ الحياد تجاه كافة المواطنين ويفقد ثقة الناس فيها ويجعلها بمثابة الجهاز الخادم للسلطة وليس مرفقا عاما يخدم الدولة والمواطنين في كنف الحياد.

ومن أخطر ما أقدمت عليه الوزارة، هو عدم التدخّل لفضّ الصّدام بين المواطنين أثناء المظاهرات عبر السماح لأنصار قيس سعيد بالتهجم على تظاهرات المعارضة، مثلما حصل في مظاهرة الأحزاب الخمسة (حزب العمال والتيار والجمهوري والتكتل والقطب( في ولاية سوسة رفضًا للاستفتاء على مشروع الدستور، ومنع اجتماع حزب آفاق تونس في الرقاب من ولاية سيدي بوزيد في جويلية 2022، حيث هجم أنصار سعيد على هذه التظاهرات بعنف لفظي ومادي أمام أنظار قوات الشرطة المتعهدة بسلامة المواطنين وسلامة منظمي التظاهرات. سلوك خلف انتقادات للداخلية بعملها على تأزيم الوضع وحمل المواطنين على مهاجمة بعضهم وإحداث نوع من الاحتراب الأهلي يسهل بعده إعلان منع كل التظاهرات والمسيرات بتعلة حماية الأمن العام.

صورة بإستعمال ”درون“ لمظاهرة معارضة للرئيس. 14 جانفي 2023.

ربما لا يسعنا ذكر كل حصيلة توفيق شرف الدين على رأس وزارة الداخلية من انتهاكات وقمع ومظالم، لكن الأكيد أننا سنذكر أنها كانت الفترة الأكثر قمعا منذ الثورة، سنذكر القمع والغاز والتنصت على مكالمات الناس والاعتداء على خصوصياتهم، سنذكر تلفيق التهم وإطلاق يد البوليس دون حسيب أو رقيب، سنذكر محاكمات كيدية وإيقافات عشوائية أبدع البوليس في تحرير محاضر البحث فيها، سنذكر شباب تونس الذي يُسجن من اجل صورة أو تدوينة عادية بفضل يقظة بوليس الرقابة والأخلاق. سنذكر أن الرئيس الذي فاز في الانتخابات بشعارات الحرية ومجتمع القانون والعدالة كان شاهدا على كل هذا، دون أن يحرك ساكنا.