يروي أوس شهادته عن ذلك اليوم بهوية منقوصة ويقول ”حين بدأت الشرطة في استهداف المتظاهرين بالغاز المشل للحركة، هربت من وسط الحشود فلحق بي ستة أعوان وأسقطوني أرضا وقال أحدهم لزملائه ”أمسكت به يمكنكم قتله“. قبضوا علي ورموني في سيارة شرطة رابضة هناك. تحرش بي أحدهم قبل أن يجروني لألتحق ببقية المحتجين المحتجزين في مركز باب بحر، المعروف ”بالسيتيام“، لتبدأ رحلة الترهيب النفسي. أحدهم فتح هاتفه وبدأ بتصويري وأمرني أن أقول إن أمي عاهرة فرفضت فكان رده صفعة وتكرر الأمر وتلقيت عن كل إجابة رافضة صفعات متتالية“.

شهادات مفزعة داخل مراكز البحث والايقاف

في الثاني والعشرين من جويلية، تجمع عدد من المتظاهرين ضد مسار الاستفتاء في شارع الحبيب بورقيبة تتقدمهم مجموعات شبابية ومنظمات حقوقية ونسوية إضافة إلى جمع من السياسيين مثل حمة الهمامي ورياض بن فضل وسامية عبو. لم يمر وقت طويل حتى انقلبت الرقعة الصغيرة التي احتشد فيها المتظاهرون الرافضون لمشروع الدستور الجديد إلى ميدان لاصطياد بعض النشطاء، وكان سلاح الشرطة لتفريق المتظاهرين والقبض على البعض منهم بسيطا: عبوات غاز مشل للحركة متوسطة الحجم صوبت فوهاتها مباشرة نحو وجوه المحتجين، وركلات بواسطة الأحذية العسكرية وخوذات وحدات التدخل، فكانت الحصيلة رضوضا وجروحا واحتجاز أحد عشر متظاهرا طيلة أربع وعشرين ساعة.

إيقاف الناشط سيف العيادي

قبل تلك المسيرة بثلاثة أيام، نظم مجموعة من الرافضين لمشروع الدستور الجديد وقفة أمام وزارة الداخلية، لم تكن المظاهرة مرخصا لها ولم تفرقها الشرطة، غير أن أبرز المحتجين المنظمين لتلك المظاهرة وقعوا بعد ثلاثة أيام في قبضة وحدات التدخل، خلال المسيرة الثانية التي قدموا إعلاما بتاريخ تنظيمها ومسارها الذي يبدأ من المسرح البلدي نحو وزارة الداخلية.

شاركت ألفة البعزاوي وهي ناشطة في حملة ”مانيش مسامح“ في مسيرة يوم 22 جويلية، وكانت من ضمن مجموعة الأحد عشر الذين تم إيقافهم في ذلك اليوم. تروي ألفة لنواة ما تعرضت له وتقول:

”حين بدأت الشرطة برش المتظاهرين بالغاز المشل للحركة، هربت صحبة مجموعة من المحتجين إلى نهج ابن خلدون وهناك تعرضنا إلى الضرب والتعنيف، حين استنكرت حجم ذلك العنف الموجه لنا، سحبونا إلى مركز ”السيتيام“ وسط وابل من الشتم والسب. دخلت مركز الشرطة وواجهني مشهد تعنيف أوس وهو مرمي على الأرض، راعني ذلك المشهد واستنكرت مواصلة شتمنا وسبنا فرد على أحدهم ”ما دمتم هنا فلن تسمعوا غير ذلك“.

لم تكن ألفة المرأة الوحيدة التي تعرضت لاعتداء مادي من قبل الشرطة في تلك المسيرة، يسرى الشيخاوي صحفية بموقع حقائق أونلاين، كلفت بتغطية المسيرة لكنها تلقت صفعة أسقطتها أرضا ما تسبب في إغمائها. عند استفاقتها وإعلانها بأنها سترفع شكوى قضائية انهالت عليها الشتائم حسب شهادتها التي روتها لموقع نواة.

الصحفية يسرى الشيخاوي بعد تعرضها لاعتداء بوليسي

حاول أعوان الداخلية إخضاع المحتجزين الأحد عشر للقيس، خلال احتجازهم في مركز باب بحر، غير أنهم رفضوا دون تحقيق وقبل حضور محامين. تقول ألفة:

”حين امتنعنا عن قبول الخضوع للقيس، سحب شرطيون هناك هواتفهم الجوالة وبدأوا في تصويرنا وطلبوا من أوس أن يشتم أمه، كان ذلك من أجل إهانتنا. تواصل احتجازنا هناك ثم نقلنا بعد ساعتين إلى فرقة مكافحة الإجرام بالقرجاني. لم نكن نعلم التهم التي وجهت إلينا ولا هوية الشاكين، انتظرنا إلى غاية الساعة الثانية صباحا موعد سماعنا في البحث، وقبل ذلك تعرضنا إلى كل أنواع التعذيب النفسي، كنا جالسين في غرفة ضيقة البعض فوق كراسي والآخرون على الأرض، ثم بدأ أعوان الشرطة بالدخول واحدا تلو الآخر يرافقهم شرطي قار، في كل مرة ينظر فيها أحدهم إلى المحتجزين بعد سؤال زميله عن هوية المعتدي عليه فكان بعضهم يوجه أصابعه إلى وجوه معينة. كان ذلك جنونيا لأنه خرق واضح للقانون.“

تسرد ألفة بعزاوي صدمتها حين تقدم نحوها شرطي وأراد إدخال أداة تشبه اختبار فيروس كورونا في فمها، تبين فيما بعد أنه فحص للحمض النووي.

تعرضت ألفة بعزاوي بدورها إلى الضرب والاهانة وكانت ضمن المجموعة التي نقلت إلى مستشفى شارل نيكول من أجل الفحص الطبي، ليخرج الجميع من المستشفى دون أية وثيقة أو شهادة طبية في أيديهم لأن كل الوثائق سلمت إلى من رافقهم من الشرطة. يقول عزيز بن جمعة نائب رئيس فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بباردو في شهادته لموقع نواة، وهو من ضمن المحتجين الذين تم احتجازهم خلال المسيرة دون تهم، أنه وقف أمام الطبيب الذي فحصه بحضور ثلاثة أعوان شرطة، وكان الضرب قد تسبب في كسر نظاراته ما تسبب في جروح تحت العين اليسرى وفوق الحاجب، حيث قطّب الطبيب جروحه واكتفى بالقول ”إن شاء الله لاباس“ دون أن يسلمه أية شهادة طبية. يضيف عزيز ”تسبب العنف في مرة أولى في كسر نظاراتي وخلف جروحا تحت عيني اليسرى عمقها ضرب متتال على مكان الجرح. هناك صور توضح حالتي التي كنت عليها عند اقتيادي إلى مركز باب بحر حيث تواصل ضربي إلى أن فقدت الوعي، ثم سحب شرطي هاتفه وقال لي ”سيدك قيس سعيد سينتقم منكم“ وعقب آخر ”قيس سعيد أبونا.“

لغة خشبية وتهرب من المسؤولية

لا تعترف وزارة الداخلية بارتكاب أعوانها تجاوزات وصلت حد التعذيب، حيث استبقت شهادات الضحايا بنشر فيديو لم يظهر اعتداءات الشرطة مكتفية بإظهار محاولة المتظاهرين إبعاد الحواجز، وهي رواية مألوفة دأبت عليها الداخلية لتبرير التجاوزات التي يرتكبها أعوانها خلال فض المظاهرات أو في مراكز الاحتجاز.

على امتداد أسبوع، حاولت نواة التواصل مع فضيلة خليفي المديرة العامة لحقوق الإنسان والناطقة الرسمية للوزارة للحصول على معطيات عن محتوى التكوين الذي تقدمه وزارة الداخلية لأعوانها في مجال حقوق الإنسان ولم تتلق ردا إلى غاية الآن، وهو رفض مبطن من الوزارة لتوضيح ثمار الدورات التكوينية التي انتفع بها أعوان قوات التدخل والشرطة على وجه الخصوص.

اقتياد أحد المتظاهرين إلى مركز الايقاف

تشمل مهام الإدارة العامة لحقوق الإنسان بوزارة الداخلية ”إجراء التحاليل والدراسات المتعلقة بمجال حقوق الإنسان والحريات العامة وتقديم المقترحات التي تهدف لنشر ثقافة حماية حقوق الإنسان وضمان الحريات العامة ووضع الآليات الكفيلة بتحقيق هذا الهدف صلب وزارة الداخلية، إضافة إلى إعداد الإنتاجات التوعوية والتحسيسية وبرامج التثقيف والتكوين والتأطير في المجال“، غير أن التجاوزات التي ارتكبها أعوان الشرطة والتي عاينتها نواة يوم المظاهرة، إضافة إلى شهادات المتضررين المتطابقة، تحيل إلى قصور واضح في مهام الإدارة العامة لحقوق الإنسان.

المحكمة الإفريقية ملاذ التقاضي الأخير

أعد فريق الدفاع ملفات قضائية للتقدم بشكاوى بتهم التعذيب، وهي تهم طالت قيادات من وزارة الداخلية، مثل المدير العام للأمن العمومي ورئيسي إقليم الأمن الوطني بتونس وبن عروس. يقول بسام الطريفي أحد محامي الدفاع عن المتضررين من العنف البوليسي خلال المسيرة الأخيرة، إنه إضافة إلى العنف والتعذيب الموثق بالصور والفيديوهات، تعرض المتضررون إلى عملية احتجاز غير قانوني طيلة أكثر من عشرين ساعة.

تحصي المجموعة التي احتجزت الجمعة 22 جويلية، قائمة من التجاوزات التي ارتكبها أعوان الشرطة؛ مثل تصويرهم بواسطة هواتف خاصة دون إذن قضائي وتعرضهم إلى التعذيب والعنف اللفظي وحرمانهم من التواصل مع محاميهم أو عائلاتهم.


يقول وائل نوار في تصريح لنواة:

”مُنعت الهيئة الوطنية لمناهضة التعذيب من تصوير آثار الضرب والتعذيب لذلك اضطرت للاكتفاء بتوثيق شهادات شفوية وكان ذلك بحضور الشرطة داخل الغرفة. لم يكن ذلك التجاوز الوحيد الذي قاموا به خلال إيقافنا، حيث تم إخضاعنا لتحليل جيني قام به عون من الشرطة الفنية دون رضانا. الأخطر هو أننا كنا محتجزين في حالة تقديم ما يعني أن يتم سماعنا ثم إطلاق سراحنا، لكن الأعوان غالطونا وأعلمونا أننا في حالة احتفاظ ولم نتفطن إلى أننا في حالة تقديم إلا عند مثولنا أمام قاضي التحقيق في اليوم الموالي، ما يعني أننا لم نكن موقوفين بل محتجزين“.

إيقاف الناشط وائل نوار من بين المحتجين

أوقف المحتجون الأحد عشر دون أي إجراء قانوني، حيث لم تتم استشارة وكيل الجمهورية وبالتالي كان من المفروض أن يمثلوا في” حالة سراح. كما تبين أنه لا وجود لإذن بالاحتفاظ وبالتالي فإن إيقافهم الذي تجاوز العشرين ساعة غير قانوني وهو احتجاز تعسفي“ حسب تصريح بسام الطريفي محامي الدفاع عن المحتجين المتضررين.

اضطر المتضررون إلى إعادة الفحص الطبي عند خروجهم من أجل تضمين الشهادات الطبية في الملفات التي ستقدم للقضاء، والتي ستعرض أيضا ضمن تقرير أمام رئيس الجمهورية، حتى يتخذ القرار المناسب وفق ما صرح به الطريفي والذي لا يستبعد اللجوء إلى المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، إذا بقيت القضايا في رفوف المحاكم.

منذ العام 2021 ترقد أكثر من خمسين قضية، رفعها ضحايا عنف وتعذيب من قبل أعوان شرطة خلال احتجاجات السنة الماضية، في رفوف المحاكم. يصر أغلب المتضررين خلال مسيرة 22 جويلية، رغم قناعتهم بتواصل سياسة الافلات من العقاب، على مقاضاة أعوان وزارة الداخلية الذين تسببوا لهم في أضرار متفاوتة. قناعة يرجعونها إلى تجارب سابقة طالت فيها أذرع خصومهم القضاء، غير مبالية باستعمال تجهيزات الإدارة في ملاحقة الحقوقيين.

النقابات البوليسية اليد التي لا يطالها القضاء

يجمع أغلب المحتجزين الذين جمعت نواة شهاداتهم، على أن أعضاء من نقابات الشرطة كانوا طرفا في تعنيفهم. سيف العيادي، عضو فرع باردو لرابطة حقوق الانسان و أحد المتعرضين للعنف والاحتجاز، أفاد بتعرفه على ثلاثة أعوان ناشطين في نقابات الشرطة وأن أحدهم يشغل منصب كاتب عام إحدى النقابات. وكان منتسبون إلى تلك النقابات قد قدموا إلى مركز باب بحر لتصويرهم بهواتفهم الجوالة الخاصة، حسب شهادة وائل نوار.

تتمتع هذه النقابات على اختلاف اختصاصاتها بالنفوذ، كما أنها تخلط بوضوح بين نشاط أعوانها النقابي وعملهم في جهاز يحتكر العنف ويحمل السلاح. إحدى النقابات كانت قد نشرت يوم 6 فيفري 2021 تدوينة على صفحتها الرسمية، قالت فيها حرفيا إنها ستمنع مظاهرة بعد سلسلة من الاحتجاجات خلفت أكثر من ألفي موقوف في الثلاثية الأولى من سنة 2021.

جانب من وحدات التدخل يوم المظاهرة

وقبل ذلك بأربعة أشهر تقريبا، في أكتوبر 2020، أطلق قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية ببن عروس سراح مدير مركز شرطة اعتدى على محامية، وذلك بعد اقتحام منتسبي النقابات مكتبه وتطويق المحكمة من أجل إطلاق سراحه. هذه الحادثة ليست الأولى في محكمة بن عروس، حيث طوق قبل سنتين أعوان من النقابات المحكمة الابتدائية ببن عروس، بعضهم اقتحم المحكمة احتجاجا على محاكمة ثلاثة من زملائهم مثلوا بتهمة تعذيب موقوف. أطلق قاضي التحقيق الموقوفين الثلاثة يومها لتبرز نقابات الشرطة قدرتها على حماية منتسبيها من المحاسبة وإفلاتهم من العقاب.

منتصف العام الماضي تكثفت الدعوات لحل نقابات الشرطة، دعوات رد عليها الناطق الرسمي باسم النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي شكري حمادة في تصريح صحفي: ”من يدع لحل نقاباتنا فهو يشرِّع للفوضى“، في الوقت الذي دعم فيه الرئيس قيس سعيد وجود النقابات الأمنية ودعاها إلى التوحد في هيكل واحد.

”حريات حريات دولة البوليس وفات“ شعار لم يفارق حناجر المحتجين طوال العشرية الماضية، ليسجل حضوره في مظاهرة 22 جويلية، واضعا وعود الرئيس سعيد بعدم المساس بالحقوق والحريات على المحك. يقول عزيز بن جمعة “حين نزلت إلى الشارع الجمعة الماضي للتعبير عن رأيي كنت أظن أن شارع الثورة قد تحرر لكن يبدو أنه هناك إشارات جدية للعودة إلى ما قبل 14 جانفي 2011“.