الصيغة الأولية لمشروع النّظام الدّاخلي الجديد الّذي نشره عدد من المواقع، كُتبت أحكام لتنظّم العمل البرلماني بشكل يسعى إلى القطع مع الصّورة الّتي كانت سائدة، خاصّة وأنّ المرحلة الحاليّة تتّخذ من تنقية الحياة السياسيّة وخدمة الصالح العامّ شعارًا لها. ولكن إلى أيّ مدى ستكون التدابير المضمّنة داخله ناجعة؟

حدود تنظيم الكتل

حدّدت مسودّة مشروع النظام الداخلي العدد الأدنى لتكوين كتل نيابيّة بـ15 نائبا، بعد أن كان العدد الأدنى المطلوب في النّظام الداخلي المعتمد خلال العهدتَين الماضيتَين سبعة أعضاء فقط. مشروع يمنع التحاق النائب المستقيل من كتلته بكتلة برلمانية أخرى، وهو أمر سعى إليه نوّاب البرلمان السابق في عهدته الأولى، حيث طعنت كتلة نداء تونس في انضمام عدد من نوّابها إلى كتلة الائتلاف الوطني التابعة لشقّ يوسف الشاهد، معتبرة أنّ الاستقالة من الكتلة لا بدّ أن تكون مشفوعة بالاستقالة من الحزب الّذي على أساسه تمّ انتخاب النوّاب.

ولكنّ الاختلاف يكمن في طريقة انتخاب ممثّلي الشعب، إذ أنّ الانتخاب على القائمات يخلق أكثر انضباطًا بين أعضاء القائمة في تقديم برامجهم السياسيّة التي انتُخبوا على أساسها. أما بالنسبة إلى الاقتراع على الأفراد، لا يمكن الحديث عن ”انضباط“ داخل كتلة، خاصّة إذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ الأغلبية الساحقة من النوّاب مستقلّون ولا انتماء سياسيّ معلن لهم.

في 2020، تمّ تقديم مقترح لتنقيح النظّام الداخلي لمنع السياحة البرلمانيّة، المتمثّلة في انتقال النائب من كتلة إلى أخرى، أمر رفضه عدد من المختصّين في القانون، استنادًا إلى دستور 2014 الّذي ينصّ على مبدأ الحرية في تكوين الأحزاب، وعلى النظام الداخلي نفسه الّذي ينصّ على أنّ النائب يصبح نائبا عن الشعب بأسره حالما يتمّ التصريح بالنتائج، وهو ما ينصّ عليه كذلك مقترح النظام الداخلي لبرلمان 2023.

وقد جرت العادة في العهدَتين الماضيتَين أن تعتمد الكتل مساعدين برلمانيّين، يتمّ تكوينهم وانتدابهم من قبل منظّمات أجنبيّة (خاصّة المعهد الديمقراطي الوطني NDI). ولكنّ النسخة الحاليّة منعت في فصلها الحادي والعشرين الاستعانة بمساعدين من بين الأجراء لدى المنظّمات الأجنبيّة، على أن يضع البرلمان في المقابل مساعدين برلمانيّين على ذمّة النوّاب بعقود توفير خدمات فنّية وإدارية لفائدتهم.

استحضار النظام الداخلي السابق

فيما يتعلّق بالغيابات، نصّ مشروع النظام الداخلي الجديد على ضرورة إعلام النائب بغيابه عبر تطبيقة تُحدَث للغرض، فيما تمّ الإبقاء على عقوبة الاقتطاع من المنحة بما يتناسب مع مدّة الغياب، إجراء كان معمولا به في النظام الداخلي السابق. وبخصوص شفافيّة عمل المجلس وانفتاحه على الإعلام والمجتمع المدني، أبقى مشروع النظام الداخلي على تغطية وسائل الإعلام المرخَّص لها وحضور المواطنين والمجتمع المدني في الأماكن المخصّصة لهم، في إقرار بمبدأ علنيّة الجلسات. يعود ذلك للضغط الذي مارسته نقابة الصحفيين بعد المنع المهين لوسائل الاعلام من تغطية الجلسة الافتتاحية. كما تمّ الإبقاء على نشر محاضر الجلسات وقائمات الحضور، دون تغيير بين النظام الداخلي القديم والمشروع الجديد.

أمّا عن الدّور الرقابي، يتحدّث مشروع النظام الداخلي عن الأسئلة الكتابية والشفاهية وجلسات الحوار مع الحكومة، آجال انعقاد الجلسات ومدّة طرح الأسئلة، تمامًا مثلما هو الأمر في النظام الداخلي السابق. وكان عدد من المنظّمات المختصّة في مراقبة أعمال البرلمان، خاصّة منظّمة البوصلة، قد رصدت في تقاريرها الرقابية عدم التزام المجلس بالتنظيم الدوري لجلسات الحوار مع الحكومة، في ظلّ غياب ضمانات صلب النّظام الداخلي.

اضافة إلى ذلك، حافظ مشروع النظام الداخلي الجديد على إجراءات رفع الحصانة المعتمدة في العهدتَين السابقتَين، مع إضافة فصل ينصّ على رفع الحصانة في جرائم القذف والثلب وتبادل العنف وتعطيل سير الجلسة، في إشارة إلى القطع مع الممارسات التي سادت في المجلس المنحلّ، مع إدراج مدوّنة سلوك برلمانيّة تحدّد جملة من القيم والمبادئ التي يجب على نائب الشعب التحلي بها، وهي مدوّنة سعى النائب رياض جعيدان منذ برلمان 2014-2019 إلى إدراجها ضمن النظام الداخلي.

إجراءات جديدة في الدور التشريعي

على عكس النظام الداخلي السابق، ضبط المشروع الحالي آجال النّظر في مشاريع القوانين والمقترحات التي يقدّمها النواب بقرار من مكتب المجلس. وفي حال لم تُنه اللجنة أعمالها بخصوص مشروع القانون المعني بالنقاش، فإنّه يُحال إلى الجلسة العامّة للمصادقة عليه. إجراء قد يساهم في مزيد تمديد المسار التشريعي لمشروع القانون، خاصّة إذا كان ذا طابع تقنيّ يتطلّب الاستماع إلى خبراء ومختصّين، مثل مشاريع القوانين التي تمسّ الحريّات العامّة أو الفرديّة أو المبادرات التشريعية القطاعية. كما سيفتح الباب إلى اجتماعات التوافقات التي عادة ما تكون سريّة، أو على الأقلّ خارج دائرة البثّ الاعلامي المباشر.

كما نصّ مشروع النظام الداخلي الحاليّ على إحداث إحدى عشرة لجنة قارّة تضطلع بدور تشريعي ورقابي، مع إدماج اختصاص اللجان الرقابية التي أقرّها النّظام الداخلي السابق ضمن اختصاصات اللجان القارة، حيث تمّ إلحاق شؤون التونسيين بالخارج التي كانت لجنة خاصّة رقابية مع لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجيّة، إلى جانب إدراج اختصاص اللجنة الانتخابية في البرلمان السابق ضمن مجال تدخّل لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين الانتخابية. وقد كان من بين توصيات منظّمات المجتمع المدني في العهدة البرلمانية الأولى (2014-2019) إدماج اللجان التي تتقاطع في مجال اختصاصها لحوكمة عمل المجلس وضمان نجاعته.

كما ألغى مشروع النظام الداخلي الحالي خطّة مقرّر مساعد أوّل وثان في مكتب اللجنة، مبقيًا فقط على رئيس اللجنة ونائبه وخطّة مقرّر.

تمّ استحضار النظام الداخلي القديم في أكثر من موضع في مشروع النّظام الداخلي الحالي، فيما عدا إجراءات رفع الحصانة ومنع الاستعانة بأُجراء المنظّمات الأجنبيّة. حضور لافت لروح النص القديم يطرح التساؤل حول امكانية السقوط في أخطاء البرلمان المنحل، خاصّة وأنّ عددًا من الأحكام التي كانت مُضمَّنة في النظام الداخلي القديم لم يتمّ إنفاذها. فالإشكال لا يتعلّق بغياب النصوص وإنّما بقصور الممارسة في تطبيقها.