يبلغ إنتاج القمح اللين الذي تُستخرَج منه الفارينة المعتمدة في صناعة الخبز 626 ألف قنطار بمناطق الشمال الشرقي، و532 ألف قنطار تتركّز بالشمال الغربي وفق أرقام المرصد الوطني الفلاحي الصادرة في عدد خاصّ حول إنتاج الحبوب لسنة 2022 (ص.4). إنتاج لا يكاد يفي بالحاجيات الاستهلاكية، ممّا يدفع إلى اللجوء إلى الاستيراد، حيث بلغت نسبة واردات القمح الليّن سنة 2021 -وفق المصدر ذاته- 49% من أوكرانيا و26% من بلغاريا و10% من روسيا (ص.8).

تحكّم الدّولة في قطاع الحبوب

تحتكر الدّولة قطاع الحبوب عبر ديوان الحبوب، وهو هيكل يتبع وزارة الفلاحة، يختصّ دون غيره في الاتجار في القمح. وحسب تقرير الحسابات للبنك الوطني الفلاحي لسنة 2022، فإنّ نسبة الديون المتخلّدة لدى ديوان الحبوب لدى البنك بلغت 4786 مليون دينار مع نهاية سنة 2022 لتسجّل ارتفاعًا بنسبة 21% مقارنة بـ31 ديسمبر 2021، وهو ما أشارت إليه منظمة ”آلرت“ في بيان نشرته على صفحتها الرسمية يوم 21 ماي الجاري بالتزامن مع أزمة توفّر الخبز، مضيفة أنّ تأخر الدولة في صرف ميزانيّة الدعم جعل ديوان الحبوب عاجزًا على استيراد حاجيات السوق خاصة من القمح الصلب.

تتولّى مؤسّسات تحويل الحبوب -أو المطاحن- تحويل القمح الصلب والقمح اللين إلى سميد وفارينة. يبلغ عدد المطاحن 23 مؤسّسة، 19 منها تتركّز بتونس الكبرى ومنطقة الشريط الساحلي، وهي مؤسسات خاصّة تخضع لإشراف الغرفة الوطنية للمطاحن المنضوية تحت الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية. ”المطاحن والمخابز تنضوي كلّها تحت اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، ولا يمكن القول هنا إنّ المصالح بين الطّرفين ستكون متضاربة. هناك لا مساواة وانعدام منافسة في توزيع حصص القمح اللين. المخابز التي تستخدم الفارينة المدعّمة لها الأولوية المطلقة في الحصول على الحصص ولها نصيب شهري قارّ وفق منشور وزاري“، يقول محمّد الجمالي، رئيس المجمع المهني للمخابز العصرية التابع لكونفدرالية المؤسسات المواطنة كونكت في تصريح لنواة. ويضيف: ”نحن لا نستخدم الفارينة المدعّمة، رغم أنّنا نصنع الخبز الكبير والباقات والحلويات ونستخدم نفس الآلات ونعوّل على نفس اليد العاملة ونتكبّد نفس النفقات، تمامًا مثل المخابز التي تستخدم القمح اللين المدعّم. ولكنّنا نشتري القنطار بــ655 دينارًا، في حين تشتري المخابز الأخرى القنطار بـ220 دينارًا فقط. ومع ذلك، توفّر لها الدّولة تعويضًا بقيمة 80 دينارًا عن القنطار الواحد“.

تمييز ضد المخابز غير المصنّفة؟

يخضع الخبز كمادّة استهلاكيّة تُباع وتُشترى إلى قرار صادر عن وزير التجارة بتاريخ 13 نوفمبر 2020 يتعلّق بصنع وعرض وبيع مادّة الخبز، جاء فيه أنّ المخابز المصنّفة تستخدم دون سواها الفارينة المدعّمة من صنف PS لصناعة الخبز الكبير، وهي المخابز صنف ”أ“، والخبز الصغير ”الباقات“، وهي المخابز صنف ”ج“. وقد تمّ التخلّي عن الصنف ”ب“ الّذي كان يمزج بين الخبر الكبير بنسبة 70 %وخبز الباقات بنسبة 30% منذ 2011، لتفادي التلاعب بمادة الفارينة المدعّمة. وتُسنَد إلى المخابز المصنّفة حصّة شهرية تحصل عليها حصريًّا من المطاحن.

”نحن نستهلك 6 ملايين قنطار في السنة من القمح اللين المدعّم، ويتمّ توزيع 500 ألف قنطار شهريًّا على 3500 مخبزة مصنّفة، وتتراوح الكمّيات الموزّعة بين 10 و4.5 قنطار على المخابز، باحتساب عدد السّكان في كلّ مناطق البلاد“، يفسّر محمّد بو عنان رئيس الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز لنواة، نافيًا أن تكون هناك جهة تحتكر قطاع القمح اللين: ”وزارة التجارة هي المسؤولة عن توزيع القمح الصلب واللين، ومن المستحيل أن يكون هناك احتكار لأنّ المسألة بيد الدّولة“.

أمّا المخابز غير المصنّفة، فتكتفي بصنع الخبز الرفيع دون سواه الذي لا يتجاوز وزنه 150 غرام، باستعمال الفارينة من نوع PS-7 ويحجّر عليها مسك واستعمال الفارينة المدعّمة من صنف PS.”أصبحنا موصومين بصناعة الكرواسون ذي الخمس دنانير، ولكنّ دورنا مهمّ في الأزمات، والمخابز الأخرى لا يمكن أن تواصل عملها دون وجودنا“، يقول رئيس المجمع المهني للمخابز العصرية التابعة لكونكت في تصريح لنواة، ملمّحًا إلى تواصل عمل المخابز غير المصنّفة رغم الإضرابات المتتالية للمخابز المصنّفة.

تتجاوز ندرة الخبز الأزمات الظرفيّة، لتطرح تساؤلات حول حوكمة قطاع الحبوب وتوزيع القمح اللين والصلب على المطاحن، إلى جانب كلفة الدّعم التي ارتفعت من 1253 مليون دينار سنة 2015 إلى 3025 مليون دينار سنة 2022 حسب أرقام وزارة التجارة، معطيات و أرقام تكشف حدود سردية التآمر والاحتكار التي تعود التونسيون سماعها، كلما تدخل رئيس الجمهورية لمعالجة أزمة من حزمة الازمات المتعلقة بندرة المواد الاستهلاكية المدعمة.