تشهد تونس منذ أربعة أشهر أزمة تزوّد بالخبز والفارينة والسّميد، حتّى أصبحت مشاهد الصّفوف الممتدّة أمام المخابز ومحلاّت بيع الموادّ الغذائيّة أمرًا شبه عاديّ. وتتزايد المخاوف حول نفاد مخزون القمح في أفق بضعة أشهر، مع التذبذب في التزوّد بمادّة الفارينة وما قد يتبعه من زيادة في أسعار هذه المادّة الأساسية ، بالإضافة إلى ارتهان تونس في أمنها الغذائي من الحبوب لأوكرانيا التي تستورد منها ما يناهز 80% من احتياجاتها.

أزمة تزويد تفرز ترفيعا محتملا في الأسعار

ارتفع سعر الفارينة المُستخرَجة من القمح اللّين والمُعتمَدة في صناعة الخبز، حيث ارتفع سعر الكيس الواحد ذي الخمسين كيلوغراما من 512 دينار إلى 650 دينار خلال هذه الفترة، حسب محمّد الجمالي، رئيس المجمع المهني للمخابز العصريّة .ممّا أدّى إلى ارتفاع سعر الباقات إلى 250 مليّما ببعض المخابز في مخالفة واضحة للتسعيرة القانونية المقدرة ب190 مليم.

في حال الترفيع في سعر المادّة الأوليّة من الوارد أن يتمّ الترفيع في سعر الخبز، حيث اقترح عدد من أصحاب المخابز بيع الخبزة بـ690 مليم والباقات بـ450 ملّيم. وتواصل فِرق المراقبة الاقتصاديّة التابعة لوزارة التجارة من ناحيتها حملات حجز الموادّ الأساسية بالمخازن العشوائيّة، فيما “تطمئن وزارة التجارة وتنمية الصادرات جميع المواطنين بتوفر المخزونات الكافية من المواد الأساسية المدعمة والمواد الموردة من قبل الديوان التونسي للتجارة بما يغطي حاجيات الاستهلاك خلال الفترة الحالية وشهر رمضان وتدعوهم إلى ترشيد شراءاتهم من هذه المواد حسب حاجياتهم العادية وتفادي مختلف مظاهر اللهفة التي من شانها إرباك السير العادي للتزويد والعرض بالسوق وتغذية محاولات الاحتكار”، وفق ما ورد في بلاغ لها.

نزيف صندوق الدّعم

منذ إحداث الصندوق العام للتعويض بمقتضى قانون المالية لسنة 1967، سعت الدولة التونسية إلى الحفاظ على المقدرة الشرائية وحماية الاقتصاد الوطني من تذبذب أسعار الموادّ الأساسية من خلال آليّة الدّعم الموجّه للموادّ الغذائية، مثل العجين والحليب والحبوب والزيت النباتي. ويُعدّ هذا الصندوق بمثابة العقد الاجتماعي بين الدّولة ومواطنيها، حيث تتحمّل الدولة أعباء ارتفاع أسعار الموادّ الأساسيّة التي تستوردها من الخارج، وتعوّض الفرق بين أسعار الشّراء المرتفعة من مواردها الذاتيّة حتّى يتمكّن المستهلك من تأمين حاجياته الغذائيّة بأسعار تكون في مستوى قدرته الشرائيّة.

وقد تطوّرت كلفة دعم الحبوب حسب أرقام وزارة التجارة من 1253 مليون دينار سنة 2015 إلى 1848 مليون دينار سنة 2020. وتذكر  دراسة أعدّها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية سنة 2019 أنّ كلفة الدّعم كانت تُقدّر بـ730 مليون دينار سنة 2010، وأنّ ما يُقارب 30% من الدّعم على الموادّ الأساسيّة لا يُوجَّه إلى الفئات المتوسّطة. وقد بلغت قيمة دعم الحبوب 1104 مليون دينار سنة 2017.

وسعت الدّولة إلى تجميد أسعار الموادّ الأساسيّة منذ سنة 2008 بالتزامن مع الأزمة الماليّة العالميّة الّتي أدّت إلى تضخّم الأسعار ونقص السّيولة، ولكنّها في المقابل تكبّدت خسائر ارتفاع كلفة الإنتاج المتمثّلة خاصّة في الأجور والطاقة، ممّا عمّق الفرق بين كلفة التصنيع وسعر البيع، خاصّة فيما يتعلّق بالخبز.

ويُمثّل رفع الدّعم عن الموادّ الأساسية أهمّ أدوات التفاوض مع صندوق النّقد الدّولي، حيث اقترح في 2012 الحدّ من دعم الموادّ الأساسية والطاقة، على اعتبار أنّ الدّعم إجراء لا يُكرّس العدالة الاجتماعيّة لأنّه لا يُصرف لمستحقّيه. وصرف صندوق النقد الدولي في جوان 2013 قرضا بقيمة 1,7 مليار دولار مقابل فرض جملة من الإصلاحات، من بينها مراجعة منظومة دعم الموادّ الأساسية. وانخرطت حكومة نجلاء بودن في هذا المسار من خلال وثيقة التّفاوض مع صندوق النّقد الدّولي الّتي تقترح فيها مراجعة منظومة الدعم على المدى المتوسّط، بهدف التخفيف من الضغط على الدولة في تعويض كلفة الدعم  وتوجيهه إلى مستحقّيه.

حتميّة التبعيّة

تُقدّر منظّمة الأمم المتّحدة للأغذية والزراعة حاجيات تونس من القمح بـ5 ملايين طنّ سنويّا، في حين لا يكاد الإنتاج السنوي من الحبوب يتجاوز 1,6 مليون طنّ، ممّا يضطرّ الدّولة التونسية إلى اللّجوء إلى التوريد، خصوصا من أوكرانيا التي استوردت منها تونس ما قيمته 984 ألف طن في العام الماضي. وحسب أرقام الديوان الوطني للحبوب، فإنّ كمّية القمح اللين الّتي تستوردها تونس بلغت 1,137 مليون طن سنة 2021.

تذكر دراسة أعدّتها منظّمة الأمم المتّحدة للأغذية والزراعة أنّ استهلاك الفرد للقمح اللين الّذي يُعتمد في صناعة الخبز ارتفع من 65 كيلوغرام  للفرد سنة 1985 إلى 73 كيلوغرام للفرد سنة 2003، فيما تراجعت نسب استهلاك القمح الصلب من 204 كيلوغرام للفرد إلى 174 كيلوغرام خلال نفس الفترة، ممّا يعكس تغيّر العادات الغذائيّة والإقبال على استهلاك مشتقّات الفارينة. وتمثّل الحبوب 13% من النّفقات الغذائيّة، و51% من الواردات الغذائيّة. وخلال الفترة الممتدّة بين 2012 و2016، بلغ إنتاج الحبوب 1834,5 طنّ، مقابل استيراد 2296,4 طنّ بكلفة ناهزت 10 مليون دينار، لتصل نسبة العجز في إنتاج الحبوب إلى 55%.

ووفق المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجيّة، فإنّ القمح اللّين الّذي تُنتجه تونس لا يتجاوز 4%، في حين تستورد 96% من حاجياتها. وعلى كلّ خمس خبزات تُنتج في تونس، يتمّ توريد أربعة منها. وتبلغ القيمة الحقيقة للخبز الكبير 465 ملّيما ويتمّ بيعه بـ240 ملّيما، في حين تُباع الباقات بـ190 ملّيما في الوقت الّذي تُقدَّر فيه كلفته الحقيقية بـ374 ملّيما.

أزمة هيكلية قديمة متجدّدة

يحتلّ الخبز مكانة بارزة في المجتمع التونسي، وله دلالات سياسيّة واجتماعيّة “فقد كان الخبز محرّكا للفئات الثائرة على أنظمة الحكم”، لعلّ أبرزها “أحداث الخبز” التي جدّت في جانفي 1984، إثر الترفيع في سعر الخبز من 80 مليما إلى 170 مليما في عهد حكومة الحبيب مزالي، تمهيدا لرفع الدّعم عن هذه المادّة الأساسيّة وفق إملاءات صندوق النّقد الدّولي الهادفة إلى تركيز برنامج الإصلاح الهيكلي.

وقد تُذكّر أزمة التزوّد بالخبز الحاليّة بأزمات مرّت على البلاد التونسيّة خلال فترات حكم البايات، إمّا لأسباب مناخيّة أو بسبب فرض ضرائب على المحاصيل أو بسبب تصدير القمح. إذ كان القمح الصّلب هو المادّة الأساسية الّتي يُصنع منها الخبز. فقد عرفت تونس سنوات قحط مع بداية القرن التاسع عشر، ولم يعد بإمكان الفئات الشعبية شراء الحبوب وصنع الخبز ممّا دفع الأهالي إلى استهلاك ما اصطُلح على تسميته بـ”خبز السّوق”. يذكر المؤرّخ الهادي التيمومي في كتابه “المغيّبون في تاريخ تونس الاجتماعي” أنّ “اعتماد الخبّازين على الفارينة [أي القمح اللين] كان نتيجة ارتفاع أسعار القمح وقلّته خلال النصف الثاني من القرن التّاسع عشر […] فقد أثّر ذلك على مداخيل الخبّازين وأرباحهم، فلجؤوا إلى الدقيق المجلوب من خارج العمالة”. وتوقّفت المخابز الخاصّة بمدينة تونس عن صنع الخبز يوم 22 رجب 1283 وطالبوا بمراجعة أسعار القمح أو مراجعة سعر الخبزة الواحدة ووزنها.

كما ساهمت التحولات الاجتماعية في تركيبة المجتمع نتيجة تتالي الأزمات والمجاعات والأوبئة والاستعمار في تغيير العادات الاستهلاكية للمتساكنين الّتي أصبحت رهينة لما توفّره السوق المحليّة وتفرضه السوق الخارجيّة: “ثمّ إنّ وقوع البلاد في براثن الاستعمار الفرنسي […] عمّق من ظاهرة استهلاك الفئات الشعبية لخبز السّوق والّذي يُسمّى بأسماء أخرى كخبز الـbaguette وغيرها من التقاليد والعادات الأوروبية عامّة”.

ونظرا للصعوبات الهيكلية لإنتاج الحبوب محلّيا ولارتباط تونس في أمنها الغذائي بدول أخرى، بالإضافة إلى مركزيّة العجين في العادات الغذائية التونسيّة، مع الدّعوات المتتالية لمراجعة منظومة الدّعم، فإنّ هذه العوامل مجتمعة تجعل من الحبوب قطاعا هشّا وجبت إعادة النظر في حوكمته.