ملولة هي قرية حدودية تقع شمال غرب البلاد، تتبع إداريًّا معتمدية طبرقة من ولاية جندوبة، احترقت مساحات شاسعة من غاباتها تزامنا مع موجة الحر الخانق يوم 24 جويلية الجاري لتقضي على ما يُناهز 500 هكتار من الغطاء الغابي والمحاصيل الفلاحية، متسببة في إجلاء ما يقارب 100 متساكن إلى مراكز إيواء عبر البحر. ”إنّه كابوس وكارثة حقيقية. أنا شخصيّا استخدمت سيّارتي لنقل جيراني إلى الشاطئ تفاديا لمخاطر الحريق والحمد لله أنّ الأمور قد عادت إلى نصابها في الوقت الحاضر“، يقول صاحب أحد محلاّت بيع الموادّ الغذائية لنواة.

انطفاء الحريق وهدوء نسبي في القرية

قرب الميناء الترفيهي في طبرقة، تبدو الأجواء احتفاليّة في محاولة لتنشيط السياح والوافدين على المكان. ومع اتخاذ الطريق المؤدّية إلى قرية ملولة والارتفاع شيئا فشيئا على مستوى البحر، أخذ المشهد يتغيّر تدريجيًّا، لتختلط النسائم البحرية الرطبة بروائح الدّخان الّذي مازال عالقًا بأشجار الفلّين والبلّوط المتفحّمة.

تشير الساعة إلى الواحدة ظهرًا. لا تبدو الحركة حثيثة في الشارع الرئيسي لملولة، النّاس يُعدّون على أصابع اليد الواحدة في المقهى، فيما يُرجع الصّدى صوتَ إمام المسجد وهو يلقي خطبة يوم الجمعة في مسجد القرية أسفل المنحدر. ”تجاوزنا الأزمة“، يقول نادل المقهى بتوجّس، ردّا على سؤالنا حول الوضع في ملولة، بعد أقلّ من أسبوع عن الحريق الّذي نشب في الغابة المتاخمة للحدود مع الجزائر، فيما كانت تجوب سيّارات الحماية المدنيّة شارع القرية، جارة خلفها خراطيم المياه.

لم يكن وقع الكارثة سهلاً على أهالي ملولة، حكيم الرويسي صاحب أحد المشاريع الفلاحية، التهمت النيران خلايا النّحل التي يعيش منها، والتي يبلغ عددها 94 خليّة، إلى جانب خسارة 350 طير دجاج، دون أن يغطّي مصاريف تجهيز مشروعه ويسدّ الديون المتخلّدة بذمّته لدى البنوك، وفق ما ذكره في تصريحات إعلامية. النيران أتت على سيّارة كان قد وضعها أحد المتساكنين للبيع قصد تأمين مصاريف علاجه، وفق ما تناقله روّاد مواقع التواصل الاجتماعي. وقد انطلقت حملات تضامنية من أجل جمع تبرّعات ماليّة لفائدة أهالي ملّولة بلغت إلى حدود يوم 25 جويلية الجاري ما يُقارب 24 ألف دينار، فيما تنقّلت قافلتان من تونس العاصمة إلى ملولة محملة مساعدات عينيّة وقوارير مياه معدنيّة وبعض الملابس للنساء والأطفال على وجه الخصوص.

توجهنا بتؤدة إلى دوّار الحساينيّة، حيث تقيم العائلات المتضرّرة من الحريق. حليمة، خدّوج والهادي متساكنون احترقت منازلهم بالكامل. ”لو لم أُرزق بابنة لما وجدت من يكفلني بعد ما أتى الحريق على بيتي. أنا وأخي نقيم لدى ابنتي هنا في ملولة“، تقول لنا حليمة بحُرقة، وهي تبكي من هول ما حصل لها.

استقبلنا الهادي شقيق حليمة بحفاوة في الطّريق الوعرة، وشكر سعي من قدّم المساعدات من أفراد ومنظّمات وجمعيّات: ”لقد أتونا يوم أمس بقوارير المياه المعدنيّة وبأكياس ”المقرونة“ وبعض الموادّ الغذائية، وننتظر أن تأتينا قافلة أخرى بالمساعدات“، ثمّ اصطحبنا كلّ من الهادي وخدّوج وحليمة في رحلة شاقّة إلى حيث كانوا يقيمون، قبل أن يأتي اللهب على الأخضر واليابس.

طريق وعرة على السكان، سهلة على الحرائق

بعد مسيرة خمس وأربعين دقيقة تقريبًا في طريق وعرة صعبة المراس، بلغنا قمّة الجبل حيث تفحّمت البيوت بالكامل ولم يبقَ منها سوى الحُطام. تنتاب خدّوج البالغة من العمر سبعًا وستّين سنة نوبة بكاء على بيتها ومطبخها الّذي تراكمت فيه بقايا حجارة اختلطت بموقد محترق وقِدرٍ وابريق شاي، فيما يلوح من بعيد كرسيّ من البلاستيك ذاب هيكله من النيران وبقايا قارورة غاز منزلي، زاد انفجارها هول الدمار الذي حل بالمنزل. ”لو كان بيدي لانتقلت إلى القرية، حتّى إذا ما نشب حريق في المستقبل أنقذت نفسي من الخطر“، تتحسّر حليمة على سكنها في أرض والدها، التي لا يصلها الماء الصالح للشّرب، ولا تتوفّر بها شبكة اتّصالات. ”ماذا تفعلون لو أُصيب أحد بمكروه؟“ ”لا نفعل شيئا. هناك مكان تغطّيه شبكة الهاتف الجوّال أحاول أن أصل إليه لأتواصل مع من في القرية لمدّ يد المساعدة. هذه الطّريق كنت أقطعها جيئة وذهابًا منذ نعومة أظافري، وتعوّدت عليها“، يقول الهادي الهميسي، أحد المتضرّرين من الحريق.

تقتات العائلات المقيمة في دوّار الحساينيّة أساسًا من الصّيد البحري، ويعوّل الهادي في مصاريفه اليومية من غذاء وملبس وشُرب على ابنه الّذي يسكن في ملولة. ”كنت فيما مضى أفضّل المبيت في طبرقة أنا وابنتي على أن أركب الخطر وأعود إلى البيت عند نزول المطر“، يخبرنا أحد المتساكنين، مستعيدًا ذكريات بعيدة ظلّت محفورة في ذاكرته بسبب قسوة الطبيعة وجفائها، مضيفًا: ”من أجل ذلك ينقطع أبناؤنا عن الدّراسة“.

كانت خدّوج تملك قطيعًا قليل العدد من الماعز أكلتها النيران، ولم يبقَ لها سوى ثلاثة كلاب يحرسون الرّكام، أخذت تسقيهم الماء مُشفقة وهي تقول: ”في المال ولا في الأبدان“، لتخفّف وطأة المصيبة على نفسها. ورغم أنّ الحريق لم يذر شيئا على حاله إلاّ أنّ خدّوج تزوّدت بصفائح بلاستيكية رصّفتها تباعًا في حوش منزلها لتسقي قططها وكلابها. ”نحن نتزوّد بالمياه من عين لا ترضى الكلاب أن تشرب منها ولا يقدر إنسان على غسل قدميه فيها لقذارتها. لكن لا حيلة لنا“، تضيف إحدى الجارات التي رافقتنا إلى حيث كانت تقيم.

على مقربة من المنازل المحترقة كانت الأبقار ترعى وسط الكلأ في مشهد يُناقض واقع الحرائق ويبثّ بعضًا من الأمل. ”هذه أبقار ملّولة، دائما ترعى هنا لفترة طويلة تناهز الستة أشهر“، يوضّح لنا الهادي.

اتّسعت رقعة الحرائق في قرية ملولة في الفترة الممتدّة بين 19 و24 جويلية الجاري، لتلتهم مساحة غابيّة تناهز 450 هكتار من شجر الصنوبر البحري حسب منظّمة غرينبيس المختصّة في المحافظة على البيئة. ووفق بيان وزارة الفلاحة، فإنّ عدد الحرائق أيّام 24 و25 و26 جويلية الجاري قد بلغ عشرين حريقا بولايات باجة وجندوبة ونابل وبنزرت والقيروان وسليانة والقصرين، كان أشدّها بمناطق ملولة وعين الصبح بطبرقة ولاية جندوبة ووشتاتة بباجة والكريب بسليانة وزغدود بالقيروان. يعود السبب الرئيسي في ذلك إلى ارتفاع درجات الحرارة التي تجاوزت المعدّلات العاديّة بمعدّل يتراوح بين ستّ وعشر درجات.

تتوزّع الغابات على مساحة 5.6 مليون هكتار، أي ما يعادل 34% من المساحة الإجمالية للبلاد وفق أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، غابات تساهم في الحفاظ على التوازن البيئي ومقاومة التصحر والانجراف وتأمين التنوّع البيولوجي، بالإضافة إلى تأمين مصادر رزق لسكّان المناطق المتاخمة للغابات من خلال صناعة الخشب والزيوت النباتية والفلّين. فارتباط حياة الأهالي في أرياف طبرقة بالغابة وخيراتها وحجم الاضرار المادية والنفسية التي خلفتها ألسنة اللهب، يفسر الغضب وصيحات الاستهجان التي رافقت مرور موكب رئيس الجمهورية بالمنطقة. فرغم الجهود الكبيرة التي بذلتها فرق الإطفاء لإنقاذ المواطنين ومحاصرة ألسنة اللهب، فإن تواضع الإمكانيات وتأخر طائرات الإطفاء، إضافة إلى سرعة الرياح بالمنطقة الجبلية جعلت مهام الإنقاذ عسيرة محفوفة بالمخاطر. أمر دفع الأهالي إلى التساؤل حول جدية الاستعدادات السنوية لمجابهة موسم الحرائق ونجاعة خطط مجابهة الكوارث لتجنب سيناريوهات شبيهة في المستقبل.