زيارة عبر فيها سعيّد عن نفاذ صبره من تلكؤ ”الفاسدين“ في الجنوح إلى الصلح وارجاع ”أموال الشعب“ التي غنموها بأساليب غير مشروعة، وأوضح انه ضاق ذرعا بألاعيب محاميهم الذين يستغلون بعض الفصول القانونية والتعقيدات الإجرائية للمماطلة وتمطيط مسار التفاوض بهدف تخفيض قيمة المبالغ المتوجب دفعها لعقد اتفاق الصلح مع الدولة. كما وجه سعيّد خلال اللقاء تعليمات لأعضاء اللجنة بالمرور إلى السرعة القصوى والالتزام بروح القانون لا بتفاصيله وجزئياته وأن يكونوا حاسمين في تعاملهم مع طالبي الصلح عبر تحديد مبالغ تعويضية غير قابلة للتفاوض. ولم تكن تهديداته إلى المعنيين بالصلح أقل وضوحا: دفع المبالغ المحددة دون مماطلة أو المرور إلى المحاكم والسجون.
آمال كبيرة
في 21 مارس 2022 صدرت ثلاثة مراسيم رئاسية دفعة واحدة: المرسوم عدد 13 المتعلق بالصلح الجزائي وتوظيف عائداته، والمرسوم عدد 14 المتعلق بمقاومة المضاربة غير المشروعة، والمرسوم عدد 15 المتعلق بالشركات الأهلية. لم يكن إصدار المراسيم الثلاث ونشرها في نفس اليوم محض صدفة فهي مترابطة وتشكل مع بعضها أساس الخطاب/البرنامج الاجتماعي-الاقتصادي لرئيس الجمهورية.
مرسوم المضاربة غير المشروعة هو رجع صدى لكلام سعيّد المتواصل عن الاحتكار بوصفه الآفة الكبرى للاقتصاد التونسي والأداة الأساسية التي يستعملها ”أعداء الشعب“ و”المتآمرون على الوطن“ للتنكيل بالمواطنين وتحريضهم على الدولة والسلطة. أي أنّ الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد مفتعلة وسببها انحرافات أخلاقية لحفنة من معدومي الضمير الجشعين و/أو الخونة المأجورين. وتاليا، ووفق هذا المنطق، فإن تاجرا أو موزعا يحتكر بضع لترات من الزيت النباتي أو كيلوغرامات من السكر أخطر على الاقتصاد الوطني من المنظومات الريعية المتركزة منذ عقود ومن كل ”كارتيلات“ البنوك والتأمينات والاتصالات وموردي السيارات، الخ.
أما مرسوم الشركات الأهلية -وهي هجين بين تعاضديات ستينيات القرن الفائت ومفهوم ”الاقتصاد التضامني“- فهو بمثابة ”العصا السحرية“ -طبعا حسب الرئيس وأنصاره- التي ستخلق مناخا اقتصاديا جديدا يمكن الجميع -خاصة الفئات الأفقر والهوامش الجغرافية الأقل حظا – من احداث مواطن شغل وخلق الثروة. وهكذا ستصبح الشركات الأهلية قاطرة للتنمية ومحاربة الفقر، تفرض فاعلين جددا يقدمون نموذجا اقتصاديا مختلفا عن النموذج القائم في تونس منذ سبعينيات القرن الفائت. طبعا، هذا السيناريو الوردي، قد يحوّل الشركات الأهلية إلى نواة صلبة لشبكات زبائنية اقتصادية وسياسية جديدة.
وبما أن ”المال قوام الأعمال“ فإن ”الفلسفة“ الاقتصادية ل”مسار 25 جويلية“ تحتاج إلى دفعة قوية في البداية حتى تتجسد واقعا وتصبح مثالا مغريا، أي انها بحاجة إلى تسهيلات وتمويلات من الدولة، هنا يأتي دور مرسوم الصلح الجزائي، فالفصل 30 منه (الباب الثالث: ”في توظيف العائدات المالية للصلح الجزائي“) ينصّ على توظيف الأموال المودعة ”بحساب عائدات الصلح الجزائي لتمويل المشاريع التنموية“ في تمويل إنجاز مشاريع تنموية اعتمادا على خصوصية المناطق واحتياجات الأهالي والأولويات الوطنية والمحلية والأهداف المرسومة بمخططات التنمية، وأن تُرصد 80 بالمئة من عائدات اتفاقيّات الصلح لفائدة المعتمديات حسب ترتيبها من الأكثر فقرا إلى الأقل فقرا. في حين تخصص ال 20 بالمئة المتبقيّة ”لفائدة الجماعات المحلية بغاية المساهمة في رأس مال مؤسسات محلية أو جهوية تأخذ شكل شركات ذات صبغة أهلية أو استثمارية أو تجارية“.
اعتبر الفصل الأول من المرسوم ان الصلح الجزائي ”تكريس لمبدأ العدالة الجزائية التعويضية“، وحدّد القضايا التي يشملها: ”الجرائم الاقتصادية والمالية والأفعال والأعمال والممارسات التي ترتّبت عنها منافع غير شرعية أو يمكن أن تترتب عنها منافع غير شرعية أو غير مشروعة والتي أنتجت ضررا ماليا للدولة والجماعات المحلية والمنشآت والمؤسسات والهيئات العمومية أو أي جهة أخرى“. ووضّح الفصل 2 منه الهدف من هذا المسار: ”استبدال الدعوى العمومية أو ما ترتّب عنها من تتبّع أو محاكمة أو عقوبات أو طلبات ناتجة عنها تمّ تقديمها أو كان من المفروض أن تقدم في حقّ الدولة أو إحدى مؤسساتها أو أي جهة أخرى وذلك بدفع مبالغ مالية أو إنجاز مشاريع وطنية أو جهوية أو محلية بحسب الحاجة“. أمّا المعنيّون بالصلح الجزائي فقد حدّدهم الفصل الثالث. وعموما يقوم الصلح الجزائي على فكرة أن التعويض (النقدي أو في شكل مشاريع) سيقوم على أساس تراتبي: أموال أكثر المتورطين في الفساد ستذهب إلى أكثر المعتمديات فقرا، وهكذا دواليك.
يتوقع الرئيس سعيّد أن يفضي مسار الصلح الجزائي مع كبار المتورطين في قضايا الرشوة والفساد -460 شخص حسب تقديرات الرئيس- إلى استرجاع ما بين 10 و13،5 مليار دينار تونسي على الأقلّ. اذ يجب الأخذ بعين الاعتبار نسب التضخم عند تقدير مبلغ الضرر وكذلك إضافة 10 بالمئة عن كل سنة من تاريخ حصول الجريمة الاقتصادية.
يبني رئيس الجمهورية تقديراته وتوقعاته على التقرير النهائي ل”لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد“ (المعروفة إعلاميا بلجنة عبد الفتاح عمر) التي أحدثت بمقتضى المرسوم عدد 7 لسنة 2011، وكذلك المرسوم عدد 13 لسنة 2011 الذي تم تنقيحه بالمرسوم عدد 47 لسنة 2011.
لم يمثل اصدار مرسوم ”الصلح الجزائي“ مفاجأة فلطالما كان حاضرا في قلب ”مشروع“ قيس سعيّد.
«للتاريخ، لقد تقدمت يوم 20 مارس 2012 بمقترح إلى الجهات المسؤولة يومئذ وإلى عدد من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي يتمثل في إبرام صلح جزائي مع المتورطين في قضايا الفساد الاقتصادي والمالي علما وأن مؤسسة الصلح الجزائي موجودة في القانون التونسي بمجلة الإجراءات الجزائية، وفي غيرها من النصوص القانونية الأخرى كمجلة الديوانة ومجلة الغابات وغيرها.»
هكذا تحدث أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد خلال تصريح صحفي ادلى به سنة 2016 عبر فيه عن موقفه من
”قانون المصالحة“ الذي كان رئيس الجمهورية آنذاك، الباجي قايد السبسي، يريد تمريره مسنودا بتحالف النهضة/نداء تونس.
حضر الصلح الجزائي بقوة في الحملة الانتخابية الرئاسية للمترشح قيس سعيّد سنة 2019، وتكرّر ذكره في خطاب الرئيس قيس سعيّد خلال الفترة التي كان فيها محدود الصلاحيات وبلا حزام برلماني قوي يسنده. حتى انه أعلن في 24 مارس 2021 ان مشروع قانون الصلح الجزائي جاهز وسيعرض على البرلمان قريبا، لكن ذلك لم يحدث. وحصل ما جنّب الرئيس مشقّة التوجّه إلى مجلس نواب الشعب: اعلان ”الاجراءات الاستثنائية“ في 25 جويلية 2021 واصدار الأمر الرئاسي عدد 117 في 22 سبتمبر 2021 والذي ركز السلطتين التنفيذية والتشريعية في يدي رئيس الجمهورية. بعد سويعات من اعلان الإجراءات الاستثنائية، استقبل الرئيس سعيّد – في 28 جويلية 2021 – رئيس الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، سمير ماجول، ووجّه من خلاله رسائل تهديد واضحة إلى ال460 رجل أعمال المتورطين في الفساد وشدّد على ضرورة استرجاع الأموال المنهوبة من خلال الصلح الجزائي. وتكرّر حديث الرئيس عن نفس المشروع في اجتماعات وخطابات أخرى وصولا إلى تقنينه واصدار المرسوم يوم 20 مارس 2022، أي بعد عشر سنوات بالضبط من طرحه أول مرة (20 مارس 2012).
لكن لما كل هذا الاصرار؟ فضلا عن توفير التمويل اللازم لدفع ”مشروعه“ الاقتصادي، يسعى قيس سعيّد إلى خلق حيّز ماليّ يمكنّه من تخفيف ضغط صندوق النقد الدولي والشروط التي وضعها لإقراض تونس مع ما قد يترتب عليها من اثار اجتماعية قد تدخل ”مسار 25 جويلية“ في منطقة اضطرابات قوية. كما أنّ استرجاع المبالغ الضخمة المنهوبة التي ”عجزت“ القوى السياسية التي حكمت تونس ما بين 2011 و2021 عن استرجاعها سيعزز شعبية و”شرعية“ رئيس الجمهورية، وسيقوّي موقعه في أي ”اشتباك“ مع رجال الأعمال.
لكن يبدو حسب المعطيات الأولية ان المسافة ما انفكت تطول بين الواقع والمأمول.
حصيلة هزيلة
يبدو ان الغضب الكبير الذي أظهره قيس سعيّد خلال زيارته الأخيرة لمقر لجنة الصلح الجزائي متأت ممّا اعتبره بطئا شديدا ونقصا فادحا في النجاعة. عشرة أشهر مرّت على انطلاق عمل اللجنة الذي كان يفترض ان ينتهي في شهر ماي الفائت قبل ان يمدّد لها الرئيس 6 أشهر إضافية تنتهي قانونيا بعد أسابيع قليلة (نوفمبر 2023). لم تجر الأمور كما أراد وتوقّع الرئيس، فحسب تصوره كان الأمر بسيطا للغاية: تنطلق اللجنة من ”تقرير عبد الفتاح عمر“ وتتصل بالأسماء المعنية -أو العكس- وتعرض عليها صلحا مقابل دفع مبلغ تعويضي فيقبل الفاسدون ويدفعون وهم صاغرون فتمتلئ خزائن الدولة ب”آلاف المليارات“ في غضون أشهر قليلة. اصطدمت اللجنة بنفس العقبات التي لقيتها مختلف اللجان والهيئات والدوائر القضائية التي تعاملت مع القضايا ذات الصلة بالفساد: العمل على ملفات شبه فارغة (بالأحرى مفرغة) أو مكتظّة بشكل يعقّد مسار الوصول إلى الحقيقة، وضرورة اجراء اختبارات وأحيانا اختبارات مضادة، التواصل مع عدة جهات رسمية مع كل ما يعنيه ذلك من إجراءات بيروقراطية ثقيلة وبطيئة، ومجابهة نفوذ رجال الأعمال المتمتعين بحماية من كبار السياسيين والإداريين، تعقد الأمور نتيجة تغير أوضاع جزء هام من الذين وردت أسمائهم في ”تقرير عبد الفتاح عمر“ (هروب إلى الخارج، افلاس، سجن، وفاة، تسويات)، الخ.
هذا البطء أحبط الرئيس سعيّد وجعله يضغط بشكل مستمر ومتصاعد على أعضاء اللجنة. في 21 مارس الفائت، أي بعد أقل من أربعة أشهر من تأدية اليمين من قبل أعضاء اللجنة، صدر أمر رئاسي يقضي بإنهاء مهام رئيسها، السيد مكرم بن منا. ومازالت اللجنة إلى حدّ تاريخ كتابة هذه الأسطر بلا رئيس. ثم جاء الدور على إحدى عضوات اللجنة، السيدة فاطمة اليعقوبي، التي أقيلت يوم 7 جويلية 2023 بسبب ”معلومة“ صرحت بها خلال زيارة أداها الرئيس سعيّد للمقر يوم 20 جوان. ”معلومة“ مفادها ان رجل أعمال تونسي موقوف قدّم مطلبا للتمتّع بالصلح الجزائي مقابل دفع ”30 ألف مليون دينار تونسي“ (حوالي 10 مليار دولار أي خمس مرات قيمة القرض الذي تسعى تونس للحصول عليه من صندوق النقد الدولي). وأكدّت العضوة ان اللجنة قامت بالتثبّت في ثروة وممتلكات طالب الصلح ووجدت أنّ المعطيات التي أدلى بها صحيحة. هذا الرقم الفلكي اثار بالطبع شكوك الإعلام والرأي العام بصفة عامة، كما أطلق موجة من السخرية من اللجنة ومن السلطة التي عيّنتها. وسرعان ما ثبت ان “المعلومة” الخطيرة ليس لها أي أساس واقعي مما زاد في احراج اللجنة ورئيس الجمهورية وسرّع في انهاء مهام السيدة اليعقوبي.
فضلا عن الضغط الذي يسلّطه الرئيس من خلال قدومه المباشر و”الفجائي“ في أكثر من مرّة إلى مقرّ اللجنة والتعليمات التي يعطيها لأعضائها بشكل متشنّج لا يخلو من لوم ووعيد، فإن الحضور الدائم لمشروع الصلح الجزائي في الخطاب الرئاسي والترفيع في سقف آمال التونسيين بخصوص المبالغ المتوقع استردادها يجعل وضعية أعضاء اللجنة أصعب، مما يدفعهم ما بين الحين والآخر إلى التصريح بأن اللجنة تحقّق تقدما هاما وإنّها تلقّت مطالب صلح كثيرة بعضها يتعلّق بأسماء كبيرة دون اعطاء أرقام أو معطيات تمكننا من تقييم مدى التقدّم. ولا نعلم ان كان هذا التكتّم ينبع من الالتزام بواجبي التحفّظ والسريّة أم انه اضطراري بسبب التعثّر الكبير لمشروع الصلح الجزائي. مظاهر الغضب التي لاحت على الرئيس في زيارته الأخيرة للجنة ترجح كفة الاحتمال الثاني. ما يعزّز صحة هذه الفرضية، أنّ ”أنصار مسار 25 جويلية“ الذين اعتاد بعضهم -وأغلبهم ليس لديه أي موقع رسمي في أجهزة الدولة- تسريب معلومات حصرية (قبل وصولها إلى وسائل الإعلام أو إعلانها رسميا) حول اعتقالات وقرارات رئاسية ”خطيرة“، لم يخوضوا كثيرا في مسألة الصلح الجزائي ولم ”يسرّبوا“ أسماء أو أرقام كما فعلوا في قضايا أخرى.
حتى الأسماء التي تداولتها وسائل الإعلام أُعلن عنها بفضل محامي طالبي الصلح، ومن أبرزها مروان المبروك، والأخوين لطفي والمولدي علي، وشفيق الجراية، وعماد الطرابلسي. وبدا من كلام الرئيس سعيّد خلال لقائه الأخير بأعضاء لجنة الصلح انه غير راض عن الصفقات التي أبرمت مع بعض رجال الأعمال. وأشار تلميحا إلى التسوية التي تمت مع النائب السابق ورجل الأعمال لطفي علي عندما تحدث عن ”الشاحنات“ (المستعملة في نقل الفوسفاط)، وكذلك المفاوضات مع مروان المبروك مذكرا إياه بمبلغ ال”3000 مليار“ التي كان مستعّدا لإرجاعها إلى الدولة في الأيام الأولى بعد ثورة 2011. يذكر هنا ان رجل الأعمال مروان المبروك قد قدّم مطلب صلح إلى اللجنة يوم 1 سبتمبر 2023، بعد ساعات قليلة من صدور قرار من النيابة العمومية يحجر عليه السفر. وربما قد نشهد في المدّة القادمة أوامر قضائية مشابهة لتخويف المعنيين بالصلح الجزائي وتسريع انخراطهم في المسار.
المسمار الأخير في نعش مسار العدالة الانتقالية؟
لا بدّ من التذكير ببعض المعطيات الهامة في علاقة بالوثيقة الأساسية التي أنبنى عليها ”مشروع“ الصلح الجزائي، أي تقرير اللجنة الوطنيّة لتقصّي الحقائق حول الرّشوة والفساد لسنة 2011. هذا التقرير صادر عن لجنة أحدثت في سياق خاص جدّا تمثل في سقوط رأس النظام آنذاك، زين العابدين بن علي، ودخول السلطة القائمة حينها في مرحلة مناورة للشارع المنتفض ومفاوضات مع نخب ”المعارضة التاريخية“ لتخفيف الأضرار والتوصّل إلى ”توافق“ يحدث تغييرا محدودا في بنية النظام السياسي دون الإطاحة به. طوال المدة التي عملت فيها اللجنة كانت السلطة السياسية في أيدي رئيس جمهورية ورئيس حكومة مؤقتين (فؤاد المبزع والباجي قايد السبسي) كليهما خدم -في مواقع مختلفة- النظام الديكتاتوري وسياساته الاجتماعية-الاقتصادية طيلة عقود، وكذلك الحال بالنسبة لكبار الموظفين وحتى القضاء.
واقتصر التقصّي الذي قامت به اللجنة على الفترة الممتدّة ما بين 7 نوفمبر 1987 و14 جانفي 2011، أي ان هناك رجال أعمال وسياسيين وموظفين راكموا ثروات ومنافع فاسدة المصدر قبل قدوم بن علي إلى السلطة وبعد خروجه منها لم يشملهم التقرير. لا نجد قائمة مفصلة بأسماء المتهمين بالتورط في الجرائم الاقتصادية والفساد، بل قائمة تتضمن ”الإحالات الصادرة عن اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد إلى السادة وكلاء الجمهورية“ وعددها 463. لا تتعلق كلها برجال أعمال وبأفراد ”العائلة الحاكمة“ بل تشمل مسؤولين سياسيين وموظفين في القطاعين العام والخاص وأمنيين ومحامين ومواطنين ”عاديين“ وغيرهم، وبعضهم تتعلق به عدة قضايا.
ويذكر التقرير أنّ اللجنة تلقت -إلى حدود 27 أكتوبر 2011- 10062 عريضة، منها 5206 عريضة فقط تستوفي الشروط الأوليّة للقبول. وبعد الفرز المعمّق تبين ان 2366 عريضة فقط تدخل تماما صلب اختصاصها، أحالتها فيما بعد إلى الوزارات المعنية. لا بد من الإشارة هنا إلى الخلط الرائج، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، بين تقرير لجنة تقصي الحقائق ووثيقة ”سُرّبت“ وانتشرت منتصف سنوات 2000 تتضمن أسماء عشرات رجال الأعمال التونسيين وقيمة المبالغ الضخمة التي اقترضوها من بنوك عمومية تونسية ولم يقوموا بسدادها. كما يجب ألا ننسى ان لجنة تقصي الحقائق ليست هيكلا قضائيا ولم تصدر أحكاما، بل كان دورها توثيقيّا بحتا.
بعيدا عن كل هذه المعطيات والتفاصيل، ”اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد“ (الجرائم الاقتصادية) و”اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق حول التجاوزات والانتهاكات“ (الجرائم المتعلقة بحقوق الانسان) و”اللجنة العليا للإصلاح السياسي“ (تغيير النظام السياسي) وثلاثتها أحدثت في جانفي 2011 شكّلت -على الرغم من كل المؤاخذات- الخطوة الأولى في مسار العدالة الانتقالية. تلت تلك الخطوة خطوات كثيرة، وشهد المسار لحظات صعود وانكسار قبل الاندحار شبه الكامل. تماما كما حدث للمسارين الآخرين: ”الثوري“ و”الانتقال الديمقراطي“. ويبدو ان الرئيس سعيّد لا يعترف بهذه الخطوات واللحظات التي امتدّت على عشر سنوات، ما بين أكتوبر 2011 و25 جويلية 2021. عشر سنوات، يصرّ رئيس الجمهورية وأنصاره المخلصين ومساندوه ”النقديّين“ على انها كتلة واحدة اسمها ”العشرية السوداء“، حالكة الظلام يجب الغائها تماما من تاريخ البلاد ومسح كل الخطايا والآثام التي ارتكبت خلالها.
نستذكر هنا عدة قوانين وهيئات وهياكل أقرّت لتصفية ارث الديكتاتورية من انتهاكات وجرائم ببعديها السياسي-الحقوقي والاجتماعي-الاقتصادي. مثل انشاء وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في ديسمبر 2011 والمصادقة على قانون العدالة الانتقالية في 2013 واحداث ”هيئة الحقيقة والكرامة“ (2014 – 2018) والدوائر الجنائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية بالمحاكم الابتدائية المنتصبة بمقار محاكم الاستئناف بتونس وصفاقس وقفصة وقابس وسوسة والكاف وبنزرت والقصرين وسيدي بوزيد (أمر عدد 2887 لسنة 2014)، أو لمنع تكرارها مثل ”الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد“ (أحدثت في 2012 لتخلف لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد وتكمل عملها) وعدة هيئات مستقلة مدسترة (دستور 2014، الباب السادس) وغير مدسترة (هيئات الوقاية من التعذيب ومكافحة الاتجار بالأشخاص والنفاذ إلى المعلومة). ونستذكر جلسات الاستماع العلنية لضحايا الديكتاتورية، ومعارك ضحايا وأهالي شهداء الثورة ضد النسيان ومن أجل تثبيت حقوقهم، وسعي ضحايا الانتهاكات للعدالة بإصرار مثير للإعجاب على الرغم من عدم توفر شروط المحاكمة الجدية. ونستذكر أيضا المعركة الشرسة وطويلة الأمد التي خاضتها أساسا مكوّنات من المجتمع المدني -بمساندة من بعض القوى السياسية- ضد مشروع قانون المصالحة الذي أراد الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي تمريره منذ أواخر سنة 2015، واستطاع ذلك في خريف 2017 بعد ان تمّ تعديله عدّة مرات، فكان ”انتصارا“ بطعم الهزيمة.
لم ينجز الكثير من ”العدالة الانتقالية“، فلقد تمتّع الجلادون والمنتهكون والفاسدون بمستويات قويّة ومتعدّدة من الحماية وفرتّها لهم أجهزة الدولة عبر تعطيل وتعقيد مسارات التقصي والمحاسبة، ومؤسسات إعلامية احترفت تبييض الصفحات المظلمة، وبالطبع القوى السياسية التي تقاسمت السلطة منذ انتخابات المجلس التأسيسي في 2011 وصولا إلى ”إجراءات 25 جويلية 2021“ -ومنها من كان في وقت ما ضحية للانتهاكات الجسيمة، لكن المصالح غلبت المبادئ.
فضلا عن كل العقبات التي اعترضت طريق العدالة الانتقالية، فإنها جوبهت بكم هائل من التشويه والمغالطات صوّرتها كمجرد آليّة توظّفها بعض القوى السياسية (حركة النهضة أساسا) لتحصيل مكاسب مالية وامتيازات أخرى مثل تعيين منتسبيها في وظائف حكوميّة وابتزاز قضاة ورجال أعمال وأمنيين. كثيرا ما تمّ توجيه اتهامات بالفساد وسوء التصرّف في المال العام وتزييف الحقائق إلى المؤسسات المعنيّة بمسألة العدالة الانتقالية، وعلى رأسها ”هيئة الحقيقة والكرامة“. وبتتالي السنوات وتغيّر اتجاهات رياح المصالح وخرائط التحالفات السياسية صارت العدالة الانتقالية حلما صعب المنال بالنسبة للمطالبين بها، وعبء يجب التخلص منه بالنسبة للحكّام، ومسارا سيّء السمعة بالنسبة لجزء هام من الرأي العام في تونس. كان من ”الطبيعي“ أن يحس عدد كبير من التونسيين بالسخط والغضب عندما قاد القيادي في حركة النهضة عبد الكريم الهاروني، يوم 11 جويلية 2021، تحرّكا لمطالبة حكومة هشام المشيشي بضرورة تفعيل صندوق الكرامة لتعويض ضحايا الاستبداد، في حين كانت البلاد تغرق في أزمة وبائية قاتلة واقتصادية خانقة. بعد ذلك التحرّك بأيام قليلة، تحديدا في 25 جويلية، نظمت عدة مسيرات وتحركات في مناطق مختلفة من البلاد استهدفت أساسا “حركة النهضة”، وصلت إلى حدّ الهجوم على بعض مقراتها.
مساء ذلك اليوم أعلن الرئيس قيس سعيّد جملة من ”الإجراءات الاستثنائية“ التي أنهت عمليا مسار ”الانتقال الديمقراطي“ قبل أن تنهي بعد أشهر مسار العدالة الانتقالية. قد لا يتسع المجال هنا لتعداد القرارت التي اتخذها رئيس الجمهورية تجاه القضاء والعدالة ”المستقرّة“ خلال السنتين الماضيتين، لكن يمكننا أن نستذكر بعض الخطوات التي قام بها إزاء العدالة الانتقالية ومسار تحصين البلاد ضد تكرار جرائم الديكتاتورية بمختلف أصنافها.
على الرغم من ان الرئيس سعيّد هو من أذن بنشر التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة في الرائد الرسمي (بتاريخ 24 جوان 2020) فإنه لم يخط خطوات عملية نحو تنفيذ المقررات والتوصيات الواردة فيه، بل يمكن القول انه تجاهلها والتفّ عليها عبر إصداره في أفريل مرسوم انشاء ”مؤسسة فداء للإحاطة بضحايا الاعتداءات الإرهابية من العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي والديوانة وبأولي الحق من شهداء الثورة وجرحاها“ الذي ساوى -دون الاخذ في عين الاعتبار السياقات المختلفة تاريخيا وقانونيا- بين مدنيين اعتدت عليهم وقتلتهم أجهزة الدولة الرسمية وبين قوات نظامية حاملة للسلاح تقاتل ميليشيات وجماعات إرهابية. وقبل ذلك، كانت سلطة ”25 جويلية“ قد أمرت في أوت 2021 بإغلاق المقرات المركزية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والتحفظ على الوثائق المحفوظة بها. ثم ألغى دستور 2022 ”الهيئات الدستورية“ التي أقرّها دستور 2014 كضمانة إضافية لعدم العودة إلى الوراء. الإعلان عن الحركة القضائية 2023 – 2024 في أواخر أوت الفائت يؤكد موقف السلطة السياسية القائمة من العدالة الانتقالية، وهذا ما أشارت له جمعية القضاة التونسيين في بيانها الصادر يوم 5 سبتمبر 2023. اذ اعتبرت ان هذه الحركة القضائية ”تُجهز نهائيا على المسار القضائي للعدالة الانتقالية“: ”في حركة غير مسبوقة منذ تركيز الدوائر الجنائية للعدالة الانتقالية بموجب الأمر عدد 2887 المؤرخ في 08 أوت 2014 وشروعها في العمل بعد القيام بالتكوين اللازم لرؤسائها وأعضائها تمّ بموجب الحركة القضائية لهذه السنة تغيير سبعة رؤساء دوائر جنائية للعدالة الانتقالية بكل من بنزرت والكاف ومدنين وقابس وصفاقس وسوسة ونابل بنسبة 53.8 % وتغيير عدد من أعضائها ومن أعضاء باقي الدوائر مثل دائرة العدالة الانتقالية بتونس في نهج واضح ومدبر للقضاء نهائيا على المسار القضائي للعدالة الانتقالية والإجهاز عليه.“
وطبعا يبقى مشروع الصلح الجزائي إحدى أقوى الضربات التي وجهها الرئيس سعيّد للعدالة الانتقالية، وحتى وان نجح ”الصلح“ بمعنى جمع ”مليارات المليارت“ (على أهمية هذا الأمر) فإن العدالة لم تنجز. الفساد ليس مجرد استيلاء على أموال بغير وجه حق، اذ أنّه قبل كل شيء حرمان للدولة ولمواطنيها من موارد وخدمات بشكل قاتل للأجساد والأحلام: كم من تونسي لم يتلق العلاج اللازم ولم يتمكن من مواصلة دراسته ويعاني يوميا من تهالك وسائل النقل العمومي ومن تدهور حال البنى التحتية بسبب الفساد؟ هل ستكفي الأموال المسترجعة -ولو بفائض وغرامات- لتعويض ما نال الناس من ظلم وضرر بسبب الفساد؟ هل يغفر المال المدفوع ما تقدّم وتأخّر من ذنوب ”طالبي الصلح“؟ صلح مع الدولة، وماذا عن المواطنين؟ أليس من حقهم أن يتلقوا اعتذارا علنيا ممن أجرموا في حقهم؟ ولماذا تجري الأمور في السرّ، أليس من حق التونسيين أن يفهموا كيف نُهبت أموالهم، ويعرفوا من نهبها و/أو سهّل نهبها؟ وماهي ضمانات عدم العود وتكرار نفس الانتهاكات والجرائم؟
من المؤكد أنّ كل ”مواطن صالح“ سيُسعد باستعادة أي مبلغ نُهب من المال العام وحُرم منه ملايين التونسيين الذي يعانون منذ عقود طويلة تردّي حالة المرافق العمومية والخدمات التي تقدّمها. لكن هل النزعة الإرادوية والخطابات الغاضبة تضمن ما يلزم من نجاعة لاسترداد الأموال المنهوبة في الداخل والخارج؟ هل يمكن أن نؤسس لثقافة سيادة القانون وعدم الافلات من العقاب عبر تطويع المؤسسة القضائية والدوس على القوانين وعدم احترام الاجراءات؟ وحتى إذا ما استطاعت الدولة استرجاع المبالغ الضخمة التي لا يملّ الرئيس من التذكير بها، فما الضامن أن لا يذهب ريعها لبناء شبكات زبائنية تُعيد انتاج آليات الفساد من جديد تحت مسميّات جديدة ومختلفة؟
iThere are no comments
Add yours