بدأت مصالح بلدية تونس ووزارة الداخلية في إزالة نقاط تجارة الرصيف منذ الليلة الفاصلة بين 08 و09 سبتمبر بدءًا بساحة برشلونة ونهج المحطة وشارع فرحات حشاد ومحيط ساحة المنجي بالي، وصولا إلى شارع جمال عبدالناصر وشارع شارل ديغول ونهج الجزيرة ونهج إنقلترا ونهج إسبانيا إلى حدود سوق الخربة بتونس العاصمة، وهي مناطق ينتعش فيها ما يُسمّى بالاقتصاد الشارعي، الّذي يمثّل نشاطًا اقتصاديًّا لا يرتبط الفاعلون فيه بآليات الاقتصاد الرسمي للدّولة، مثلما ورد بدراسة نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في أكتوبر 2022، عنوانها ”سوق نهج إسبانيا، أو منهاج الاقتصاد الشارعي في تونس“.

ليلة 8-9 سبتمبر شروع السلطات في إزالة نقاط التجارة العشوائية – وزارة الداخلية

حلّ من الأسفل لمشاكل من الأعلى

”نحن بصدد تهيئة فضاء جديد قرب محطّة سيارات الأجرة (اللواجات) بالمنصف باي بالعاصمة يمكّن من استيعاب عديد التجّار، وسيصبحون بذلك منتظمين“، يقول سامي لوصيّف، كاهية مدير الأسواق ببلدية تونس في تصريح لنواة، ويضيف: ”الأشغال جارية لتهيئة الفضاء، حيث قمنا بتنظيف المكان وحدّدنا نقاط البيع ومساحاتها ورسمها الهندسي، بشكل يمكّن كلّ تاجر من حيازة المنطقة التي يعرض بها بضاعته، وهي عملية تنظيمية للانتقال من الاقتصاد الفوضوي إلى الاقتصاد المنظّم“، مؤكّدًا أنّ هذه الترتيبات هي ”تسوية وضعية وليست إسنادًا جديدًا“ ”لا يجب أن يُحسّ الباعة أنّ الدّولة ضدّهم“.

ورغم التركيز الأمني في الساحات التي كانت تستغل لعرض السّلع ووضع الحواجز لعدم رجوع الباعة من جديد، إلاّ أنّ الباحث في علم الاجتماع ومنسّق الدراسة التي أنجزها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سفيان بن جاب الله يقول لنواة أنّ كلّ ما تتحدّث عنه الدّولة من تدابير وإجراءات بخصوص رفع نقاط البيع ”الفوضوية“ لا يعدو أن يكون مجرّد ”تنبيه وفرض نظام“، وأنّ اقتصاد الشارع عائد لا محالة. ”لن تكون هناك سوق منظمة ولا فضاءات مخصصة، وسيعود نهج إسبانيا والأنهج الأخرى لسالف نشاطها، ولا قدرة للدولة بمقاربتها الأمنية على إيقاف اقتصاد يعيش بفضله آلاف الأشخاص لا فقط من يد عاملة ولكن أيضًا من مستهلكين يعيشون من السوق الموازية“.

تجارة الرصيف الوجهة الأولى للتسوق لأعداد متنامية من التونسيين – وزارة الداخلية

تراعي السوق الموازية القدرة الشرائية للمستهلك، في الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة الفقر إلى 16.6% سنة 2021 وفق معطيات المعهد الوطني للإحصاء، وزاد فيه متوسط استهلاك الفرد من الملابس على سبيل المثال من 293 دينار سنة 2015 إلى 635 دينارًا في 2021. ”القدرة الشرائية للطبقات الوسطى والدنيا والفقيرة مرتبطة باقتصاد الشارع والاقتصاد الموازي، أو ما أسمّيه اقتصاد الحدّ والشارع الّذي يقوم على المارة، وعلى الأمكنة الاستراتيجية. ولو كان المارة يحبذون المحلات والفضاءات المغلقة ما كان ليثنيهم اقتصاد الشارع عن ذلك، ولكنّهم يختارون نهج إسبانيا قصدًا مراعاة لقدرتهم الشرائية“، يواصل سفيان بن جاب الله تحليله.

إدماج مؤجّل في الاقتصاد الرسمي

في المقابل، تطرح مسألة السوق الموازية واقتصاد الشارع إشكاليات قانونية وإدارية تتعلّق بحيازة الطريق والاستحواذ على الرصيف، وقد تخلق إشكاليات لدى أصحاب المحلاّت والتجار الّذين يدفعون المعلوم البلدي ويعرضون سلعهم بصفة قانونية. ”لا بدّ من تحرير الأرصفة والشوارع لأنّها ملك للشعب التونسي ومخصصة للمترجلين. عرض السلع بصفة فوضوية في الملك العام ممنوع. ممثّلو نقابات تجار اللحوم الحمراء والأسماك والخضر والغلال والدواجن داخل السوق المركزية يهدّدون بعرض سلعهم على الرصيف بدورهم، حتى لا يدفعوا المعلوم البلدي المقدّر بستين دينارًا شهريّا من ناحية، ويضمنوا وفود المستهلكين من ناحية أخرى“، يوضّح كاهية مدير الأسواق والشؤون الاقتصادية سامي لوصيّف لنواة، ويضيف: ”لكن في المقابل هو مورد رزق الباعة، وهو ما يحتّم إدماجهم في الاقتصاد المنظّم ليكونوا بدورهم محميّين. أولويتنا هي أوّلا الحفاظ على جمالية المدينة، وثانيًا احترام القانون“.

لكنّ إدماج الباعة الّذين يمتهنون نشاطًا تجاريًّا غير مرخّص له من السلطات عبر مسالك التوزيع الموازية ودون الخضوع للضريبة والأداءات سيترتّب عنه بالضرورة إجراءات من قبيل مصادرة السّلع المهرّبة وفرض رسوم على التجّار. ”المسألة تتعلق باقتصاد الدّولة ولا بدّ أن تخضع البضاعة إلى التراتيب والأداءات، وعلى كلّ الأطراف المعنيّة من ديوانة ووزارة تجارة وشرطة بلدية الاضطلاع بمسؤولياتها، نحن نحرص على مسؤولية حفظ الصحة في هذا المجال“، يقول سامي لوصيّف لنواة، فيما يستدرك الباحث في علم الاجتماع هذه الفرضيّة ويقول: ”عندما تفرض مكسًا على تجار الاقتصاد الشارعي سترتفع الأسعار بالضرورة“، ويتساءل: ”كيف يمكن لسلعة مهرّبة أن تُطرح أصلاً في الأسواق“؟

أعوان وسيارات الشرطة تربض بأنهج العاصمة لتجنب عودة تجار الرصيف – وزارة الداخلية

يُقدّم سفيان بن جاب الله خمسة عوامل لاستمرار وجود اقتصاد الشارع، وهي الهشاشة، والقرب من الموارد، كأن يتخذ الوافدون من الهوامش مستقرّا لهم، والحوز عبر امتلاك المكان، والقرابة الناتجة عن روابط الانتماء الجهوي أو القَبَلي، والبوليس الّذي يُمثّل الدولة في محاصرتها المتواصلة لهذا القطاع، حيث مازال بعض الباعة إلى حدود كتابة هذا المقال (يوم 11 سبتمبر) يجتهدون في عرض سلعهم، مستغلّين غفلة أعوان الشرطة المرابطين بنهج اسبانيا، حيث يعرضون الجوارب والاسفنج المنزلي وقوارير مزيل العرق والأكياس البلاستيكية بأسعار زهيدة، فيما يُسارعون بإخفاء بضاعتهم عند اقتراب الشرطة.

اتّخذ والي تونس الأسبق عمر منصور قرار إزالة نقاط البيع الفوضوي في جوان 2017، بالتزامن مع الحرب التي أعلنتها حكومة يوسف الشاهد على الفساد والمتهرّبين. وبمجرّد إنهاء مهامّه على رأس الولاية في أكتوبر من نفس السنة، حتّى عاد الباعة إلى سالف نشاطهم، ما يكشف قدرة هذا النمط الاقتصادي على المقاومة واستقطاب المارّة، رغم مقولات القانون والإدارة بلا قانونية هذا النشاط، وهو ما يعكس اختلاف سرديّة البائع والمستهلك عن سردية الدولة، رغم وجاهة كلّ منهما.