عمليا لم يعد للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي أي وجود، نظرا لتعطل اجتماعاته وعجزه عن الاضطلاع بالأدوار الموكلة له قانونيا كالنظر في مشروعي قانوني المالية والميزانية أو معالجة الخلافات بين ممثلي العمال والأعراف والحكومة، منذ 27 نوفمبر 2018 تاريخ عقد هذا المجلس لأولى اجتماعاته.

بعد 25 جويلية 2021، تحول لفظ حوار إلى ما يشبه ”الفوبيا“ بالنسبة للسلطة التي يمثل قيس سعيد رأسها. فالمجلس الوطني للحوار الاجتماعي تحول إلى مجرد مبنى يقع في نهج البرازيل المجاور لشارع الحرية، يدخله صباحا عدد من الموظفين، الملحقين في غالبهم من وزارة الشؤون الاجتماعية، ليغادروه مساء دون ان يعلم أحد عما يقومون به من عمل، في ظل توقف او تجميد نشاطه دون قرار رسمي قانوني معلن.

فتقريبا منذ الثلاثية الأولى لسنة 2021، لم تعقد أي من الهياكل المحدثة صلب المجلس الوطني للحوار الاجتماعي أي جلسة، ولم يتمّ تحيين موقعه الرسمي منذ ذلك التاريخ، ما عدا نشر خبر وحيد في جوان 2022، يتعلق بانضمامه لرابطة المجالس الاقتصادية والاجتماعية العربية والهيئات المماثلة لها خلال انعقاد الجمعية العامة لهذه الرابطة بالجزائر يومي 19 و20 جوان 2022.

من مطبّات التأسيس إلى تعطل الاجتماعات

بعد سنوات من مطالبة أطراف الانتاج، وخاصة الإتحاد العام التونسي للشغل، بتركيز المجلس الوطني للحوار الاجتماعي عبر قانون يصادق عليه البرلمان، صادق مجلس نواب الشعب في 11 جويلية 2017 على مشروع القانون المتعلق بإحداثه وضبط مشمولاته وكيفية تسييره.

واجهة المقر الرسمي للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي بتونس العاصمة – سيف الكوساني

لكن بعد المصادقة على مشروع القانون المحدث له، اصطدم المجلس الوطني للحوار الاجتماعي بعديد العراقيل التقنية واللوجستية والقانونية التي عطلت انطلاقه في تركيز هياكله والاضطلاع بالمهام الموكلة إليه، خاصة تلك المتعلقة بإصدار الحكومة للأوامر الترتيبية المتعلقة بالتنظيم الإداري والمالي للمجلس وضبط عدد أعضاءه.

فبعد مرور أكثر من سنة على مصادقة البرلمان على مشروع القانون المحدث للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي، أصدرت الحكومة في 7 أوت 2018 الأوامر الترتيبية المتعلقة بتسيير عمله مما ليعقد أولى اجتماع له في 27 نوفمبر 2018.

أهمية المجلس الوطني للحوار الاجتماعي وحساسية الملفات التي يتناولها يمكن استشفافها من جدول أعمال آخر اجتماع عقده مكتب المجلس بتاريخ 12 فيفري 2021، حيث كانت أحد نقاطه الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية للأزمة السياسية المندلعة آنذاك، حول التحوير الوزاري، بين الرئيس قيس سعيد وعدد من الاحزاب بكتلها البرلمانية من جهة، والحكومة التي يترأسها هشام المشيشي وحزامها السياسي وعلى رأسها حركة النهضة

ذلك الاجتماع الأخير لمكتب المجلس الوطني للحوار الاجتماعي المنعقد في مركز البحوث حول الإعاقة ”بسمة“، كان بعد فترة انقطاع تواصلت حوالي السنة بسبب جائحة الكوفيد 19، وكذلك بسبب الصعوبات التي واجهها المجلس في إيجاد مقر دائم يحتضن اجتماعات هياكله ويستوعب كل أعضائه في حالة إنعقاد جلسته العامة، وقد تم خلال ذلك الاجتماع تمرير رئاسة المجلس من وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي إلى الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي.

يوم 12 مارس 2021 كان تاريخ آخر اجتماعات هياكل المجلس الوطني للحوار الاجتماعي، حيث انعقدت في ذلك التاريخ اللجنة القارة للحماية الاجتماعية برئاسة الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل المسؤول عن قسم الحماية الاجتماعية آنذاك، عبد الكريم جراد، التي تناولت مشاريع أوامر حكومية تتعلق بإحداث وكالة وطنية للإدماج والتنمية الاجتماعية وكذلك إحداث المجلس الأعلى للتنمية الاجتماعية، فيما تعلق مشروع الأمر الحكومي الثالث الذي ناقشته اللجنة يومها بتنقيح الأمر المتعلق بنظام جرايات الشيخوخة والعجز والباقين بعد وفاة المنتفع بجراية في الميدان غير الفلاحي.

تبرز مشاريع الأوامر الحكومية التي ناقشتها اللجنة القارة للحماية الاجتماعية في آخر اجتماع لها، أهمية الملفات المفترض أن توكل للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي وهياكله، في ظل الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد منذ سنوات، والتي تتجه تدريجيا نحو التأزم والغموض.

انتظار سنوات ولكن..

المدير المركزي للشؤون الاجتماعية لاتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وممثله في مجلس الحوار الاجتماعي سامي السليني، اعتبر في حديث مع ”نواة“ أن المجلس يكتسي أهمية كبرى لكل الأطراف الممثلة فيه من أطراف الإنتاج أو غير الممثلة فيه من بقية أطياف المجتمع نظرا لدوره المحوري في حل عدد من الاشكاليات وإدارة الخلافات بالإضافة إلى دوره الاستشاري الذي يشمل عددا من الملفات الاستراتيجية كالانتقال الطّاقي والآنية كمشروع قانون المالية والميزانية.

فيفري 2019، رئيس الحكومة يوسف الشاهد يلتقي أعضاء مكتب المجلس الوطني للحوار الاجتماعي بالقصبة – رئاسة الحكومة

ووفق ممثل منظمة الأعراف في مجلس الحوار الاجتماعي، فقد شهد مسار تركيز المجلس تعثرات بعد انتظار طال السنوات التي تلت إمضاء العقد الاجتماعي في جانفي 2013 بين أطراف الإنتاج الثلاثة، بداية من التعطل الذي شهده إصدار الأوامر الترتيبية بعد مصادقة البرلمان على مشروع القانون المحدث للمجلس مروراً بفترة الكوفيد 19، ثم توقف اجتماعات هياكله بعد تمرير رئاسة المجلس لنور الدين الطبوبي أمين عام اتحاد الشغل.

 حيث أفاد السليني في سياق حديثه مع ”نواة“ أن آخر اجتماعات المجلس شهدت تمرير رئاسته من الحكومة التي كانت ممثلة في وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي إلى أمين عام المنظمة الشغيلة، ليخلص محدثنا أنه من المفترض أن يدعو اتحاد الشغل الّذي يترأس المجلس لاجتماع مكتب أو جلسة عامة، وهو ما لم يحصل، وبالتالي فإنّ ”رئاسة المجلس هي من تُسأل عن سبب عدم دعوتها لاجتماع“، مُضيفًا أنّ المجلس يستوعب عددا من الموظفين الملحقين من عدد من الوزارات، ويتلقون أجورهم إضافة إلى تكاليف تسوغ المقر بجهة لافايات بالعاصمة.

قائمة الممثلين والإرادة السياسية

لكن يبدو أنّ دعوة المدير المركزي للشؤون الاجتماعية لاتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية لعقد جلسة عامة لا تستوي، في ظل تغيير أغلب المديرين العامين الممثلين للوزارات المتدخلة في الملفات التي تشمل مهام مجلس الحوار الاجتماعي وتغيير كل تركيبة الحكومة بعد 25 جويلية 2021،  ما يستوجب تغيير ممثليها بالمجلس بداية من وزير الشؤون الاجتماعية الذي كان يترأس المجلس قبل نقل الرئاسة للاتحاد العام التونسي للشغل.

فوفق ما أوضح الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل المسؤول عن قسم التشريع، وممثله بالمجلس الوطني للحوار الاجتماعي حفيظ حفيظ في تصريح لـ”نواة“، لا تستوي من الناحية القانونية البحتة دعوة الاتحاد لجلسة عامة في ظل عدم إصدار وزارة الشؤون الاجتماعية للقائمة الإسمية الجديدة لممثلي الحكومة في المجلس الوطني للحوار الاجتماعي، والتي لا يمكن دونها عقد اجتماع خاصة أن اتحاد الفلاحة والصيد البحري عقد مؤتمره العام وتغير ممثلوه بالمجلس.

إذ أشار حفيظ، أنه لا يمكن عقد الجلسة العامة للمجلس في ظل غياب ثلث أعضائه أو أكثر، نظرا لأن عدد ممثلي الحكومة واتحاد الفلاحة والصيد البحري، يبلغ 40 عضوا من جملة 105 ضمن تركيبة المجلس، ولا يمكن في هذه الحالة أن تكون القرارات الصادرة عن جلسته العامة أو مكتبه أو إحدى هياكله، صحيحة قانونيا.

 حفيظ أكد أن مطلب اتحاد الشغل يتمثل في إعادة تفعيل المجلس الوطني للحوار الاجتماعي الذي كانت الغاية من إحداثه بقانون، بعد سنوات من النضال تلت إمضاء العقد الاجتماعي بالمجلس الوطني التأسيسي، مأسسة الحوار الاجتماعي وتفادي ارتهانه للأهواء والتقلبات السياسية. كما شدد على أهمية المحاور الموكلة للمجلس وموقعها الإستراتيجي بالنسبة لاتحاد الشغل، من ملفات تتعلق بالتنمية والتكوين وسياسات التشغيل والعمل اللائق والحماية الاجتماعية كمنظومة متكاملة.

واعتبر ممثل المنظمة الشغيلة ان المجلس يشهد تعطلا كليًّا بسبب بعض الإشكاليات التقنية والقانونية كعدم إصدار وزارة الشؤون الاجتماعية لقائمة ممثلي الحكومة واتحاد الفلاحة في الرائد الرسمي وتوتر المناخ الاجتماعي، مما يجعل اتحاد الشغل ”متخوفا على مصير المجلس الوطني للحوار الاجتماعي“، وفق تعبير حفيظ، الذي أضاف أن السلطة القائمة لا تملك الإرادة السياسية لإعادة تفعيل المجلس باعتبار ان قائمة ممثلي الحكومة كان من المفترض أن تصدر منذ تولي نجلاء بودن رئاسة الحكومة.

أكتوبر 2019، اجتماع لمجلس الحوار الاجتماعي بمقر اتحاد الشغل – صفحة الاتحاد

وطالب الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل بإصدار قائمة ممثلي الحكومة واتحاد الفلاحة في الرائد الرسمي لتمكين مجلس الحوار الاجتماعي من استئناف نشاطه، وعقد جلسة عامة لمناقشة عديد الملفات الطارئة في هذا الظرف الذي وصفه حفيظ بـ”الصعب“، مشيرا إلى أن تعطيل عمل المجلس يضر بصورة تونس وسمعتها وتاريخها وتقاليدها في الحوار الاجتماعي خاصة أن مأسسة الحوار الاجتماعي كانت برعاية منظمة العمل الدولية ومرافقتها، وبحضور مديرها العام في أهم المحطات.

اتحاد الفلاحة لم يتلقَّ أي مراسلة..

أحد المصادر من داخل اتّحاد الفلاحة والصيد البحري أكد لـ”نواة“ أن المنظمة الفلاحية ليس لها ممثلون حاليا في المجلس الوطني للحوار الاجتماعي أو بالأحرى لم يعد لممثّليها الأهلية القانونية لمواصلة تمثليها بعد عقد مؤتمره العام بين 8 و 11 ماي 2023، وانتخاب مكتب تنفيذي جديد من المفترض أن يحلّ محل الأعضاء السابقين كممثلين للأعراف في القطاع والأنشطة الفلاحية في المجلس.

إلا أنه، ووفق نفس المصدر الذي خير عدم ذكر اسمه، لم يتلقّ اتحاد الفلاحة والصيد البحري إلى حدود اليوم أي دعوة أو مراسلة من وزارة الشؤون الاجتماعية لتوجيه قائمة إسمية تحدّد ممثليه الجدد في المجلس وهياكله، أو إعلاما بعقد اجتماع لأحد هياكل المؤسسة من مكتب المجلس أو لجانه أو جلسته العامة.

ديسمبر 2018، تحركات احتجاجية لاتحاد الفلاحة رفضا لتمثيليته المتدنية بمجلس الحوار الاجتماعي – اتحاد الفلاحة والصيد البحري

تركيبة المجلس ومهامّه

المجلس الوطني للحوار الاجتماعي يتركّب في الجملة من 105 عضوا ممثلين لأطراف الإنتاج الثلاثة، 35 عضوًا ممثلا للحكومة و35 عضوًا عن نقابة العمال الأكثر تمثيلًا و30 عضوًا عن منظمة ”الأعراف“ الأكثر تمثيلًا في القطاع غير الفلاحي و5 أعضاء ممثلين لمنظمة أصحاب العمل الأكثر تمثيلًا في القطاع الفلاحي وذلك حسب ما جاء بالأمر الحكومي عدد 676 لسنة 2018 المؤرخ في 7 أوت 2018 والمتعلق بضبط عدد أعضاء المجلس.

يتولّى المجلس تنظيم وإدارة الحوار الاجتماعي في المسائل الاجتماعية والاقتصادية التي تحظى باهتمام الأطراف الاجتماعية الثلاثة في إطار يضمن استمرار الحوار وانتظامه، كما يمكن أن يستشار في مشاريع القوانين والأوامر الحكومية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية وفي مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي الميزانيات الاقتصادية.

كما عهد القانون والأوامر الترتيبية المحدثة للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي، إلى مكوّناته القيام بعدة مهام منها خاصة العمل على إرساء مناخ اجتماعي محفز ودافع للاستثمار وضامنٍ لشروط العمل اللائق ومتابعة المناخ الاجتماعي ورصد مدى احترام التشريعات الاجتماعية إلى جانب إبداء الرأي في مشاريع الإصلاحات المقدمة إليه من قبل الحكومة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.

وعود بإعادة تفعيل ولكن…

إعادة تفعيل مجلس الحوار الاجتماعي كهيكل يحتضن كل النقاشات بين أطراف الإنتاج الثلاثة ويمكن من إدارة الخلافات والاختلافات، كان أهم ما تمت مناقشته خلال لقاءين منفصلين عقدهما وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي مع كل من نور الدين الطبوبي أمين عام اتحاد الشغل وسمير ماجول رئيس إتحاد الأعراف.

حيث انعقد في البداية لقاء في 19 جانفي 2022 بين وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي ورئيس منظمة الأعراف سمير ماجول، صبت أهم محاوره في اتجاه العمل على إعادة تفعيل المجلس، وهو ما تمّ تأكيده خلال لقاء آخر بين وزير الشؤون الاجتماعية وأمين عام المنظمة الشغيلة في 25 نوفمبر 2022.

لكن لم تتجاوز إرادة احياء المجلس وهياكله للنشاط، حد البلاغات الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية بعد هذين اللقاءين ولم تنعقد أي اجتماعات لأي من هياكل مجلس الحوار الاجتماعي. وإن كانت وزارة الشؤون الاجتماعية مواصلة في تحولها إلى مركز ثقل سياسي في حكومات ما بعد 25 جويلية، فإنه لا يخفى على أحد أن قرار إعادة الحياة لهذا المجلس يبقى بيد الرئيس قيس سعيد الذي لا يؤمن أصلا بالأجسام الوسيطة التي يمكن ان تسرق منه الأضواء. واقع يجعل من كل المصاعب التقنية والاجرائية التي عطلت عمل هذا الهيكل ثانوية مقارنة بالعامل الأهم وهو غياب الإرادة السياسية وخفوت صوت المنظمات الشريكة التي تبحث في المقام الأول عن ترتيب شؤونها الداخلية وتفادي الدخول في مواجهة مع الرئيس، ولو إلى حين.