رغم ما يضمنه القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المتعلّق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين، والوعيد الذي يطلقه رئيس الدولة ضد الفاسدين، إلا أن أخبار التنكيل بمبلّغين عن الفساد يصل مداها إلى كل أطياف المجتمع وتجعل من اقدام أي شخص على مثل هذه الخطوة مسبوقا بتفكير عميق في تداعيات محتملة يمكن أن تصل حدّ سجن المبلّغ بتهم كيديّة أو طرده من عمله كما كان الحال مع عصام الدين فيتاتي.

انحراف شركة السكك الحديدية عن المسار

ارتكب سائق القطار بالشركة الوطنية للسكك الحديدية عصام الدين فيتاتي، ما وصفه بالخطأ الأسوأ على الإطلاق من حيث تأثيره على حياته بكل مساراتها. حيث أخذ ما ينصّ عليه قانون حماية المبلّغين على محمل الجدّ، وصدّق ما يضمنه من حماية لكل من يعمل من موقعه على تطويق هشيم الفساد الذي يلتهم أغلب هياكل ومؤسسات دولة يؤكد رئيسها قيس سعيد وضعه تطهير البلاد من الفساد كأولوية قصوى.

بعد كشفه لمخالفات وإخلالات في علاقة بصفقة شراء 20 قاطرة لنقل الفسفاط تزن كل منها 120 طنّا فيما لا تتحمل السكة الحديدية أكثر 60 طنّا، تم طرد فيتاتي من عمله في 29 جويلية 2016. وقد تمّ بعد ذلك الاستماع إليه في إطار لجنة مشتركة بين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ورئاسة الحكومة واتخاذ قرار بإعادته إلى عمله في 22 جانفي 2018. كما أصدرت الهيئة قرارا بحمايته من كل تهديد أو إجراءات انتقامية ضدّه وتمكينه من كل الأجور التي لم يتحصّل عليها بين تاريخ طرده وعودته فعليا إلى العمل بالشركة الوطنية للسكك الحديدية في 24 مارس 2018.

ولكن في مقابل قرار الحماية الذي مكنته منه الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، انطلقت هرسلة الفيتاتي بمنعه من العودة إلى سياقة القطارات وتكليفه بمهام تشمل صيانة السيارات رغم تنصيص الإدارة العامة للشركة على كونه سائق قطار بشهادة العمل أو رميه في ”الفريڨو“، وفق تعبيره. لم تثن تلك الاجراءات عصام الدين عن كشف مزيد من ملفات الفساد التي شملت عددا من الصفقات من بينها صفقة لشراء محركات قطارات تمّ تركها في مخازن الديوانة بعد وصولها لأكثر من سنة ومن ثم إبرام صفقة جديدة لشراء نفس المحركات. كما بلّغ الهيئة في مارس 2020 عن ملف فساد يتعلق بشراء عوارض خشبية للتقاطعات غير صالحة للاستعمال، تتجاوز قيمتها 3 مليون دينار.

بعد قرار وزير الداخليّة بغلق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وتحديدا يوم 8 جوان 2022، تم إخضاع عصام الدين فيتاتي لاستجواب من طرف الإدارة العامة للشركة الوطنية للسكك الحديدية بسبب ما قال عنه ”تعلاّت بكشف أسرار مهنية والإساءة إلى زملائه في الشركة“. لاحقا، تمّ طرده مرة أخرى من عمله في 20 سبتمبر 2022 دون عرضه على مجلس التأديب كما ينصّ على ذلك القانون، ولا يزال فيتاتي إلى اليوم مطرودا من الشركة الوطنية للسكك الحديدية.

يقول محدّثنا في نهاية مقابلته مع ”نواة“: ”عائلتي اليوم هي من تعيليني وأنا في سن تناهز الخمسين عاما. أتحصلّ على مصروفي اليومي من طرف والدي، بالإضافة إلى تحملّهم سداد أقساط قرض بنكي. أنصح كل من ينوي التبليغ عن فساد في إدارته أو في أي قطاع بالتراجع عن ذلك. فما ينتظره لاحقا هو شتى أصناف التنكيل والهرسلة في ظل غياب أيّ حماية، خاصة بعد إغلاق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد رغم كل الهنات واللغو الذي كان يحيط بنشاطها جديّة أدائها لمهامها“.

طرد خمس إطارات من الديوانة

قصّة الرئيس السابق للنقابة العامة للديوانة وأحد مؤسسيها، العميد محمد البيزاني وأربعة من زملائه، لا تختلف كثيراً عن شهادة عصام الدين فيتاتي. إذ تمّ طردهم من عملهم بعد تبليغهم عن عمليات فساد في خطايا تبلغ 1400 مليون دينار. إذ تمّ الكشف عن تعمّد أجهزة الديوانة تجاوز الآجال لإسقاط الخطايا، ومنح محجوزات ديوانية لشخصيات سياسية كهدايا دون أيّ وجه حق، بالإضافة إلى الملّف المتعلق بالقاضية التي تم ضبطها وبحوزتها مبلغ مالي يناهز الـ1.5 مليون دينار ومن ثم تركها في حالة سراح. أمّا ملف الفساد الرابع، فيتعلّق بقضية النفايات الإيطالية التي تمّ ضبطها في ميناء سوسة وعلاقة الديوانة بها، وفق حديث أدلى به محمد البيزاني لـ”نواة“.

بعد كشف تفاصيل تلك الملّفات وغيرها من التجاوزات المتعلّق بعضها بترقيات على غير وجه حق، تم إبلاغ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بها، صدر قرار من المدير العام للديوانة بطرد محمد البيزاني وزملائه بتاريخ 15 نوفمبر 2021.

رسالة لمن يريد التبليغ عن الفساد

كريم العوني أحد المطرودين من عملهم، تحدث إلى ”نواة“ حول قرار طرده من طرف المدير العام للديوانة يوسف الزواغي. إذ اعتبر أن تجربته واختلاطه مع عديد المبلغين عن الفساد جعلت لديه قناعة راسخة بأن هناك توجّها خفيّا للتنكيل بمن يجرؤ على تلك الخطوة. ليضيف متأسفا: ”هناك دولة عميقة في تونس تريد تسيير البلاد كما تريد وتضرب بيد من حديد كل من تسوّل له نفسه التبليغ عن أي نوع من الفساد“.

وعبّر الديواني المطرود من عمله عن استغرابه من سكوت رأس السلطة قيس سعيد عن الممارسات التي تستهدف المبلغين عن الفساد، وتجاوز الإدارة للقانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 بشكل علني، مشيرا في الآن ذاته إلى أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد كانت ترتكب خطأ فادحا لا يُعرف إن كان عن عمد أو لا. يتمثّل ذلك في الكشف عن هويّة المبلّغ عن الفساد لدى إداراته، وهو ما من شأنه أن يعرّضه إلى إجراءات إنتقامية كما تمّ رصد ذلك على أرض الواقع، رغم ما ينصّ عليه الفصل 22 من القانون بوجوب الحفاظ على سرية هويّة المبلّغ بشكل كامل من قبل الهيئة، وربط الكشف عن هويّته بموافقته المسبقة والكتابية.

حماية مؤقتة لا تضمن سلامة المبلّغين

اتهامات الإطار بالديوانة للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالكشف عن هوية المبلغ لا تستقيم، وفق مازن كرشيد الذي شغل خطة مستشار قانوني بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والمكلف بالنظر في مطالب الحماية والنزاعات القضائية في علاقة بحماية المبلغين. أوضح كرشيد في حديث لـ”نواة“ أن موافقة الهيئة الوطنية على مطالب الحماية التي يتقدم بها المبلغون، خاصة إذا كان ملف الفساد يخص الإدارة التي يعملون بها كما هو واقع الحال غالبا، يؤدي إلى الكشف عن هوياتهم. ليضيف أنّ الموافقة على مطالب الحماية وتمكين المبلّغ منها يعني ضرورة توجيه الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لمراسلات تتضمّن هذا القرار إلى الإدارة المعنية -التي عادة ما تكون الإدارة نفسها التي يشتغل بها- كما ينصّ القانون المتعلق بحماية المبلغين عن الفساد. هذا يعني آليّا الكشف عن هويّة ذلك الشخص واتخاذ إجراءات انتقامية ضدّه، لكن تحت تعلاّت مختلفة.

يؤكّد كرشيد أن نسبة امتثال الإدارة إلى قرارات الحماية لا تتجاوز 5%، فيما تسلّط أغلب الإدارات التي كانت كُشف صلبها عن ملفّات فساد، عقوبات مقنّعة على المبلّغين بتعلاّت مختلفة لا تمتّ في ظاهرها بعملية التبليغ. تجابه هذه التدابير بصمت السلطات الإدارية المعنيّة رغم تنصيص القانون المتعلق بحماية المبلغين عن الفساد في فصله الـ30 على تحمّل المشغّل ”عبء إثبات أنّ التدابير التي ألحقت ضررا بالمبلّغ لم تكن بسبب التبليغ أو تبعا له“. ومنذ إغلاق الهيئة، تراجعت نسبة الكشف عن الفساد وفق ما ذكره محدّثنا.

صمت الرئاسة مقابل تنديد الجمعيات

المثير للاستغراب أنّ ما يتعرض له المبلّغون عن الفساد من مضايقات وعقوبات لا يخفى على رئيس الدولة، وقد أقرّ به خلال لقاء جمعه بوزيرة العدل ليلى جفال في 8 ماي 2023، أين قال في فيديو نشرته رئاسة الجمهورية ”أن عديد القرائن تفيد بأن المبلّغين عن الفساد يدفعون الثمن باهظا نتيجة فضحهم ممارسات عدد من الأشخاص الذين يعتقدون أنهم فوق القانون“.

8 ماي 2023، لقاء بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد ووزيرة العدل ليلى جفال حول وضعيّة المبلّغين-الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية

ذلك اللّقاء وما أكده رئيس الجمهورية من علم بما يتعرّض له المبلّغون عن الفساد، عقّبت عليه منظمة أنا يقظ ببيان في 11 ماي 2023، واستنكرت من خلاله ما قالت عنه ”تكرّر الخطابات المتناقضة مع القرارات والإجراءات المتّخذة على أرض الواقع“، واعتبرت أنها ”محاولة لذرّ الرّماد في العيون بل ومغالطة المواطنين وإيهامهم بما يخالف الحقيقة“.

كما أضافت المنظمة بنبرة تهكّم أنها ”تُثمن تذكّر السيّد رئيس الجمهوريّة للمبلغين عن الفساد أخيرا بعد عامين من غلق مقرات الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد بقرار من وزيره للداخليّة في 20 أوت 2021“. كما قالت إنّ وضعيّة المبلغين عن الفساد في تونس، وما آلت إليه من تدهور وما يعانونه من هرسلة وضغط وتهديدات، راجع إلى القرار غير المبرّر بغلق الهيئة الّتي تمثّل الهيكل الوحيد المخوّل قانونا بإسناد الحماية لهم والّتي لها أن تقيّم وتقدر شكل الحماية و سبلها.

واستغربت أنا يقظ ممّا وصفته بـ”الهوّة الشاسعة بين السلطة والواقع الّذي يعيشه المواطنون“. هذا وأوردت في نفس البيان ”كأنّ السيّد رئيس الجمهوريّة لا يدرك عودة ظاهرة ”Frigo“ في الإدارة والّتي شملت الموظّفين الّذين تحلّوا بالشجاعة والنزاهة للتبليغ عن شبهات الفساد حماية للدولة الّتي جابهتهم بغلق سبل الإبلاغ وتركتهم عرضة للتشفّي والإهانة في إداراتهم“.

كما عادت إلى قرار وزير الداخلية بإغلاق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 20 أوت 2021، الذي جوبه برفض واسع من طرف المجتمع المدني والأحزاب السياسية. إذ اعتبرت المنظمة أنّ قرار الغلق منع تماما تطبيق القانون المتعلّق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين والقانون عدد 46 لسنة 2018 المتعلّق بالتصريح بالمكاسب والمصالح ومكافحة تضارب المصالح والإثراء غير المشروع.

كما ذكّرت أنا يقظ، أنها أودعت في 25 سبتمبر 2021، دعوى في مادة تجاوز السلطة طعنا في قرار غلق مقرات الهيئة الوطنيّة أمام المحكمة الإدارية، وأنها لا تزال تنتظر مآله.

البرلمان على الخطّ

من جهته، يعتبر النائب في البرلمان وعضو مكتب مجلس نواب الشعب والرئيس السابق للجنة الإصلاح الإداري بالبرلمان المنحلّ بدر الدين القمودي، في حديث مع ”نواة“، أنّ ما يتعرّض له المبلّغون عن الفساد من هرسلة وتنكيل جعل منسوب التبليغ يتراجع بصفة ملحوظة إن لم يكن قد انعدم بصفة شبه كلية بعد تجميد الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. ليوضّح قائلا: ”في السابق، كنت أتلقّى العشرات من المكالمات وملفات الفساد من طرف الموظفين، ولكن خلال الفترة الأخيرة أصبحت تلك المكالمات والملفات نادرة“.

كما يرى أنّ الهيئة كانت ملجأ للمبلغين عن الفساد حيث كانت توفّر لهم الحماية القانونية والمرافقة والحدّ الأدنى من الدعم إضافة إلى متابعة وضعيّاتهم. لكن بعد حلّها، تُركوا عرضة للملاحقات القانونية المضايقات في أماكن عملهم التي تبلغ حدّ تسليط عقوبات إدارية عليهم تحت تعلاّت بعيدة عن الإشكال الأصلي في تكريس للعقوبات المقنّعة.

ووفق القمودي، فقد أسفر غلق الهيئة والتنكيل بالمبلغين عن شعور بالخوف لدى من ينوون الإقدام على مثل تلك الخطوة، مؤكّدًا أنّ العشرات منهم تمّت إحالتهم على القضاء بتهم مختلفة منها الادعاء بالباطل أو إفشاء السرّ المهني وغيرها من التهم الواهية والملفّقة كعقوبة على تبليغهم عن الفساد.

وقد ذكر النائب أنّه وجه سؤالا كتابيّا، خلال الفترة الأخيرة من تولّي نجلاء بودن رئاسة الحكومة، لاستبيان مآل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والصيغ التي توفرها الدولة لحماية المبلغين الذين تتم ملاحقتهم في ظل غلقها، ولكنّه لم يتلقّ أي ردّ على سؤاله إلى حدّ كتابة هذه الأسطر.

لم تتوقف محاولات معرفة مآل الهيئة ووضعية المبلّغين عن الفساد عند النائب بدر الدين القمودي، إذ وجّهت لجنة مكافحة الفساد في البرلمان الحالي سؤالا كتابيّا إلى رئيس الحكومة أحمد الحشاني حول نفس الموضوع، ولكن لم يتلقّ رئيس لجنة الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد رضا الدلاعي أي إجابة.

كما اعتبر بدر الدين القمودي أنّ الخطاب الرسمي الصادر عن رئيس الجمهورية قيس سعيد يتحدّث دائما عن مقاومة الفساد التي ترتكز بدورها على المبلغين وضرورة حمايتهم. لكنّ الواقع مغايرا تماما مع ما يتعرض له المبلغون من ملاحقات قضائية وهرسلة لم يكن القمودي بمعزل عنها. ففي العهدة البرلمانية السابقة، رفعت إحدى الشركات المختصّة في رسكلة الزيت المستعمل قضيّة ضدّ النائب، الّذي اتّهمها بارتكاب ”عملية تحيل وفساد كبيرين“. ذلك لأنها تستغلّ الزيت المدعم الذي تتحصّل عليه بصفة غير قانونية وتقوم بتصديره وفق ما كشفه القمودي. ويؤكّد محدّثنا أنّ الاتهامات التي وجهّها لتلك الشركة وشبهات الفساد الجديّة التي تحوم حولها مدعومة بأدلّة وملفّات وأحكام قضائية صادرة ضدّها، وهو ما يعكسه الحكم بعدم سماع الدّعوى في هذه القضية، بعد حلّ البرلمان ورفع الحصانة عن النائب. ”لم يكن هذا مصير عشرات المبلغين الذين تمت إحالتهم على القضاء ومحاكمتهم بناء على شكايات كيديّة وتهم واهية على خلفيّة كشفهم وتبليغهم عن ملفات فساد“، وفق ما ختم به رئيس لجنة مكافحة الفساد السابق بدر الدين القمودي، حديثه مع ”نواة“.

مثّلت محاربة الفساد ورقة سياسيّة لعبها عديد الفاعلين وممثّلو الأحزاب خلال عشرية 2011-2021. منهم من فشل في استقطاب الناخبين، ومنهم من طمح إلى بناء دولة قويّة وعادلة. وواصل قيس سعيّد في النهج ذاته، واستثمر في تعثّر تجربة الانتقال الديمقراطي. إذ ألغى ما جاءت به من منظومات إصلاحية، عبر القضاء على هيئة مكافحة الفساد، وتطويع المنظومة القضائية. وقد تناسى أنّ حماية المبلّغين عن الفساد ركن من أركان محاربته، وأنّ إسقاطها يعني سيطرة الخوف على المبلّغين عوضًا عن التفكير في المصلحة العامّة وتحييد المال العامّ ونزاهة الممارسات الإدارية وغيرها. في الأثناء، يتراجع تصنيف تونس في مؤشرات مدركات الفساد لسنة 2022 بحلولها المرتبة 85 من أصل 180 دولة بمجموع 40 نقطة من أصل 100، وهو الترتيب الأدنى لتونس منذ سنة 2012 حسب ما نشرته منظمة أنا يقظ، ما يكشف تفشّي الممارسات الفاسدة التي تستفحل بغياب المبلّغين الّذين يدقّون ناقوس الخطر ويحولون دون تفشّي آفة الفساد.