هذه القراءات المرتبطة بضعف نسب الاقبال وإن كانت سليمة في جوهرها، إلا أنها لا تتلاءم مع واقع السياسة في تونس بعد ما حولتها حنكة الرئيس إلى سياسة الامر الواقع. واقع قوامه المثل الشعبي الطاهر ”اسكر وإلا طير قرنك“.

تكفي متابعة سريعة لعمل المنظمات المستقلة المختصة في مراقبة الانتخابات للوقوف على تشابه تقاريرها وما رصده ممثلوها في مختلف مراكز الاقتراع. فالكل تقريبا يتحدث عن نسب اقبال ضعيفة وتجاوزات في بعض المراكز، على جسامة بعضها لم يكد يهتم بها أحد، من ذلك خرق الصمت الانتخابي وتوجيه إرادة الناخبين وشراء الأصوات ونشاط مرشحين في محيط مراكز الاقتراع وحتى داخلها، وغير ذلك من أخبار الرصد التي كانت تعد مقياسا لمدى نجاح العملية الانتخابية بعد اجتيازها اختبار نسب الاقبال. فإن رسب التلميذ في الاختبار الأهم، من سيهتم عندها بهندامه وطلعته البهية يوم الامتحان؟

فهل يعقل أن تجرى انتخابات لمجالس بصلاحيات مجهولة دون ان يكلف المشرع نفسه عناء اصدار نص قانوني تفاديا لكل لبس؟ وإن اعتبرنا الرئيس منشغلا بحملته الانتخابية المفتوحة وتوزيع القبل والعناق بعدل بين الأحياء والجهات منعدمة التنمية، ما الذي منع مجلس النواب من المبادرة بمقترح نص قانوني يحسن على الأقل مظهر شقيقه المنتظر.

فبعد الانتخابات التشريعية لسنة 22/23 ظهر الرئيس غير عابئ بنسب المشاركة المتدنية غير متحرج من خرقه الصمت الانتخابي مباشرة على التلفزة الوطنية. بل ذهب في تبريره إلى أبعد من ذلك، معتبرا ضعف الاقبال نتيجة حتمية ل10 سنوات من ترذيل العمل السياسي البرلماني وتراشق ممثلي الشعب بالتهم وحتى بالكراسي. أما هيئة الانتخابات الموقرة – الحريصة على ملاحقة منتقديها أكثر من حرصها على سلامة العملية الانتخابية ونجاحها – فقد بررت خيبة نسب المشاركة في الانتخابات البرلمانية بغياب شراء الأصوات والمال السياسي الفاسد، معتبرة بذلك غالبية الشعب الكريم مرتزقة انتخابات لا يتحركون نحو صناديقها دون مال وشراء ذمم.

فمن المستفيد من كل هذا العبث؟ المعارضة، قطعا لا. فهي تبدو مشتتة منشغلة بالدفاع عن وجودها تتحسس خطاها داخل حقل ألغام في ليلة غاب قمرها، لا يفصلها عن السجون سوى وشايات مضحكة تعتمدها السلطة بلا حرج لسلب الحرية. أما أحزاب الموالاة والقوى السياسية المتشبثة بمسار 25 جويلية فقد قاربت مصداقيتها القاع، كيف لا وقد تحولت إلى ما يشبه شيوخ ديار الافتاء الذين يلوون عنق المنطق لتبرير أغرب الفتاوى.

والواقع هنا، إن بقي له من معنى وسط كل هذا الخبل، أن لا مستفيد ولا رابح غير الرئيس قيس سعيد. فبعد ان وضع نفسه فوق القانون وحصنها من كل مساءلة او محاسبة، ألغى كل سلطة يمكن ان تفكر في منازعته لعبة الصلاحيات. فالقضاء والتشريع تحولا إلى وظائف تتبع الرئيس وتتسابق في تنفيذ قراراته والهيئات المستقلة مغلقة أو مجمدة بلا روح، أما الجمعيات والنقابات وباقي الاجسام الوسيطة فقد حولتها خطابات الرئيس وجهابذة المفسرين إلى منكر على التونسيين تجنبه قدر المستطاع. ثم أي قيمة لمجالس منزوعة الصلاحيات؟ وكيف يمكن ان نقنع المواطنين بجدواها وهم يرون الرئيس يتدخل في كل كبيرة وصغيرة ويحسم في كل القطاعات والمواضيع، متنقلا من حي شعبي إلى آخر ومن مؤسسة إلى أخرى، محملا بملفات فساد لا يتورع لحظة عن تقريع وزراء وكبار موظفين قبل عزلهم، وإن كان قد عينهم بنفسه. فما ترسخه سياسات قيس سعيد لدى عموم التونسيين، أن لا فائدة ترجى ولا مطلب يتحقق دون لقاء مع الرئيس أو تدخل مباشر منه. فأي دافع بعد كل هذا قادر على اقناعهم بجدوى الاقبال على الانتخابات وتأثيث طوابير الانتظار في الوقت الذي تدفعهم فيه فطنتهم إلى الوقوف في طوابير انتظار الحليب والخبز والسكر وباقي المواد الأساسية، التي طبع التونسيون مع ندرتها بدرجة تطبيعهم مع سلطة الامر الواقع والعودة السلسة للاستبداد والتسلط.