في العام 1897، كتبت نشرية Revue tunisienne تأثير زيارة أحمد باي لفرنسا سنة 1846، وانبهاره بقصر فرساي القائم بعيدا عن قلب العاصمة الباريسية. تقول النشرية: ”في رأي أحمد باي، لا ينبغي أن يتفوق إبداع معمار قصر المحمدية على قصر باردو فحسب، بل يجب أن ينافس أيضا في العظمة والروعة قصر فرساي الذي يبدو أنه قد فتن العاهل التونسي. ويخبرنا بن أبي ضياف أنه من أجل إشباع طموحه، أُجبر الباي على استرجاع الممتلكات التي كان قد منحها لوزيره مصطفى خزندار، في هذا المكان، ولما استولى عليها اتخذها الباي رباطا لجنوده وبنى المباني الجميلة والكبيرة التي نراها هناك، وأنفق على ذلك الكثير من خزينة المملكة. لقد أولى اهتماما كبيرا بالمحمدية لدرجة أنه بالكاد نافسها أي شيء آخر. وحمل أشراف حكومته على بناء المنازل هناك وسمح للعامة بالقيام بذلك أيضا، حتى أنه ساعدهم بشكل كبير على ذلك لدرجة أنه اتُهم بالمبالغة في ذلك، فقد كانت منطقة المحمدية غير محبّبة، فهي أضيق من حافر الحصان وأوحش من الصحراء“.

واجهة بقايا قصر الباي بالمحمدية. فيفري 2024

يقول حبيب عزيزي أستاذ التاريخ المتخصص في تاريخ تونس الحديث، في تصريح لنواة إن قصر المحمدية بني قبل تولي أحمد باي السلطة خلفا لمصطفى باي، وإنه بعد زيارته لباريس في النصف الثاني من أربعينات القرن التاسع عشر، انبهر أحمد باي بجمال قصر فرساي وقرر توسعة سرايا المحمدية ليصبح شبيها بالقصر الملكي الفرنسي. ويضيف حبيب عزيزي ”وجد أحمد باي ضالته في قصر المحمدية لسببين وهو أن الباي كان مهووسا بالحفاظ على صحته ويخشى كثيرا الإصابة بإحدى الأوبئة التي ضربت تونس طيلة سنوات القرن التاسع عشر، لذلك خيّر السكن في قصر المحمدية وكان يختار من يزوره هناك، أما السبب الثاني فهو أنه حسب رواية لخاله ووزير خارجيته جوزيف رافو، فإن أحمد باي كان يميل إلى بني جنسه لذلك فإن قصر المحمدية المعزول والبعيد عن الأعين هو المكان المناسب له ليعيش بحرية بعيدا عن الأعين“.


في باب سويقة: منزل ابن أبي الضياف، من مركز عقل السلطة إلى خربة مهجورة

في أحد الأنهج الضيقة بحي باب سويقة بتونس العاصمة ، يمتد سور طيني اللون يوحي بأنه امتداد لإحدى البنايات القديمة المتداعية التي تمتلئ بها الأنهج المتاخمة للمدينة العتيقة. مشهد البنايات المهدمة، التي تعرف باسم "الخربة" مألوف لدى سكان تلك المنطقة ولا يستوقف المارين بجانبها، بل يحدث أن يتجنب كثيرون المرور قربها بسبب قصص مخيفة منتشرة هناك عن منحرفين مسلحين ومخدرين يسكنونها.


تحفة تقود إلى الهاوية

تحتفظ واجهة ما بقي من سرايا أحمد باي بملامح المعمار الأوروبي، ويصعب تخيّل هندسة القصر الذي تحيط به بقايا سور سقط بفعل الرياح، غير أن الباحث جاك ريفيول وصف القصر بدقة في بحث له بعنوان ”القصور والمساكن الصيفية في منطقة تونس (القرنان السادس عشر والتاسع عشر)“ حيث يقول إن الواجهة الرئيسية للسرايا بنيت على النمط الغربي، حيث استعان الباي بمهندسين من أوروبا لتوسعة وتحديث باحة القصر وفق هذا النمط، وخصص الباب الرئيسي  المقوس المؤطر بالرخام  لمرور عربات الباي،  وأحيط الباب بنافذتين رأسيتين على شكل عين الثور. يقول ريفيول ”في الواجهة الخلفية، المواجهة للغرب، يوجد باب ذو عتب مستقيم يتيح الوصول إلى قاعة المدخل التي تسمى الدريبة، مع غرفة انتظار ودرج يؤدي إلى الشقق. وينقسم الجانبان الآخران من القصر إلى ثماني غرف متطابقة ومستقلة تفتح من خلال العديد من الأبواب المتشابهة. تضم كل غرفة من هذه الغرف غرفتي نوم صغيرتين يفصل بينهما ممر، ويبدو أن هذا الترتيب يتوافق مع إنشاء المكاتب الإدارية التي أراد الملك أن تكون قربه. لم يتبق من خراب البناء القديم سوى الجدران والأقواس الداعمة“.

جانب من الخراب الذي لحق بقصر المحمدية ومداخله

حافظ معمار القصر على بعض الملامح المحلية، لكن أحمد باشا باي حرص على تزيينه من الداخل برخام كرارا الإيطالي باهظ الثمن وجلب أيضا الخزف من مدينة نابولي وأثاثا حديثا وثريات ومرايا من فينيسيا. قبل صعود أحمد باي إلى الحكم، كان سرايا المحمدية المعروف أيضا بقصر الصالحية مقر إقامة صيفية للبايات الذين سبقوه، غير أنه تحول إلى مقر إقامة دائمة تقريبا لأحمد باي، الذي وضع لوائح صارمة عند إقامته به، إذ منع حاشيته من التغيب عن المحمدية بما في ذلك كبار المسؤولين.


دار الباي بحمام الأنف: ملجأ بشيرة بن مراد يقاوم السقوط

تبدو المناضلة بشيرة بن مراد التي أسست الاتحاد الإسلامي للمرأة سنة 1936، في صورة التقطت لها آخر أيام حياتها بداية التسعينات، امرأة حافظت على قسط كبير من الرفعة والنبل التي ورثتها من عائلتها، فهي ابنة الشيخ محمد صالح بن مراد شيخ الإسلام الحنفي، وحفيدة المفتي أحمد بن مراد. ولكنّ خلفية الصورة التي تُظهر جدارًا مطليًّا بدهن أزرق باهت، كسرت تلك الرفعة. ذلك الجدار هو حائط غرفة بشيرة بن مراد في الطابق الأول بالقصر الحسيني المعروف بدار الباي بحمام الأنف.


تقليد يقود إلى الخراب

بعد وفاة أحمد باي، تحول القصر إلى ما يشبه الخرابة، فقد حرص خليفته محمد باي على السكن في قصر آخر، وعمل على نقل كل شيء من قصر المحمدية إلى مقر إقامته بالمرسى، بما في ذلك الخزف والرخام. يقول ريفيول إن محمد باي لم يأمر بإغلاق مدينة المحمدية فحسب، بل أصدر أيضا امرا بتنفيذ الإزالة الكاملة لجميع الأشياء القابلة للنقل، حيث تمت إزالة الأثاث والمعلقات والأواني الفخارية والرخام. ولم يبق إلا حجارة المباني. وأن عملية الإزالة تلك كانت مكلفة للغاية.

بقايا إحدى ساحات قصر المحمدية تظهر جانبا من مدارج وسراديب السرايا

لم يحافظ الباي الذي خلف أحمد باشا باي على أي ملمح للقصر رغم أن أشغال توسعته وتحديثه ظلّت قائمة إلى ما بعد وفاة أحمد باي منتصف القرن التاسع عشر. بقيت سرايا أحمد باي شاهدة على فترة من أسوء الفترات التي عاشتها تونس في تاريخها المعاصر، فقد كان قصر المحمدية أحد رهانات أحمد الباي الفاشلة، من ذلك استنزاف خزينة الدولة واللجوء إلى التداين لبناء مدرسة عسكرية وتشييد مصنع للسفن في مدينة غار الملح ومساعي تعصير الجيش، لينتهي المطاف باحتلال فرنسا تونس العاجزة عن تسديد ديونها. يقول حبيب عزيزي لنواة ”في الحقيقة لم يكن قصر المحمدية سببا مباشرا في عجز تونس المالي آنذاك، فقد اعتمد أحمد باي على سياسة تعصير فاقت مداخيل الدولة كما أنه جرى وراء طموحه ببناء قوة عسكرية دون حساب لما يوجد في الخزينة، حتى أنه اشترى سفنا معطوبة“.

وفاء لتقاليد اهدار المال العام

يصف أحمد ابن أبي ضياف في الإتحاف تحول قصر المحمدية إلى خراب بعد نقل محمد باي كل ما فيه إلى قصره في ضاحية المرسى بالقول ”وللباي محبة في خرابها، شأن غالب ملوك الاطلاق في محو آثار من تقدّم منهم“، وكأنه يستحضر توجه كل من حكم تونس بعد استقلالها بمحو ملامح كل ما سبق بداية من بورقيبة مرورا ببن علي وحكومات ما بعد 14 جانفي 2011، وصولا الى حكم الرئيس الحالي قيس سعيد.

داخل ركام خراب قصر المحمدية تظهر بقايا الزخارف والنقوش الملكية المهملة

وصف أحمد ابن أبي ضياف وضع البلاد في النصف الثاني من القرن 19 بفترة الانهيار المالي جراء هوس أحمد باي بتقليد بنية الجيوش الغربية بمصاريف تفوق مداخيل الإيالة، وهو ما دفع الباي إلى استحداث ضرائب جديدة أثقلت كاهل رعايا المملكة، لتكون سياسة الجباية المجحفة ركيزة أساسية لميزانيات الحكومات المتعاقبة على مر العقود. فالميزانية الحالية مثلا تستمد نحو ثمانين بالمائة من مداخيلها من الضرائب، في الوقت الذي يسعى فيه سعيد إلى التعويل على الذات والتخلي عن التداين الخارجي باللجوء إلى الاقتراض من البنوك المحلية من أجل ما يعتبره إصلاحا اقتصاديا قائما بالأساس على نموذج جديد للاستثمار قائم على الشركات الأهلية، والتي تواجه بدورها صعوبات قانونية وإجرائية عدة.

بقايا الاقواس الداخلية لقصر المحمدية شاهدة على تاريخ طويل من العبث بمقدرات الدولة

لئن انتهى رهان أحمد باشا باي الإصلاحي بتعميق الازمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد وجعلتها لقمة سائغة لأطماع القوى الاستعمارية، فإن تواصل تغليب الهوس السياسي للحكام على المحركات الاقتصادية لتونس لم ينتج سوى قفزات مضطربة نحو المجهول لا يتحمل مخلفاتها غير الشعب التونسي.