أصبحت الانتخابات في الأيام الأخيرة محور اهتمام السياسيين ووسائل الإعلام، ولئن لم يكن هذا الاستحقاق في صدارة اهتمامات غالب التونسيين المنشغلين بقضايا المعيشة ومصاعب الحياة اليومية إلاّ أن هذا الاهتمام سيفرض نفسه في الوقت المناسب وسيحددّ سلوك التونسيين الانتخابي واتجاهاتهم في ضوء تقييم حاضرهم وماضيهم والصورة التي يحملونها عن مختلف الفاعلين في الساحة السياسية، وانتظاراتهم المستقبلية. وفي الأثناء تتهيأ المعارضة لبناء مواقفها وتظهر مبادرات هنا وهناك لدفع النقاش حول الموقف الأكثر تناسبا مع معطيات المناخ السياسي، وحول خيارات المشاركة أو المقاطعة ومسألة الترشحات وأسماء المترشحين المحتملين للرئاسة، وبصورة موازية يتصاعد خطاب متوجّس ومتوتّر من أعلى هرم السلطة وأنصارها.
في ظل هذا الحراك وما سيرافقه من طرح القضايا الكبرى للبلاد على النقاش العمومي، ينتظر التقاء مكوّنات المعارضة السياسية والمجتمع المدني للتحاور حول الإصلاحات المطلوبة على مستوى الإطار الدستوري والتشريعي والرؤى والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية ونحوها، إلاّ أنه سيكون من الصعب أن تحقق هذه المبادرات هدفها في تجميع أكثر ما يمكن من أطراف حول خارطة طريق تعطي أملا للتونسيين في الخروج من محنتهم بدون الاتفاق على الخطوط العريضة لتقييم حازم ومسؤول للمسار الانتقالي الذي مرت به تونس منذ 2010-2011، ووضع الإصبع على مكامن النجاح والإخفاق فيه، واستخلاص الدرس من التجارب المكلفة ونتائجها السلبية، وفي المقدمة منها تراجع تونس وصورتها وتراجع مؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية حتى عمّا كانت عليه قبل الثورة.
كانت الثورة التونسية فرصة نادرة لإعادة النظر في منوال تنمية حقق لامحالة بعض النتائج على صعيد النمو الكمي ووفر بعض آليات التضامن الاجتماعي الممزوج بالزبائنية السياسية، إلا أنه في الجوهر نمط منتج للفوارق والتهميش. كانت فرصة للانخراط في إصلاحات عميقة وثورية تعالج الاختلالات الهيكلية وكل الموروث المنتج للعطالة والبطالة سواء في صفوف المنقطعين عن المدرسة أو ضمن جيش من حملة الشهائد بلا أفق للإدماج المهني. إصلاحات تشجّع الأنشطة المنتجة وتحدّ من تلك الطفيلية وتدمج القطاع غير المنظم مع تقريب أفق العدالة الاجتماعية، وفي ذات الوقت، والى جانب تحرير المجتمع من الخوف وإطلاق الحريات، إرساء مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية على أساس التمثيلية والاستقلالية والشفافية والفاعلية وخدمة الشعب كافة وليس بعضا منه. ملامح حلم جميل راود الكثيرين ولكنه لم يلبث أن تراجع ثمّ تبدّد لينتهي إلى كابوس سياسي واقتصادي واجتماعي وحتى في المجال البيئي! وبعد أن اقترنت فكرة الثورة بفكرة الانتقال الديمقراطي كما تشهد به تسمية أول هيئة سياسية تشكّلت لبحث سبل وشروط تحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي، فإن المسار المطلوب الذي سلكه هذا الأخير قاد في خاتمة مرحلة أولى متعرجة الى حالة من الليبرالية الرثة المضادة للغايات الاجتماعية للثورة والتي مدارها الكرامة بفضل التنمية والعدالة، ثم في مرحلة ثانية وكإفراز وردّ فعل على ذلك الفشل – إلى حالة شعبوية وحلّ استبدادي يتنكر للمكسب الوحيد للثورة والانتقال وهو الحريات التي تضمنها الديمقراطية التعددية.
1 إخفاق الانتقال الأول، الإيديولوجية الليبرالية في خدمة الغنيمة السياسية
بالعودة إلى البدايات يتضح أن حدود الانتقال الديمقراطي التي كان قد رسمتها في لحظة أولى تركيبة المجلس الوطني التأسيسي والإيديولوجيا التي حملها الطرف المهيمن داخله أي حركة النهضة، وفي لحظة ثانية تركيبة وخيارات منظومة التوافق الثنائي بين النهضة ونداء تونس وامتداداته.
لا يخفى أن موجة ما سمّاه الغرب الموجّه أمريكيا كانت متأثرة بقوة بالأيدولوجيا الليبرالية الحقوقية المضمنة في مقولة الانتقال الديمقراطي، والتي كانت ظهرت في سياق انهيار الدكتاتوريات العسكرية بأمريكا اللاتينية والأنظمة الشيوعية بأوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق، ولا غرابة في أن يكون هذا المفهوم قد اصطبغ بلون ليبرالي حقوقي في بلدان تتمثل مشكلتها الأولى إما في التخلص من نظم بيروقراطية-كليانية حتى وإن عرفت درجة لابأس بها من التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وهو حال البلدان الاشتراكية سابقا، وإمّا في التخلص من أنظمة عسكرية ذات نزوعات فاشية وموضوعة في خدمة الاحتكارات، كما كان الحال في البرازيل والشيلي والأرجنتين.
لكن المشكلة ستنشأ عند نقل مفهوم ملتصق بعملية إرساء المنظومة الليبرالية التعددية للتمثيل السياسي وتوزيع السلطة إلى بلد كتونس لم تكن مشكلته الأولى والأوسع وقعا هي غياب الحريات وإنما الاختلالات الهيكلية القطاعية والجهوية التي عمقتها خيارات لا مسؤولة (أولوية السياحة على الفلاحة والصناعة التصديرية، تفكيك القطاع الصناعي الوطني إثر اتفاقية الشراكة مع أوروبا، تضخم صفوف العاطلين عن العمل خاصة من حملة الشهائد) وهو ما جعل المسألة الاجتماعية تحتل الصدارة وتشكل قادح الثورة.
هكذا انتفض شباب تونس لأسباب اجتماعية في المقام الأول ولكن الحلول التي قدمتها الأطراف السياسية هي تلك المتعلقة بتغيير شكل النظام السياسي، وليس في هذا استنقاص من أهمية المنجز السياسي بعد ذهاب النظام القهري لبن علي، والذي كانت أبرز عناصره كتابة دستور يقرّ ويضمن ممارسة الحريات السياسية وغيرها ويكرّس استقلالية السلط ويحدّ من هيمنة الإدارة لفائدة الهيئات التعديلية ومن تسلّط المركز لفائدة المجالس المحلية والجهوية. فلا شك أن هذا التحوّل السياسي والقانوني كان مطلوبا وموضوعا أساسيا لمطالب المعارضة في العهدين البورقيبي والنوفمبري، إلاّ أنه استهلك كل الطاقات بعد الثورة وتمّ على حساب الاهتمام بقضايا التنمية وتطوير المرافق الأساسية والنهوض بالتشغيل كما رافقته استهانة بحجم وخطورة أخطبوط الفساد. لقد تضافرت شواغل الصراع أو التنافس على السلطة وأوجه احتكارها أو تقاسمها مع تبني الإيديولوجية السياسية والحقوقية الليبرالية من قبل طيف متنام من الإسلاميين والدستوريين والتقدميين وحتى الشيوعيين لتفرز حالة من الهوس بالمسألة السياسية – الحقوقية وضعف الوعي بخطورة القضايا الأخرى وطابعها الملحّ، خاصة في هذه المرحلة التاريخية.
فحركة النهضة مثلا، وهي التي شكّلت حكومة الترويكا وترأستها ثم شاركت في تشكيل الحكومات الموالية، وصلت إلى الحكم وقيادتها حاملة لإيديولوجيا ليبرالية نتيجتها غير المقصودة إهمال الديمقراطية الاجتماعية أو توهّم إمكان تحقيقها بتوفر الديمقراطية السياسية. صحيح أن جذور هذا التصوّر كانت حاضرة منذ التسعينات في دعوة قيادة الحركة للحدّ من سلطان الدولة القهرية والمتغوّلة على المجتمع الأهلي وهيئاته التكافلية والخيرية، وهي قناعة تجد ما يبررّها في إطار رؤية بعيدة المدى غايتها إحلال التوازن في العلاقة بين الدولة والمجتمع. بيد أن محاولة تجسيدها دون انتباه لخصائص الوضع الاقتصادي والاجتماعي الهشّ كانت خاطئة ومكلفة. فبقطع النظر عن أية خيارات إيديولوجية مسبقة، فإن تونس كانت إثر الثورة ومازالت لحدّ الآن في حاجة ماسّة لتدخل الدولة كفاعل مشاريعي ومستثمر- بالشراكة مع الخواص إن أمكن – وكمنظم إلى جانب الخواص، وهذا في انتظار النهوض بالاقتصاد التضامني والاجتماعي. كذلك كانت في حاجة ماسّة لتدخل الدولة من أجل تجسيد مبدأ العدالة في مجال الجباية وتوزيع الموارد، ومن أجل مكافحة الفساد ومحاصرة الأضرار التي يلحقها بالاقتصاد وبقيم العمل والنزاهة والشفافية الضرورية للتقدّم الاقتصادي، ولكن مثل هذه الأدوار لم تكن على أجندة قيادة حركة النهضة وضمن أولوياتها، إلى حدّ ذكر معه رئيسها أن مكافحة الفساد ليست من مهام الحكومة، وهو يقصد بالتأكيد أنها مهمّة القضاء وحده، ناسيا أن القضاء حتى ذلك التاريخ (2017) لم يحرّك ساكنا لتولي هذه المهمة.
هذا بالنسبة للنهضة. أمّا بالنسبة للشق الندائي في الحكم والذي أسسه الباجي قائد السبسي بإعادة رسكلة التجمع الدستوري وبيروقراطية الدولة مع تطعيمه بعناصر منحدرة من اليسار، فإن الرهان الإيديولوجي كان غائبا أو هو أصبح أكثر فأكثر محكوما بسياسة نفعية غايتها وضع حدّ للنوايا الهيمنية لحركة النهضة وإلزامها باقتسام الغنيمة السياسية والعودة إلى المنظومة الزبائنية للتجمّع الدستوري. كانت الليبرالية السياسية والإيديولوجية الرثة هي الوعاء والغطاء في آن لهذه التجربة التي تخلّت عن البرنامج الانتخابي لنداء تونس، وهو برنامج تقدّمي إلى حدّ ما، فتركته حبرا عل ورق وجعلت قائد السبسي يعيّن في البداية رئيس حكومة بلا أفق سياسي ولا برنامج ومستقيل عن مهمة مكافحة الفساد بحجة كونها أصعب من مكافحة الإرهاب (وهو ما قاله الصيد حرفيا). وعندما جاءت حكومة الشاهد حاولت تلافي الوضع باقتراح مشاريع قوانين لمراقبة حركة الأموال وإلزام أصحاب المهن الحرّة بالخضوع لنظام ضريبي شفاف وحازم، لتجد نفسها مكبّلة برفض الكتلتين البرلمانيتين للنهضة والنداء من جهة وامتناع الطوائف المهنية من جهة ثانية، ولتتخلى عن أي إصلاح فعلي يقتضي تجاوز الأنانيات وتستبدله بتوصيات صندوق النقد الدولي حول حفظ التوازنات المالية.
وسيكون من المضني أن نتابع استعراض حلقات هذا المسلسل الرديء الذي انتقل من تعطّل أو من فشل أداء الحكومات إلى الفشل في تشكيلها بعد انتخابات 2019 (حكومتا الجملي) بل إلى تفخيخ مبرمج (حكومة الفخفاخ) وتلاعب ومناورة (حكومة المشيشي الذي غيّر ولاءه من الرئيس الذي عينه إلى النهضة)، وما رافق ذلك من عبث في البرلمان مارسته مختلف الكتل الحاكمة منها والمعارضة ومشاحنات حوّلت مجلس النوّاب من مؤسسة للتعبير المسؤول عن مشاكل وتطلعات مختلف فئات الشعب إلى مسرح لاستعراض الوجاهة ومنبر للتشهير وحلبة لتبادل العنف!
كنا تحدثنا بخصوص هذه الظاهرة عن استفحال عجز الدولة، عجز بدأ بسقوط نظام بن علي الذي تحوّل إلى تصدّع لمؤسسة الدولة نفسها وتحدّ لها ولقوانينها وقصورها عن القيام بدورها خوفا من ردود الفعل الفوضوية، على غرار ما حصل من اعتصامات بمؤسسات كبرى عطّلت آلة الإنتاج والتصدير وكبّدت البلاد من الخسائر ما يناهز قيمة تداينها الخارجي. إلاّ أن مظاهر العجز لم تقف عند هذا الحد بل استفحلت بمرور الوقت بفعل عوامل منها بؤس الحوكمة وسوء التصرّف العائد إلى انعدام الكفاءة، ومنها تشكيل عدّة حكومات برئاسة شخصية ضعيفة ومفتقرة للتجربة وقابلة للانصياع للتعليمات، ومنها ظهور مراكز نفوذ ولوبيات إعلامية-مالية تتلاعب بالرأي العام وبالعملية السياسية. لم نصل لا محالة إلى وضع الدولة الفاشلة أي التي تفقد وحدتها والقدرة على حماية مواطنيها أو على تأمين الخدمات الدنيا، ولكنها عاجزة بسبب تعدّد مراكز القرار صلبها أو تردّد مركز القرار في القيام بالمطلوب لوقف التدهور، وهو ما أوصل الوضع إلى حالة من الانسداد والمؤسسات إلى حالة من الشلل ومكّن لرئيس دولة ذي صلاحيات دستورية محدودة ولكنه حاصل على دعم الأجهزة الصلبة كي يضع حدّا لحالة جعلت الكثير من التونسيين يكفرون بالأحزاب والبرلمان والسياسيين وحتى بالديمقراطية!
2 الشعبوية وإغراء وأد التجربة التعددّية
كان تراجع مصداقية المنظومة السياسية نتيجة التلاعب بتشكيل الحكومات وتركيبة الكتل ورسم السياسات إلى جانب إرادة التحكّم في تركيبة المحكمة الدستورية والتنافس الحادّ على تمثيل الدولة بين راشد الغنوشي وقيس سعيد وما كان يمثله من مسّ بوحدتها، بالإضافة إلى عدم مقبولية حكومة المشيشي لدى رئيس الدولة. هي بمثابة تعبيرات عن أزمة مؤسسة سياسية أصابها الصدع من الداخل وباتت مشلولة ومهدّدة في شرعيتها، ما أتاح لرئيس الجمهورية وضع حدّ لحياتها بموافقة المؤسسة العسكرية وتجاوز ما يتيحه له الفصل 80 من دستور 2014 بتجميع كل السلطات بين يديه. انقلاب دستوري ما في ذلك شك وانقلاب سياسي أيضا وضع حدّا لهيمنة حركة النهضة على مقدرات الحياة السياسية، اعتبره البعض بمثابة الحل الوحيد لحالة الانسداد وعجز المنظومة الحاكمة عن إصلاح ذاتها، وسارعت أغلب قيادات المعارضة للمطالبة بالتراجع عنه ولكن في وضع من عدم التناغم مع موجة شعبية ناقمة على السياسيين وتريد من سعيد أن يكون ”الرايـس“ (الربّان) الذي يقود سفينة تونس إلى مرسى آمن.
جاء المرسوم 117 مسندا جميع السلط للرئيس المجسّد لإرادة الشعب صاحب السيادة، قبل أن يكرّس الوضع المستجد بصدور دستور 30 جويلية 2022. وفي الأثناء تم تحويل مؤسسة رئاسة الحكومة إلى مجرد أداة تنفيذية لإرادة رئيس الدولة مع تعيين موظف على رأسها لا يتمتع بأي خبرة لإدارة الشأن العام. وتوالت الإجراءات الإدارية والزجرية الرامية لإخضاع المؤسسة القضائية – وهي التي استرجعت بالكاد بعضا من استقلالها – لرغبات السلطة التنفيذية، واستصدر المرسوم 54 للجم كل انتقاد لأفعال الحاكمين، وعادت الوصاية على الإعلام العمومي السمعي والبصري تماما كما كانت في عهد بن علي فيما أصبحت المؤسسات الإعلامية الخاصة، وهي التي كانت تنشط بحرية كاملة، تمارس الرقابة الذاتية وملزمة بفسح المجال للمدافعين عن خيارات الرئيس وقرارات الحكومة من المحسوبين على الإعلام ومرتزقة السياسة.
ومع ذلك لا يمثل هذا المنعطف الوصائي والتسلّطي والذي طال هيئة الانتخابات والبرلمان المنتخب وفق أحكام الدستور الجديد، سوى أحد أبعاد الحالة الاستثنائية التي انخرط فيها الرئيس، وإن تمّت دسترتها. فإلى جانب الإجراءات الإدارية التعسفية والدفع ببعض السلط العدلية لإصدار قرارات ضد المعارضين والمخالفين، تعتمد منظومة السيطرة الجديدة آليات السياسة الشعبوية وأيديولوجيتها الهادفة الى تهميش وإقصاء الهيئات الوسيطة وتعويض النخب الحزبية والثقافية والمهنية المعارضة أو حتى المستقلة بقيادات وعناصر انحازت عن قناعة للرئيس أو استبدلت ولاءاتها السابقة بالولاء له، ودائما لغايات نفعية.
كيف نفسّر العداوة المتزايدة التي أظهرها قيس سعيد تجاه قيادات الأحزاب والنقابات التي لم تسارع إلى تأييد تحركه في 25 جويلية ورفضه لأي حوار معها فضلا عن إشراكها في صناعة القرار الوطني؟ وبأي منطق نفهم حالة الفراغ التي يحدثها حول نفسه باستبعاد أهل الخبرة والكفاءة وأصحاب الرأي والمشورة وتفضيله الاعتماد على تكنوقراط أمضوا حياتهم المهنية في الظل ولا يعرف لهم رأي وخوض في الشأن العام، فما بالكم بالشأن السياسي؟
في تقديرنا أن هذا السلوك يجد تفسيره في عاملين متكاملين: الأول هو الصراع المحض والعاري على السلطة والنفوذ أو كما يقال على كرسي الحكم، والمشكل ليس في هذا الصراع القديم قدم هيئات الحكم وإنما في خوضه باستخدام كل الإمكانيات المتاحة لإخراج المنافسين من الحلبة أو إن شئنا طرد الحكم لكافة اللاعبين وحلوله محلّهم كلاعب وحيد! ولكن من الممكن أيضا أن نرى في هذا السلوك الإقصائي ثمرة منتظرة وطبيعية لكل توجّه شعبوي.
الشعبوية هي إيديولوجية تمتدح الشعب وتقدّسه وفي ذات الوقت تدغدغ مشاعر الجماهير وتخاطبها بما تريد أن تسمعه، وهي أيضا تزعم وجود إرادة شعبية واحدة ومتجانسة يمكن أن تمارس بشكل مباشر. ولكن الشعبوية أكثر من إيديولوجية عفوية، بل هي إستراتيجية للظهور في المسرح السياسي ثم للوصول إلى الحكم وأخيرا، وفي حالات محدّدة، استخدام وسائل الدولة لتطهير الساحة من المنافسين، وهو ما يكون عادة بشيطنة النخب التقليدية وتصويرها كعنوان للفساد والشرور ومصدر أذية للوطن والشعب في الداخل وعمالة للخارج، وبما يبرّر إدانتها ومعاقبتها ومنعها من أي نشاط عمومي. وهذه هي الشعبوية التي يمارسها الرئيس بحديثه المتكرّر عن مؤامرات تحاك وأعداء يتربصون، أعداء لا يتمّ تحديدهم بوضوح فضلا عن تسميتهم، بما يشيع مناخا من الريبة والشك بل الخوف على البلاد ويجعل الرئيس بمثابة الملاذ الأخير الذي من حقه أن يمارس سلطة مطلقة ويحظى بحرية مطلقة في التقدير والحكم على الأشياء وعلى الناس.
ولا تنحصر المشكلة مع هذا النمط من الاستبداد الشعبوي في استعداده للنيل من الحريات والحقوق الطبيعية للناس، وتحديدا كل من يشتبه بقدرتهم على التأثير في الاتجاه المعاكس لرغبات وسياسات السلطة الشعبوية، وإنما تتجاوز ذلك إلى ما يصاحبه من إقصاء لكفاءات وخبرات قادرة على إفادة البلاد وما يقود إليه استبعاد أهل الرأي ومن انفتاح الباب على مصراعيه لاتخاذ قرارات عشوائية ومرتجلة ومكلفة، ومن دون مراجعة واعتراف بالخطأ، وهو ما شهدنا أمثلة متعدّدة منه منذ الخامس والعشرين من جويلية، سواء في إدارة الشأن الداخلي أو مجال العلاقات الخارجية مع الأجوار المغاربة أو مع إفريقيا جنوب الصحراء حول مسألة الهجرة غير النظامية أو مع مؤسسة الإتحاد الإفريقي ذاتها، ومع ما يسمّى بالشركاء الغربيين ومع الهيئات الدولية ! علما بأننا نتحدث هنا عن أسلوب التعاطي مع الفرقاء وليس عن مضامين المواقف السياسية.
وإذا ما بقينا في إطار الشأن الداخلي فإن الأدهى والأمرّ في ما يحصل من توتير للعلاقة بين أعلى هرم السلطة والنخب السياسية أن هذه الأخيرة استهدفت بكل الاتهامات وذهب الأمر إلى حد تصديق حكاية التآمر والبناء على الظنون والأوهام.، والحال أن القيادات السياسية المعتقلة، على فرضية أنها تطمح لمنافسة الرئيس على التأثير، فهي تعتمد خطابا شفافا وتعمل في العلن وتتوجّه إلى كل من السلطة والرأي العام بما تراه من مآخذ وتقترحه من سياسات، وتتوخى السلمية حتى في دعواتها للاحتجاج، وتفعل ذلك من موقع الحرص على المصلحة الوطنية والحق في الحرية والتحرّر من عقلية الراعي والرعية.
من هنا الصبغة التعسفية لاعتقال عدد من أبرز نشطاء المعارضة وتوجيه تهم خطيرة لهم والحال أنهم لم يفعلوا سوى ممارسة حق الاجتماع لتدارس أحوال البلاد والنقاش حول سبل الدفع إلى حوار وطني جامع يفضي إلى ما تحتاجه من إصلاحات ومعالجات للأزمة. هي ضربة قاسية استهدفت أهم مكسب حققته الثورة والمتمثل في تأكيد حرية العمل السياسي. ومن المفارقات الأكثر إيلاما أن هذه الاعتقالات التي توسّعت لتشمل عددا من أبرز قيادات حركة النهضة قد حصرت الأحزاب المعارضة داخل المرجع الحقوقي وحوّلت وظيفتها من نقد الأوضاع واقتراح السياسات والبرامج البديلة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتربوية وغيرها، إلى المطالبة بإطلاق سراح معتقليها، بحيث أرجعتنا هذه الإجراءات التعسفية والانتقامية إلى وضع يشبه، بل أسوأ ممّا عرفناه في ظل دكتاتورية بن علي، باستثناء طريقة معاملة النهضويين الذين عذّبوا بوحشية وانتهكت أعراضهم، ولكن لنتذكر لحظة أننا اليوم في مرحلة ما بعد الثورة وأن ليس لنا أن نعزّي أنفسنا على استبدال دكتاتورية عاتية وفاسدة باستبداد شعبوي يريد فرض أحكامه باسم العودة إلى مبادئ الثورة ذاتها !!
3 لنضع حدّا للتعارض المفتعل بين ضمان الحريات ومطلب العدالة الاجتماعية، من أجل تجديد وتجذير مفهوم الانتقال الديمقراطي
وبالفعل فإن مشكلة تونس اليوم لا تعود فقط إلى الانفراد بالسلطة والاعتقاد في الصلاح الذاتي واحتكار صفات الوطنية والنظافة والإصرار على استبعاد المعارضين ومنعهم من التواصل مع الرأي العام، وما يفرزه ذلك من خطاب إقصائي عنيف عنوانه الطهورية والتطهير، ووصف المخالفين بالجراثيم والخونة، الخ… فخلف السياسة المباشرة ونزاع النفوذ أو بجانبهما نجد اختلافا في الرؤى والتصورات وتباينا واضحا في تقييم المسار الذي قطعته تونس منذ انتفاضة 17/14، وفي تصوّر العلاقة بين الثورة والانتقال الديمقراطي. والجدير بالتنويه أن مثل هذا الاختلاف لا يهمّ قيس سعيد ودائرة أنصاره الأقربين فقط، بل يمتد إلى أطراف غير شعبوية، أطراف تنتمي إلى أقصى اليسار، تنافس قيس سعيد ومعسكره على الثورية، وتبتعد عنه بمرجعيتها الماركسية اللينينية، ولكن ما يجمع بين الفريقين هو مصادرتهما بوجود تعارض لا حل له بين الثورة والانتقال الديمقراطي، مصادرة نعتبرها غير وجيهة ومرتبطة بقوالب أيدولوجية وبأحكام تعميمية متسرّعة.
لنوضّح بداية، وتفاديا لسوء التفاهم، أننا لا ننفي إمكانية حصول هذا التناقض ولكننا نربطه بالمضمون الذي يتم إعطاؤه لمفهوم الانتقال الديمقراطي. ولا شك أن هذا المفهوم، بالمدلول الذي أعطته له العلوم السياسية الغربية لحدّ الآن والذي تداولته النخب السياسية ومنها التونسية، يختزل عملية الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية في بعدها السياسي-الحقوقي الليبرالي، بما يقصي البعد الأساسي في كل ثورة ديمقراطية اجتماعية وكل تحوّل جذري في السلطة والذي يكمن تحديدا في مسألة توزيع الثروة أو الموارد الوطنية بين الطبقات والجهات وبين المدينة والريف وحتى بين مختلف المناطق والأحياء داخل نفس الفضاء الحضري. إن الديمقراطية في مفهومنا، وكما كانت دائما، وخلافا لتأويلها الليبرالي، لا تقتصر على السياسي دون الاجتماعي، بل أن عالم الاجتماع الفرنسي ألكسيس توكفيل، رغم منبته الأرستقراطي وتوجّهه الليبرالي (الكلاسيكي)، عرّف الديمقراطية بتساوي الفرص أي بإلغاء كل الامتيازات السالفة، وتنزيلا على الحالة التونسية وسياق الثورة وما تلاها، تطرح أسئلة وجيهة لم تعطها أغلب الأحزاب ، وبالخصوص أوفرها حظوظا ، المكانة التي تستحق : كيف يمكن الكلام عن ممارسة فعلية لحقوق متساوية في المواطنة في ظل التفاوت الفادح في الثروة وفي توجيه وتوزيع الموارد بين البورجوازية الكبيرة (بما فيها الفئة العليا من أصحاب ”المهن الحرّة“) وبين الفئات المحرومة والتي تعاني من مصاعب العيش ؟ ثم هل يمكن الكلام عن تساوي الفرص عندما يكون الفساد السياسي هو المتحكّم بخيوط اللعبة؟ وعندما يكون المهرّبون ومبيضو الأموال قادرين على شراء ذمم كبار موظفي الدولة؟ وعندما تكون مصالح اللوبيات مؤثرة في صنع مواقف قيادات حزبية وشخصيات برلمانية وحتى في أعضاء الحكومة وقراراتها؟
في الإجابة عن هذه التساؤلات تكمن شرعية النقد الذي وجّهناه ووجّهه غيرنا، ولو من زوايا مختلفة، لمسار الانتقال إلى الديمقراطية كما عرفته تونس. انتقال اقتصر على المجال السياسي وتجاهل إلى حدّ كبير البعد الاجتماعي ومصاحباته في السياسة الإنمائية، كما ترك جانبا المعركة ضد الفساد إلى درجة أصبح معها هذا الأخير من أسباب ”فساد“ الانتقال نفسه وانحرافه إلى إطار لتقاسم السلطة والغنيمة، وبالتالي إنتاج ما وصفناه بالديمقراطية الفاسدة.
نعم! كان يفترض أن تفتح الثورة على إصلاحات جذرية أي ثورية تطال نمط التنمية والتوازنات بين القطاعات والجهات وبين الإنتاج والاستهلاك، وتوجيه الاستثمارات، وتطهير مسالك التوزيع، وتهريب الأموال عبر التجارة الخارجية، والعلاقة بين منظومة التعليم والتكوين والتشغيل، والسياسة الفلاحية وفي مجال الريّ، والوضع البيئي، وحالة المرافق الصحية والتربوية والنقل – وهذا إلى جانب ما حققته على الصعيد السياسي، خصوصا بإقرار وممارسة الحريات العامة والفردية وما شرعت في إرسائه من مؤسسات دستورية ذات وظيفة تعديلية، وما أتاحته لوسائل الإعلام وللمجتمع من حرية التعبير.
لذلك، ورغم حديثنا عن ”محنة تونس“ في معرض الإشارة إلى تعطّل الإصلاحات المستوجبة ونتائجه الوخيمة، فإننا لا نرى أي مصداقية للحديث عن ”عشرية سوداء“ بل نرى في هذا الخطاب العدمي والسوداوي مجرّد تعلّة لإقصاء من ساهموا في تجربة الانتقال الديمقراطي من مواقع مختلفة وبنجاحات متفاوتة.
في ضوء ما سبق يمكننا أن نناقش ولو بإيجاز آراء من يرفضون مفهوم الانتقال الديمقراطي – سواء من أقصى اليسار (وخاصة في التيار الوطني الديمقراطي) أو الرئيس قيس سعيد وأنصاره – ويعارضونه بمقولة الثورة.
يتوزع الرافضون لمفهوم الانتقال الديمقراطي بين يساريين يعتبرون، على غرار الباحث في علم الاجتماع المولدي قسومي، أن حصيلة الثورة التونسية صفر لأنها لم تغيّر ”العلاقات الطبقية والجهوية اللامتكافئة“ و”أعطت السلطة لمن شاركوا في الثورة“ كما أعطت الحرية ”لا يستطيع أن يتمتع بها المفقرون والبؤساء“ – هذا من جهة، ومن جهة ثانية شعبويين لا يحكّمون نظرية ماركسية لينينية قابلة للنقاش بل مخيالا تآمريا يحيلنا إلى ”الخيانة“ و”سرقة الثورة“ من قبل خصومها. ونحن لا نرى معقولية نقبل بها ونناقشها في الإجابة الثانية في حين يمكن الردّ بعقلانية على الموقف الأول. لقد تطرقنا أعلاه بالنقد إلى جوانب من الانتقال الديمقراطي الذي تمّ في تونس، وبالتحديد غياب الهمّ الاجتماعي والوعي بضرورة معالجة الاختلالات البنيوية والفوارق الحادة بين الفئات والجهات، وتساءلنا عن مصداقية الديمقراطية السياسية في ظل هذه الفوارق، وكذلك في ظل الخراب الذي يتسبّب فيه الفساد، والذي لا يوليه الرفاق المولعون بالتحليل الطبقي ونقد الرأسمالية أهمية. وعليه فنحن لا نرفض مآخذ أقصى اليسار بالجملة ولكننا نرى ضرورة تنسيبها وتنقيحها حتى نفهم عن أي تغيير للعلاقات الطبقية نتحدث (ثورة اجتماعية جذرية للبروليتاريا والمهمشين أم إصلاح عميق وجذري؟). من ناحية ثانية فإن الحرية، حتى وإن لم تكن مطلبا حيويا لدى الطبقات المسحوقة والمهمشين، فإنه لا يمكن احتقارها أو تجاهلها كمكسب. كما ينبغي التريث والتنسيب عند ربطها فقط باهتمامات المثقفين أو البورجوازية، حتى لا نقع فيما وقع فيه شيوعيو الأممية الثالثة والمنظومة الاشتراكية من إرساء لدكتاتورية كليانية قاسية تستهين ”بالحريات البورجوازية“.
في كل الأحوال لا نرى أن المنظومة الديمقراطية التعددية في حدّ ذاتها هي السبب في انحراف مسار الانتقال بتونس نحو ديمقراطية فاسدة أو ديمقراطية نخب مقطوعة عن-أو قليلة الإنصات لهواجس الطبقات الشعبية، بل ندعو إلى اعتبار خصائص التربة الاجتماعية والموروث الثقافي (دور العلاقات العائلية والعروشية، المحسوبية، تبرير الرشوة، الخ….) ممّا ساهم في هذا الفشل وأفرز تصوّرا ضيقا وتطبيقا رثّا لمبادئ الليبرالية، بما في ذلك نسيان أو تناسي قيم العمل والإنجاز والنظافة والاستقامة وكذلك الربط بين الحرية والمساواة الذي حصل في سياق تطوّر الليبرالية وانفتاحها على مطالب الحركة العمالية والحركة النسوية وأخيرا مطالب المهمشين والأقليات.
وعلاوة على المبادئ السامية والقيم الرفيعة التي جاءت بها الحداثة الرأسمالية والليبرالية الأولى والإصلاحات الدينية في الغرب وأخذت عنها الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي، فإن المطلوب هو تطعيمها واستكمالها بدل إلغائها – باعتماد مثل الحركات الاشتراكية ومكاسب الحركات الوطنية والمناهضة للامبريالية، وتّيار الحقوق النسوية وحقوق الإنسان، طبعا باعتماد تمش رصين لا يقفز على خصوصية الثقافات أو السياقات التاريخية. في هذا الإطار يمكن برأينا الذهاب حتى إلى طرح موضوع التمييز الإيجابي لفائدة الجهات المحرومة، وموضوع مكافحة الإثراء غير المشروع بما في ذلك سؤال: ”من أين لك هذا“؟ للنقاش ولإصدار التشريع المناسب، بل أننا لا نرى ضررا في الانخراط في تفكير جماعي حول إشكالية التمثيل السياسي وأزمة التمثيلية وأوجه معالجتها سواء صلب النظام البرلماني أو إن تعذر فباللجوء للصيغة المجالسية كمكمّل له.
نحن ندعو جميع الأطياف السياسية ومكوّنات المجتمع السياسي والمدني إلى الانخراط في مناقشة هذه القضايا، دون عقد ودون محرّمات وقوالب جاهزة وأفكار مسبقة. كما ندعو إلى استخلاص الدرس من تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، ليس للعودة إليها كما كانت واستئنافها، وإنما بالعمل من أجل تحوّل ديمقراطي جديد.
هذا ما نقترحه كمشاركة في النقاش العمومي حول الانتخابات الرئاسية القادمة، وسبل الخروج من الأزمة السياسية، ونأمل أيضا أن يسهم في بناء أرضية فكرية سياسية وبرامجية للطيف الديمقراطي الاجتماعي الواسع.
iThere are no comments
Add yours