رغم اختلاف القراءات والتأويلات في تونس، مثّل البلاغ الرئاسي ليلة 21 فيفري 2023 منعرجا بالغا في التعاطي الرسمي مع مهاجري جنوب الصحراء الافريقية، المتواجدين على التراب التونسي. فحديث رأس السلطة عن ”جحافل“ المهاجرين ومؤامرة تغيير التركيبة الديمغرافية التونسية لجعل تونس دولة إفريقية فقط وتجريدها من انتمائها العربي الإسلامي، بتخطيط وتمويل من غرف مظلمة، خلّف أحداثا وسلوكيات يصعب تداركها رغم المحاولات الرسمية المتذبذبة في التخفيف من حدة انعكاساتها.

وان تضاربت الاحصائيات المتعلقة بأعداد الوافدين على تونس من جنوب الصحراء بنيّة الهجرة نحو أوروبا وعدد المهاجرين الذين تم اعتراض مراكبهم واعادتهم الى التراب التونسي، فإن إفادات وزير الداخلية المقال كمال الفقي خلال جلسة استماع برلمانية قد تكون احدى العوامل المباشرة التي أدت إلى اقالته، خاصة تلك التي تحدثت عن صد نحو 53 ألف مهاجر بين جانفي وماي 2024.

هواجس مشتركة ونظرة مختلفة

وسط هذا السياق السياسي الاجتماعي المتقد، تواصل مراكب الهجرة التدفق من الشواطئ التونسية إلى الأراضي الأوروبية محملة مهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء وتونسيين باحثين عن الاستقرار في أوروبا والعيش فيها، رغم تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين. فيتقاسم المهاجرون مشاعر القلق والريبة والغموض مما ينتظرهم شمال المتوسط.

21 فيفري 2023 قرطاج، اجتماع مجلس الامن القومي الذي ترأسه الرئيس قيس سعيد بعد إصداره بلاغ 21 فيفري الشهير – رئاسة الجمهورية

تحدثنا مع رائد، شاب تونسي بالغ من العمر 26 سنة يعيش في فرنسا بصفة غير قانونية منذ سنة تقريبا بعد أن وصل إلى أوروبا بعد رحلة شاقة امتدت لأسابيع من تونس مرورا بتركيا وصربيا وصولا إلى المجر ودول الاتحاد الأوروبي.

رحلة الوصول إلى فضاء ”شنغن“ الأوروبي انطلاقا من الحي الشعبي الذي نشأ فيه رائد تتقاطع في نقاط عدة مع رحلة المهاجر من جنوب الصحراء الافريقية نحو الأراضي التونسية برا، حيث تجتمع قصص المسارات البرية الصعبة والتخفي من حرس الحدود ودوريات الشرطة وكاميرات المراقبة التي قد تنهي الرحلة داخل أحد السجون أو العودة إلى نقطة الانطلاق الأولى بعد أسابيع من المشي المتواصل والمبيت في العراء.

رائد لا ينكر تغير أفكاره بعد تجربة ”الحرقة“ ومساعي التأقلم مع نمط الحياة اليومية في فرنسا. ”الآن أدركت وعرفت إحساس المهاجر الذي فرض عليه أن يعيش في بلد أجنبي وبين أشخاص غرباء بحثا عن لقمة العيش ومستقبل أفضل بعد رحلة شاقة استغرقت وقتا طويلا وجهدا جبار“، بهذه الكلمات يصف رائد ما يعيشه من تغيرات على مستوى الأفكار المتعلقة بظاهرة الهجرة وحياة المهاجرين.

رحلة الوصول إلى فرنسا عن طريق صربيا أو ما عرف آنذاك ب ”طريق الكازاوي“ والتي لاقت رواجا واسعا في صفوف المهاجرين سنة 2022، كانت تنطلق من مطار تونس قرطاج وصولا إلى تركيا و من ثم إلى مطار نيكولا تسلا في بلغراد الصربية، هناك يخضع التونسيون لتحقيق مطول واحتجاز أو ترحيل دون تبرير بمجرد تقديم جواز السفر التونسي وفق شهادات وروايات متعددة عايشها محدثنا أو انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أما من حالفهم الحظ  فيواصلون رحلتهم نحو المدن الحدودية مع المجر للوصول إلى عملاء الكازاوي، (وهي كنية أحد أشهر المهربين أصيل مدينة ”كازابلانكا“ الدار البيضاء المغربية) والمتواجدين في المناطق الغابية، أملا في اغتنام فرصة تسلق السياج الحدودي ومواصلة الرحلة نحو المجر والنمسا وسويسرا وصولا إلى فرنسا في مجموعات يكون أغلبها من أصحاب الجنسية التونسية والعراقية والسورية.

  يواصل رائد حديثه قائلا ”عندما تصل إلى أوروبا ستدرك أن ما يحدث مع مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء في تونس أمر غير مقبول“ مفسرا الأمر بتجرعه مرارة أن تكون غريبا في مكان ما وأن تشارك حياتك اليومية مع أشخاص من فصيلة عرقية أخرى وأن تعيش واقعا يفرض عليك العيش والعمل مكمم الفم خوفا من خسارة كل ما سعيت من أجله، وفق تعبيره.

يتحدث الشاب عن علاقته بباقي المهاجرين من الجنسيات الإفريقية في أوروبا ليعتبرها عادية لا تتسم بأي عداء أو تمييز على اللون، نظرة لا تنسحب على كل المهاجرين باعتبار الممارسات والخطاب العنصري اللاواعي عند عدد من التونسيين المتواجدين في أوروبا.

الاستعلاء الأبيض المتدرج

”كلاوس“ اسم مستعار لمهاجر تونسي في أوروبا يخشى الإفصاح عن هويته، وصل كلاوس إلى إيطاليا أسابيع قبل تفشي الكوفيد في رحلة بحرية انطلقت من شواطئ الوطن القبلي، ينشط حتى الآن في مجالات غير قانونية ضمن مجموعة مكونة من مهاجرين أصيلي دول شمال إفريقيا تتحرك بين عدد من دول أوروبا الغربية.

الشاب لا يخفي العلاقة العدائية بين المهاجرين التونسيين وشعوب شمال إفريقيا من جهة والمهاجرين من دول جنوب الصحراء من جهة أخرى، معتبرا أنهم مجموعات خطيرة تتسبب في كثير من الأحيان في مشاكل لباقي المهاجرين نتيجة تصرفاتهم ”غير الحضارية“ وممارساتهم التي تجلب أنظار الشرطة بسبب تكرر عمليات السرقة والعنف التي يمارسونها لتحصيل المال خاصة في صفوف الوافدين الجدد منهم، وفق روايته.

نحن كتونسيين لا نختلف كثيرا في طريقة عيشنا مع الشعوب الأوروبية وحتى إن كنا مهاجرين دون وثائق رسمية فهذا لا يخفي أننا نستحق العيش هنا بطريقة لائقة، عكس أصحاب البشرة السوداء من إفريقيا فهم يتسببون بمشاكل عديدة ولا يمكنهم التعايش داخل المجتمعات الأوروبية.

كلاوس

بهذه الكلمات يصف الشاب التونسي علاقته ونظرته للمهاجرين الوافدين على الأراضي الأوروبية انطلاقا من إفريقيا جنوب الصحراء.

جوان 2022 ضفاف البحيرة تونس، صورة من اعتصام طالبي لجوء أمام مقر المفوضية الأوروبية – طارق العبيدي

هذا الموقف العدائي تجاه أفارقة جنوب الصحراء يزداد حدة في خطاب الشاب عند الحديث عن تواجدهم في تونس، إذ يعتبر أن السلطة وعلى رأسها رئيس الجمهورية قيس سعيد محقة في طريقة تعاملها معهم مطالبا بأن تكون أكثر صرامة لمنعهم من التواجد بهذه الأعداد الكبيرة داخل المجتمع التونسي حماية لنمط العيش أولا ولمنعهم من الوصول إلى أوروبا والإضرار بالمهاجرين التونسيين المتواجدين هناك، معتبرا أنهم السبب الرئيسي في خلق أزمة للمهاجرين خاصة في إيطاليا منذ أن تحولت شواطئ تونس إلى ملاذ سهل بالنسبة إليهم وطريقا معبدا للوصول إلى أوروبا.

 إذ يعتبر ”كلاوس“ أن تحول تونس إلى نقطة انطلاق السود نحو أوروبا جعل الأمر أكثر تعقيدا للشباب التونسيين وخلق أزمة عقدت وصول مراكب الهجرة بسبب الدوريات المكثفة في تونس وإيطاليا، زيادة عن اكتظاظ مراكز الإيواء الأوروبية، ما عمق أزمة شباب الأحياء الشعبية الذين كانوا يلجؤون إلى الحرقة بأسعار معقولة، عكس ما يحدث اليوم من ارتفاع تكلفة الحرقة وصعوبة الوصول إلى الشواطئ الإيطالية.

 تشير أرقام الحرس الوطني التونسي أنه قد تم منع واعتراض نحو 70 ألف مهاجر خلال سنة 2023 أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط نحو إيطاليا، في حصيلة تتجاوز ضعف تلك المسجلة في الفترة نفسها من سنة 2022. فيما نشرت وكالة فرانس برس معطيات نقلا عن المتحدث باسم الحرس الوطني تشير إلى أن 77,5% (54224) ممن تم اعتراضهم أجانب، غالبيتهم من مواطني دول إفريقيا جنوب الصحراء، والباقون تونسيون (15739)، مقابل 59% من الأجانب سنة 2022 (18363) و12961 تونسيًا، إضافة إلى 52972 شخصا حاولوا منذ بداية 2024 اجتياز الحدود البحرية خلسة نحو الفضاء الأوروبي انطلاقا من السواحل التونسية، من بينهم 48765 أجنبيا (92 بالمائة).


صعود اليمين المتطرف الأوروبي يهدد المهاجرين، حوار مع رمضان بن عمر

صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية الأخيرة عزز المخاوف بخصوص وضعية المهاجرين في دول الاتحاد، خاصة فيما يتعلق بالمهاجرين غير النظاميين المعرضين للترحيل القسري. في سياق ساهمت فيه الاتفاقيات مع إيطاليا في تصدير ازمة الهجرة إلى تونس، حاورت نواة رمضان بن عمر المتحدث باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.


في هذا السياق يصف النائب السابق بالبرلمان عن دائرة إيطاليا والناشط في ملف الهجرة، مجدي الكرباعي، علاقة المهاجر التونسي في إيطاليا بباقي جنسيات جنوب الصحراء الإفريقية بكونها علاقة تقوم عادة على خطاب عنصري رافض لأي احتكاك أو تواصل مع أصحاب البشرة السوداء خاصة في مراكز الإيواء.

يقول الكرباعي في حديثه لنواة ”عدد من المهاجرين التونسيين يطالبون بتغيير مراكز الاحتجاز والايواء بسبب وجود مهاجرين من جنوب الصحراء الافريقية داخلها، ويبررون ذلك بانبعاث روائح كريهة تدفعهم إلى رفض الإقامة مع شخص أسود البشرة“. يؤكد محدثنا أن مثل هذه الطلبات تتكرر بشكل متواصل وتعكس سلوكا عنصريا للمهاجر التونسي الواصل إلى أوروبا نتيجة أحكام مسبقة وخطاب عنصري يتنامى بشكل كبير داخل المجتمع التونسي، مواصلا القول ”هذا السلوك تسبب في مواجهات وتبادل للعنف في عدد من المرات بين المهاجرين داخل مراكز الايواء بسبب ممارسات عنصرية صادرة عن شبان تونسيين تجاه أفارقة جنوب الصحراء“.

يعتبر الكرباعي أن المشهد لا يختلف كثيرا بين تونس وإيطاليا فطريقة تفكير المهاجر التونسي تأثرت بالخطاب الرسمي المحرض على المهاجرين الأفارقة من أصحاب البشرة السوداء، ما جعل المهاجر التونسي الذي دخل أوروبا مؤخرا بطريقة غير نظامية يشعر بأنه مهاجر صنف ”أ“ مقارنة بباقي المهاجرين المتواجدين معه في نفس المكان، وأنه أقرب إلى طريقة العيش الأوروبية والاندماج في مجتمعاتها عكس الوافدين المنحدرين من افريقيا جنوب الصحراء.

ووفقًا لتقارير المفوضية الأوروبية والمنظمة الدولية للهجرة، شهدت السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في عدد المهاجرين التونسيين غير النظاميين المتواجدين في أوروبا، ففي سنتي 2022 و2023 وصل عدد المهاجرين التونسيين غير النظاميين الذين دخلوا الاتحاد الأوروبي إلى حوالي 30 ألف شخص. لتقارب تسبة المهاجرين التونسيين غير النظاميين في أوروبا 70% من إجمالي المهاجرين التونسيين


خطاب السلطة يحرّر النزعات العنصرية في تونس، حوار مع ماهر حنين

مع تنامي موجة العداء تجاه مهاجري جنوب الصحراء، سواء على وسائل الاتصال الاجتماعي أو بممارسات عنصرية على أرض الواقع، حاورت نواة الباحث والناشط المدني والسياسي، ماهر حنين لمحاولة تفكيك ظاهرة تبني المزاج الشعبي للعنصرية.


واقع يحيلنا إلى ازدواجية صارخة تكشف عن تناقض في المواقف، حيث يطالب التونسيون بتعامل حقوقي إنساني عادل لأبنائهم في الخارج، ولا تعير أعداد متزايدة منهم الاهتمام بتصاعد خطابات التمييز ضد أصيلي جنوب الصحراء في تونس.

 في هذ الشأن يعتبر المختص في علم الاجتماع محمد الجويلي في حديثه لنواة أن ملف الهجرة يعتبر مختبرا لمعرفة مدى تقبل الأفراد لبعضهم البعض، وهو أمر كشف خلال السنوات الأخيرة أزمة مجتمعية متمثلة في رفض قبول الآخر داخل المجتمع التونسي أو الأوروبي، ما يجعلنا عاجزين أمام مقبولية المجتمع للآخر، وفق تعبيره. مضيفا:

هذا السلوك العنصري في صفوف المهاجرين يكشف عن أعوارنا، نحن نرفض أن تمارس العنصرية على مهاجر تونسي لكننا نبررها ونمارسها على شعوب إفريقيا ما وراء الصحراء.

محمد الجويلي

كما يصف الجويلي هذه الممارسات والخطابات بالسكيزوفرانيا المجتمعية والنفسية التي يعاني منها التونسي، عبر نظرة استعلاء إحتقارية لباقي الشعوب الإفريقية، مفيدا أنها نتاج سنوات من التوجهات السياسية التي تتبناها الدولة التونسية والتي قطعت جذور العلاقة مع القارة الإفريقية، فأنتجت موقفا شعبيا سلبيا بين تونس وباقي شعوب ما وراء الصحراء.

الجويلي يعتبر أنه لا يمكن حصر الهجرة في هجرة الأفراد، بل هي رحلة أفكار وقيم أيضا، فالمهاجر التونسي الذي يصل إلى أوروبا يأخذ معه شخصيته التي تكونت وترعرعت داخل المجتمع التونسي ويواصل العيش بها في البلدان التي يرحل إليها، وهي شخصية تتسم بممارسات وخطاب عنصري تجاه بقية المهاجرين.

يوجد سلم تراتبي للعنصرية، الأوروبي يمارس العنصرية على المهاجر التونسي والتونسي يفعل نفس الشيء مع باقي شعوب إفريقيا لتفريغ شحنة الإهانة التي تعرض لها.

هكذا يفسر الجويلي ما يحدث داخل سلسلة المهاجرين معتبرا أن الحلقة الأضعف تكون دوما أصحاب البشرة السوداء، نظرا للصورة المتوارثة باحتقار السود وشعوب إفريقيا ما وراء الصحراء الذين ارتبطوا في الفكر الجماعي بالمجاعات والفقر والحروب، وهي صورة لم تتزحزح ولم تطرأ عليها أي تغيرات سواء في تونس أو باقي المجتمعات ما عدى بعض النجاحات الفردية لفنانين أو رياضيين من أصحاب البشرة السوداء.

بين من يعتبر العنصرية خطيئة قيمية قديمة داخل العائلات التونسية في الحديث اليومي عن السود، بمن فيهم السود التونسيون، ومن يحمل الخطاب الرئاسي مسؤولية تأجيجها بعد تراجعها، كشفت الاحداث المتسارعة في علاقة بظاهرة الهجرة غير النظامية أن خطاب الإنكار غير مجد. فالبحث عن مظهر لائق لا يتحقق بكسر المرآة وانكار الصورة التي تعكسها، صورة نجحت تحركات الشباب المناهض للعنصرية في تعديلها، إلى حد ما، قبل ان يتعرضوا بدورهم إلى حملات تحريض وتشويه من أشخاص ومجموعات لا يجمعهم غير اسناد سلطة الامر الواقع، نجد نظيرها في مساندي سياسات اليمين المتطرف الأوروبي المعادي لمهاجري الجنوب على اختلاف أعراقهم ولون بشرتهم.