لم يكن فوز سعيّد بولاية جديدة أمرا مفاجئا للتونسيين ولا المتابعين في الداخل والخارج، لكن حصوله على نسبة 90 بالمائة من أصوات المقترعين لم يكن متوقعا في ظل غياب عمليات سبر الآراء التي تعودت تقديم نسب تقريبية حول شعبية الشخصيات والاحزاب السياسية، ولكن خاصة أيضا في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتراجع منسوب الحريات. هذه النتيجة وضعت قوى المعارضة أمام خيارات محدودة: إما الاعتراف والتسليم بشعبية وشرعية الرئيس قيس سعيد، واما المواصلة في نفس الخطاب المعتاد واتهام النظام بتزوير إرادة الناخبين، علما وأن الخيار الثاني لا يجد قبولا لدى الرأي العام الشعبي أو المعارض. واقع وجب تنسيبه بالتذكير بأن الانتخابات كانت على المقاس في مختلف مراحلها: إقصاء ممنهج لأبرز المترشحين عبر المحاكمات والحرمان من الترشح والتضييق على الحق في الحصول على الوثائق الإدارية. وحتى المترشحين الذين لم يجلبوا الانظار، وقت تقديم الترشحات ونفذوا من ”غربال“ هيئة الانتخابات، فقد دفعوا بالسلطة إلى ارتكاب مهزلة قضائية بوليسية نقلت أحد المرشحين (العياشي الزمال) من الحملة الانتخابية إلى جولة ماراثونية بين السجون والمحاكم، مازالت فصولها مستمرة. إثر ذلك واصلت السلطة سياسة الهروب إلى الأمام وتجاوزت كل الحدود والأعراف القانونية والدستورية بتعديل القانون الانتخابي قبل أيام من يوم الاقتراع ومرر برلمانها بالقوة تنقيحات تسحب صلاحيات البت في النزاعات الانتخابية من المحكمة الإدارية لفائدة محكمة الاستئناف.. كل ذلك بهدف الوصول إلى الوضع القائم حاليا: انتخابات لم تتمكن من تعبئة ثلثي الجسم الانتخابي، قاطعتها عدة قوى سياسية وألغيت فيها المناظرة بين المترشحين، مُنعت فيها جمعيات من مراقبة الانتخابات وغاب فيها النقاش العام من وسائل الإعلام وتعرض فيها عدة مترشحين للهرسلة والمحاكمات والأحكام السجنية. كل ما تقدم يجعلنا نتساءل عن جدوى تحليل شامل وموضوعي لوضع سياسي غداة استحقاق رئاسي، خاصة في ظل انعدام تام لتكافؤ الفرص وتوظيف مفضوح لأجهزة الدولة من أجل إخلاء الساحة وقمع الأصوات الحرة، وهي أمور لا يمكن القفز عليها وتجاوزها بهذه البساطة.
سعيّد اللاعب الوحيد
لم ينتظر قيس سعيد انتخابات السادس من اكتوبر ليفرض نفسه اللاعب السياسي الوحيد والمتحكم في المشهد العام والمحدد لأولوياته، بل كان قد مهد لذلك جيدا من خلال وضع قواعد جديدة في سبتمبر 2022 من خلال الأمر الرئاسي 117 والدستور الذي صاغه وعرضه على الاستفتاء، حيث خص نفسه بصلاحيات تنفيذية وتشريعية مطلقة. في حين فشلت المعارضة في مواجهته طيلة ثلاث سنوات ولم تتمكن حتى من احداث اختراق انتخابي ولو بسيط، بل انها لم تتمكن من مواجهة سعيد سوى في بعض المعارك الحقوقية او تلك المتعلقة بالعدالة ونزاهة الانتخابات أو في قضايا أخرى تتعلق بالهجرة غير النظامية او العنصرية. لكن وفي كل الحالات يمكن القول الآن أن حصيلة المعارضة والطيف الحقوقي تقترب من الصفر، في مقابل رئيس نجح في تمرير كل مشاريعه السياسية والانتخابية ليفتح عهدة رئاسية جديدة، غير عابئ بالكم الهائل من التجاوزات والخروقات التي شابت العملية.
بعد انتخابات بلا تنافس حقيقي، كان لعديد الملاحظين احترازات على عدد من الخروقات خلال يوم الاقتراع وعلى المسار الانتخابي ككلّ. في هذا السياق، حاورت نواة رئيس منظمة عتيد بسّام معطر، للوقوف على أبرز ملاحظاتها المتعلقة بالانتخابات وما حاف المسار برمته.
وتجدر الاشارة إلى أن قيس سعيد الذي فاز في انتخابات 2019 مختلف عن ذلك الذي تولى السلطة المطلقة منذ 25 جويلية 2021، ومختلف أيضا عن قيس سعيد الذي فاز في الانتخابات الأخيرة. نحن اليوم أمام رئيس منتخب بصلاحيات مطلقة وبرلمان موال له وقضاء تحت الضغط وإعلام عمومي تحت السيطرة، هذا بالإضافة إلى ”نخبة سياسية“ جديدة أشرف على بنائها بنفسه تتكون أساسا من مجلس النواب ومجلس الجهات والاقاليم والمجالس الجهوية ومن ”المستثمرين“ في مشاريع الشركات الأهلية من مختلف الجهات. برهنت هذه ”النخبة“ على نجاعتها في حملته الانتخابية، بدعم من أجهزة الدولة، من خلال الاشراف على جمع اعداد كبيرة من التزكيات الشعبية، وتعبئة ما يناهز مليوني ونص ناخب لفائدة مرشحها. بعد تسهيلات ومنح خصصتها السلطة لفائدة المجالس الجهوية والمحلية ومجالس الاقاليم ولفائدة الشركات الاهلية المتعثرة. نخبة سياسية جديدة يدرك الجميع انها كالسمك لا تتنفس خارج مياه سعيّد، فهي مرتبطة به ومدينة له وتتسابق في لعبة الانبطاح والمزايدة والتقرب للرئيس على طريقة الشعب الدستورية في عهد بن علي، تشن حملات تشهير منظمة لمن تجرأ على دعم اي منافس محتمل لسعيد، وتوظف البرلمان للانقلاب على القانون الانتخابي وسحب صلاحيات المحكمة الإدارية التي انتصرت للقانون وحاولت ضمان حق المواطنين في الترشح الحر للانتخابات.
ولاية جديدة يدخلها الرئيس بواقع بدأ في رسم ملامحه منذ 3 سنوات، لكنه يدخلها بتركة ثقيلة وملفات كبرى على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى أنه لم يقدم برنامجا انتخابيا يتضمن حلولا للمشاكل الكبرى المتعلقة بغلاء الاسعار وفقدان المواد الاساسية في مناسبات عدة أو لعلاج المشاكل التنموية وما تنتجه من بطالة وتعقيدات في موضوع المهاجرين غير النظاميين، بالإضافة الى الوضع السياسي المتوتر وواقع الحقوق والحريات المتردي بشكل خطير. بل إن الخطاب الانتخابي للرئيس لم يخرج عن دائرة حرب التحرير الوطني والتصدي لمن يعتبرهم خونة وعملاء.
نعم سيدخل قيس سعيد عهدته الثانية أكثر قوة، في مقابل معارضة أكثر تشتتا، وبتحليل بسيط لخطابه نفهم أن سياسة التضييقات ومحاكمات الرأي والتعامل البوليسي القضائي مع قضايا سياسية وحقوقية واجتماعية ستبقى على حالها، رغم النبرة المتفائلة لبعض الشخصيات التي تتحدث عن انفراج سياسي لا بوادر له حتى الآن.
المعارضة والتركيز على الجانب الحقوقي
بعد تجاوز المحطة الانتخابية بكل ملابساتها المثيرة للجدل، بالتضييقات والمحاكمات التي تعرض لها مترشحون منافسون لقيس سعيد، التعديلات التي طرأت على القانون الانتخابي أياما قليلة قبل يوم الاقتراع، ومحاكمات الرأي الجائرة والمساجين السياسيين وسياسة الترهيب والايقافات في صفوف المواطنين والمدونين الذين يعبرون عن آراءهم… نجد اليوم أنفسنا أمام معادلة تفرض نفسها: إنها عهدة جديدة قبلت فيها قوى المعارضة في اغلبها ضمنيا بنتيجة الانتخابات، أو على الأقل من منطلق القبول بالأمر الواقع والتفكير في تكتيك جديد يتلاءم مع مرحلة جديدة.
قد تكون نتائج الانتخابات مناسبة لمراجعة بعض الخيارات التي اتخذتها قوى المعارضة وحتى منظمات المجتمع المدني والقوى النقابية من اجل نجاعة أكبر للعمل الحقوقي والعمل السياسي لإحداث توازن خاصة في معارك الحقوق والحريات والعدالة والحريات السياسية ومناهضة التهميش السياسي والاقتصادي.
رفضا لمقترح تنقيح القانون الانتخابي المقدم من قبل عدد من نواب البرلمان، نظمت الشبكة التونسية للحقوق والحريات تحركاً إحتجاجياً الأحد 22 سبتمبر 2024 بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، التحرك تحول إلى مسيرة من أمام المسرح البلدي نحو مقر وزارة الداخلية، رفع خلالها المحتجون شعارات تطالب بإسقاط النظام وإطلاق سراح مساجين الرأي وإسقاط مقترح أعضاء البرلمان المطالبين بسحب صلاحية البت في القضايا الانتخابية من المحكمة الإدارية قبل أيام من الانتخابات الرئاسية.
وحتى تكون الصورة أكمل فإن المعارضة بقدر ما تفسر واقعها المتراجع بهجمة السلطة والايقافات وتطويع أجهزة الدولة، بقدر ماهي مسؤولة في نفس الوقت عن حالة التشتت التي تشق صفوفها. فهي لم تتمكن حتى من الاتفاق على موقف في حده الأدنى في علاقة بالمشاركة في الانتخابات من عدمها، ففيها من قاطع مختلف مراحلها وفيها من شارك بالترشح أو بالاحتجاج على الخروقات المتكررة وطالب بحد أدنى من النزاهة وتكافؤ الفرص، وفيها من شارك بشكل غير معلن عبر دعم أحد المرشحين المنافسين لقيس سعيد.
عامل مهم آخر وجب عدم إغفاله، وهو أن طيفا مهما من نشطاء المعارضة انخرط في العمل السياسي والمدني بعد الثورة ولم يتمرس على المعارضة تحت الاستبداد، فبقيت تحركات المعارضة وتحركات المجتمع المدني في شكل ردود أفعال على قرارات وسياسات السلطة، كما وقع جزء من نشطاء المعارضة ومنظمات المجتمع المدني تحت سطوة الهرسلة البوليسية والايقافات والمحاكمات، ولم تجهز هذه القوى نفسها كما يجب لمقارعة هذا التوجه والنضال الجدي من أجل التصدي له. وأخيرا لا يمكن أن نتغافل عن أن الخطاب الرسمي الأحادي، الذي يتهم المعارضين والنقابيين والنشطاء بالعمالة والخيانة والتسبب في فقدان المواد الاساسية وغلاء الأسعار وتعطل ”مسيرة التنمية“، ساهم بشكل كبير في انحسار نشاط المعارضة وعقّد أمامها مهام العمل الميداني والتواصل المباشر مع عموم المواطنين. ذلك أن الخطاب الرسمي يحمل مفارقة حقيقية: رئيس بصلاحيات حكم مطلقة يستحوذ على خطاب المعارضة ولا يتحمل أيّ مسؤولية في تردي الأوضاع على مختلف المستويات.
في واقع الأمر تعيش البلاد وضعا سياسيا معقدا ومختلا، لا تحكمه توازنات سياسية ولا تحدد أجندته برامج ومشاريع، نحن نتعامل مع حقيقة الرأي الواحد والشخص الواحد الذي قام بكل شيء من أجل اخلاء الساحة السياسية والفضاء العام من كل منافسة أو انتقاد. واقع يضع المعارضة في مأزق: كيف سنمارس الفعل المعارض مع سلطة مطلقة منغلقة لا تعترف بالرأي الآخر ولا تضمن ممارسة الفعل المعارض وتستسهل الحلول البوليسية والقضائية لمواجهة قضايا الرأي والسياسة والحركات الاحتجاجية والمطلبية؟ تحدَ تواجهه المعارضة في تونس، بين أن تبقى معارضة تركز جهودها على الحقوق والحريات أو أن تركز على البدائل الاقتصادية أو التطوير في قدراتها للجمع بين المسألتين.
إن لهشاشة التحالفات السياسية والانقسام الحزبي في الفترة الماضية تأثير واضح على أداء المعارضة وهو ما يجب مراجعته، ولئن اتبعت بعض احزاب المعارضة سياسة الانفتاح على المجتمع المدني لتنظيم وقفات ومسيرات احتجاجية في قضايا معينة ضمن إطار الشبكة التونسية للحقوق والحريات، إلا أن ذلك لا يكفي، فللشبكة التونسية للحقوق والحريات أهداف واضحة من الصعب تحويلها الى تحالف سياسي.
إن ضبابية المشهد وانتهاج السلطة لسياسة القمع لا يعني حتمية الرضوخ والتسليم بالوضع القائم، فالاعتراف بموازين القوى شيء مختلف تماما عن القبول بوضع مختل لا يضمن الحدود الدنيا لحرية الرأي والتعبير والحريات السياسية دون تضييقات من أجهزة الدولة. ولعل المسيرات الأخيرة لشبكة الحقوق والحريات وانخراط تشكيلات شبابية مناضلة في هذه التظاهرات قد تمثل نبراسا لمستقبل المعارضة، قوى كانت حاضرة على الأرض للاشتباك مع منظومات الحكم المتعاقبة زمن النداء والنهضة وتحالف النهضة وقلب تونس الداعم لحكومة المشيشي، قبل ان تلتحق أخيرا بالحراك الرافض للتطبيع مع التسلط. إن حاضرنا مليء بأمثلة عن أنظمة حكم يظهر عليها التماسك لكنها سرعان ما تنهار أو ترتبك بفعل غضب الشارع، كما أن قوى المعارضة والجمعيات مطالبة بتنظيم خطواتها وسياساتها تجاه الوضع القائم، فإن القوى الشبابية أيضا تمثل رقما مهما في المشهد العام. صوت الحركات الشبابية سيكون له تأثير أكبر في الفترة القادمة لما يحتويه من إمكانيات التعبئة في الشارع وخطاب مختلف قائم على الرفض المبدئي للظلم والافلات من العقاب والسخرية من الرداءة المستشرية في الفضاء العام، بالاضافة إلى قدرة هذه الشبيبة على بناء سردية واقعية تدحض سردية السلطة القائمة على الخطاب الشعبوي التآمري.
إن الأيادي المرتعشة لا تصنع التاريخ، ومعارك الحريات والعدالة بقدر ما تحتاج صبرا واستراتيجيات موضوعة بدقة، فإنها تستوجب أيضا الفرز الحقيقي على قاعدة الانتصار للحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية والحكم الديمقراطي المنحاز إلى الشعب. وتحتاج أيضا لطليعة متماسكة من المناضلين المبدئيين (في التنطيمات السياسية والشبابية ومنظمات المجتمع المدني) تقطع مع الانتهازية والرداءة والتسلط وتفتح أمام الناس أملا جديدا في كنس الرداءة والعبث.
iThere are no comments
Add yours