نظرا لمرور حوالي 15 سنة على آخر مفاوضات جماعية في القطاع الخاص بين الاتحاد العام التونسي للشغل وممثلي القطاعات من الاعراف سواء المهيكلة صلب اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية أو المستقلة عنه، تتطلع المنظمة الشغيلة إلى تلك المفاوضات التي ستركز على الجانب الترتيبي عبر تنقيح الاتفاقيات المشتركة القطاعية، كما ستشمل الجانب المالي عبر التفاوض على الزيادة في الأجور الأساسية لعمال القطاع الخاص.
كانت سنة 2008 موعد آخر جولة مفاوضات جماعية جلس خلالها ممثلو القطاعات من الهياكل الوسطى (أي الجامعات العامة القطاعية في القطاع الخاص) لإتحاد الشغل ونظراؤهم من الاعراف، وخرجوا بإتفاقات تم سحبها على الاتفاقيات المشتركة القطاعية، التي بقيت على حالها رغم مرور حوالي 15 سنة شهدت فيها تونس والعالم تغيرات جذرية في العلاقات الشغّلية وتطورات في بعض المهن واندثار مهن وظهور مهن اخرى، بالإضافة إلى إمضاء العقد الاجتماعي بين أطراف الإنتاج الثلاث واتفاقية العمل اللائق التي سيعمل الاتحاد على سحب ما تقره من حقوق عمالية على الاتفاقيات المشتركة القطاعية.
تراجع في اللحظات الأخيرة
في الحقيقة كان من المقرر ألا تكون المفاوضات بعنوان سنتي 2018 و2019 ممركزة بين المكتب التنفيذي لاتحادي الشغل والاعراف كما كان الحال طيلة السنوات الماضية، بل حصل اتفاق رسمي بإجرائها بين الهياكل الوسطى القطاعية للمنظمتين تشمل الجانبين المالي والترتيبي عبر تنقيح الاتفاقيات المشتركة القطاعية.
انطلق الاتحاد فعلا آنذاك في صياغة مقترحات التنقيح التي وردته من هياكله الوسطى في القطاع الخاص، وتوجيه نسخ منها لوزارة الشؤون الاجتماعية ونظرائه من الاعراف، وتكوين الوفود التفاوضية، وتم رسميا إعلان انطلاق تلك المفاوضات بإمضاء إتفاق إطاري في مارس 2017، إثر اجتماع بين المركزيتين النقابيتين بوزارة الشؤون الاجتماعية بحضور كل من أمين عام الإتحاد نور الدين الطبوبي ورئيس اتحاد الأعراف وداود بوشماوي قبل تولي سمير ماجول رئاسته.
حيث أورد اتفاق المركزيتين الممضى في 13 مارس 2017 أنه ”تم الاتفاق بين الطرفين على مراجعة قيمة الدرجة لجداول الاجور الملحقة بالاتفاقيات المشتركة القطاعية بمناسبة المفاوضات الجماعية المقبلة التي تكون قطاعية وتنطلق قبل نهاية مارس 2018 في جانبيها الترتيبي والمالي“.
لكن بعد عدد من الاجتماعات للجنة المركزية للتفاوض، التي يترأسها وزير الشؤون الاجتماعية بمشاركة 5 أعضاء مكتب تنفيذي عن كل منظمة، طرح اتحاد الصناعة مركزة هذه الجولة أيضا من المفاوضات نظرا لكون المفاوضات المباشرة بين القطاعات ستتطلّب وقتا طويلا يمكن ان يتجاوز 9 أشهر، من المرجّح ان تشهد خلالها خلافات وإضرابات لا تريدها المؤسسات خلال الظرف الاقتصادي الصعب حينها.
فالأكيد، في تقييم منظمة الأعراف، أن المفاوضات الجماعية ستشهد خلافات بين ممثلي القطاعات ما سيفرز توتر المناخ الاجتماعي داخل المؤسسات، خاصة أن اتحاد الأعراف كان في مرحلة تجديد هياكله، ما يجعل أغلب القيادات القطاعية حديثة داخله وليس لها من الخبرة الكافية للدخول في مفاوضات معقدة وطويلة كالمفاوضات القطاعية وتنقيح الاتفاقيات المشتركة.
إثر ذلك، عادت المركزية النقابية لإتحاد الشغل إلى مجمع القطاع الخاص لتستصدر قرارا بمركزة المفاوضات الاجتماعية لسنتي 2018 و2019، والتخلي عن إجرائها بصفة مباشرة بين الوفود الممثلة للقطاعات، لتنتهي تلك المفاوضات بإقرار زيادة في الأجور الأساسية في القطاع الخاص بنسبة 6% فيما بقيت الاتفاقيات المشتركة القطاعية على الحال الذي بلغته منذ عام 2008.
اتحاد الشغل، صوت عال أم نضال صامت؟
23/10/2024
هذه الاتفاقيات المشتركة القطاعية، خضعت لـ9 مراجعات سنوات 1983 و 1989 و1990 و1993 و1996 و 1999 و2002 و 2005، وأخيرا سنة 2008، ليقع الاقتصار خلال السنوات التي تلت 2008 إلى اليوم على مفاوضات مركزية خرجت في كل جولة باتفاق يشمل الزيادة في الأجور الأساسية في القطاع الخاصّ دون الخوض في الجوانب الترتيبية.
التشبث بالمفاوضات الجماعية
يتشبث اتحاد الشغل بأن تكون مفاوضات القطاع الخاص بعنوان سنتي 2025 و2026 جماعية ومباشرة بين ممثلي القطاعات من الجانبين، كما تركز في جزء كبير على الجانب الترتيبي لتنقيح الاتفاقيات وتحيينها على ضوء التطورات الحاصلة في سوق الشغل من ظهور مهن وإختصاصات جديدة والتطورات التي شهدتها القوانين الشغّلية وما نصت عليه إتفاقية العمل اللائق الممضاة بين الدولة ومنظمتي الاعراف والعمال.
استعدادات الاتحاد لتلك المفاوضات، وفق ما كشفته مصادر من قسم القطاع الخاصّ لـ”نواة“، انطلقت بمطالبة كل جامعة عامة قطاعية اعداد مشاريع واضحة بعد التشاور مع العمال المعنيين بكل اتفاقية، حتى تكون المقترحات واقعية وتعالج الإشكاليات الحقيقية وترفع من المستوى التكويني والمهني والمادي للعامل.
المنظمة مرّت إلى عقد اجتماعين لمجمع القطاع الخاص لمناقشة مقترحات التنقيح وتحديد خطة عمل، موجهة نسخا من مشاريع التنقيح النهائية إلى كل من منظمة الاعراف وجامعاتها القطاعية وكذلك القطاعات المستقلة عن إتحاد الصناعة والتجارة كجامعة البنوك وجامعة السياحة ووكالات الأسفار وجامعة مديري الصحف وغيرها من الهياكل المستقلة عن منظمة الأعراف، وبطيعة الحال الطرف الممثل للدولة وزارة الشؤون الاجتماعية.
كما إنطلق الاتحاد في عقد ندوات إقليمية، بعنوان ”المفاوضات الجماعية حول مراجعة الاتفاقيات القطاعية المشتركة“، كان أولها أخر أكتوبر المنصرم، لمواصلة مناقشة مشاريع تنقيح الاتفاقيات المشتركة القطاعية وردود منظمة الأعراف عليها، وتحديد محاور كبرى لخطة عمل تنتهي بتنقيح الاتفاقيات بالصيغة الأمثل.
ووفق مصادرنا فقد بلغت مقترحات التنقيح حوالي 27 مقرحا عامّا يشمل كل الاتفاقيات المشتركة القطاعية، تخصّ مثلا الحق النقابي والسلامة المهنية والتكوين المستمرّ ومراجعة التصنيف المهني وقيمة الدرجة والعقوبات والترسيم وفترة الاختبار والتجربة والعقود المحدودة في المدة، خاصة أن تونس من البلدان القلائل التي تتيح قوانينها الشغلية إمضاء عقود قصيرة كفترات تجربة طيلة 4 سنوات قبل ترسيم العامل.
مفاوضات ستشمل الجانب المالي بالتوازي مع الترتيبي، فالزيادة المقبلة في القطاع الخاصّ لن تكون بنسبة عامّة وموحّدة كما جرت العادة خلال الـ14 سنة الماضية باتفاق المركزيتين النقابيتين على نسبة تخضع لها كل قطاعات القطاع الخاصّ، حيث سيفاوض كل قطاع حول زيادته بنفسه ومن الممكن ان نجد زيادة بنسبة 15% في قطاع رابح ولا يعاني أي إشكاليات مقابل 5% أو 6% في قطاع آخر أو حتى عدم زيادة أجور الباقين في قطاع بصدد الاندثار كالعاملين في قطاع السينما مثلا.
من جهته، استبعد الأمين العام المساعد للاتحاد المسؤول عن الوظيفة العمومية محمد الشابي أن تُجرى مفاوضات جماعية في القطاع العام والوظيفة العمومية، وذلك خلال ترأسه مع عدد من أعضاء المكتب التنفيذي الندوة الإقليمية الأولى للمفاوضات الجماعية في القطاع الخاصّ، وفق ما نقله موقع ”الشعب نيوز“ الناطق باسم المنظمة.
تفاصيل معقدة لمهن وقطاعات جديدة
من المنتظر ان يمثّل شهر جانفي المقبل تاريخ انطلاق المفاوضات للزيادة في الأجور الأساسية في القطاع الخاصّ، التي كما ذكرنا ستكون بين القطاعات، ولكنها تنطلق عبر صياغة المركزيتين النقابيتين لاتفاق إطاري عام للمفاوضات الاجتماعية والإمضاء عليه، لتدخل إثر ذلك اللجان التفاوضية التي سيقع تشكيلها من قيادات القطاعات من جانبي العمال والأعراف في التفاوض، ومن الدارج أن تتشكل كل لجنة من 3 أو 4 ممثلين للعمال والأعراف المعنيين بكل إتفاقية، يترأسها متفقّد شغل كممثل لوزارة الشؤون الاجتماعية، والذي يكون دوره عادة توفيقيا ولا يتدخّل في سير المفاوضات.
ومن المرجح ان لا يبتعد الاتفاق الإطاري الذي سيمضيه الطبوبي وماجول في جوانبه التنظيمية للمفاوضات بين الجامعات العامة في الاتحاد عن نظرائها في منظمة الأعراف من غرف وطنيّة، فمثلا من المؤكد أن ينصّ على إحداث لجنة تتركب من ممثلين عن مركزتي المنظمة تكون مهمتها تنسيق ومتابعة أعمال اللجان القطاعية للتفاوض وحلّ الإشكاليات التي يمكن ان تحصل داخل اللجان القطاعية للمفاوضات لتسهيل التوصل إلى الاتفاقات النهائيّة.
بالإضافة الى التفاوض لتعديل الاتفاقيات القطاعية الموجودة حاليا، يطرح إتحاد الشغل تأطير قطاعات جديدة ظهرت في السنوات الأخيرة باتفاقيات مشتركة، كما ورد في أحد مقترحات المنظمة، وفق ما كشفته لـ”نواة“ مصادر من قسم القطاع الخاص بالاتحاد ”إدراج الأنشطة المستحدثة ضمن ميدان تطبيق الاتفاقيات المشتركة القطاعية وعند الاقتضاء إحداث اتفاقيات جديدة“.
ففي تقييم الاتحاد توجد العديد من الأنشطة المشمولة باتفاقيات مشتركة لا تتناسب مع طبيعة النشاط، مثل سائقي الشاحنات التي تحمل مواد خطرة المشمولين، مع سائقي شاحنات البضائع العادية، بالاتفاقية المشتركة للنقل عبر الطرقات في حين أن الأنسب وما يطرحه الاتحاد إفرادهم باتفاقية قطاعية. كما ان سوق الشغل شهد ظهورا لعديد من المهن والوظائف التي خلقت قطاعات جديدة يجب تأطيرها باتفاقيات مشتركة، كمراكز النداء والقطاع السمعي البصري وصناعة الأدوية والمستلزمات الطبية وتصبير منتجات البحر ومسالخ الدواجن والعاملين بخدمات التوصيل وغيرهم.
كمثال عن المفاوضات لتنقيح الاتفاقيات القطاعية المشتركة، ستدخل الجامعة العامة للكهرباء والمعادن والمسابك للتفاوض حول تنقيح 5 اتفاقيات قطاعية مشتركة تعود لها بالنظر، وفق ما أفاد به الكاتب العام للجامعة عبد العزيز العرفاوي في حديث مع ”نواة“، والذي أكد أن جامعته أرسلت كل مقترحات التعديل إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والغرف الوطنية التابعة لمنظمة الأعراف المعنية بكل إتفاقية من الـ5 إتفاقيات.
ووفق العرفاوي لا يمكن التكهّن بمدة المفاوضات بين الطرفين والتي ستنطلق على الأرجح في جانفي أو فيفري المقبل، إذ يمكن أن تستمر 3 أشهر أو 9 أشهر أو سنة وحتى أكثر لتعقديها وتشعّبها وكثرة النقاط التي يُمكن ان تُحدث خلافات بين المتفاوضين. إلا أن الأكيد بالنسبة لمحدثنا، هي الأولوية القصوى لتنقيح الاتفاقيات القطاعية المشتركة نظرا لتخلّف تلك الاتفاقيات عن التطورات الحاصلة في تونس والعالم، وجمودها منذ سنة 2008 أخر تاريخ لتنقيحها.
وزيادة عن ضبابية مسار التفاوض المنتظر وكثرة تعقيداته وتباين الرؤى بين مدافع عن مصالح العمال ومدافع عن أرباب العمل ورأس المال، يبدو صمت السلطة في هذا الموضوع المعقد شبيها بالهدوء الذي يسبق العاصفة. فهي أوضحت في أكثر من مناسبة عدم استساغتها للأجسام الوسيطة وعلى رأسها النقابات، ملغية أدوارها او ساعية إلى تقزيمها احتكارا لأي إنجاز متوقع. فهل ستكتفي السلطة، ممثلة في وزارة الشؤون الاجتماعية، بدورها التوفيقي القانوني والمعتاد تاريخيا بين اتحادي العمال والأعراف خلال المفاوضات في القطاع الخاص أم أنها ستجد صيغة تهيمن بها على المسار المفترض انطلاقه في جانفي المقبل وما على النقابات غير السمع والطاعة؟
”لن يتفاوض ممثلو هياكل إتحاد الشغل القطاعية مع الهياكل الممثّلة للقطاعات داخل منظمة الأعراف فقط، فحاليا توجد 54 إتفاقية قطاعية مشتركة من بينها ما يقارب 44 إتفاقية تمثلها الغرف الوطنية التابعة لإتحاد الصناعة والتجارة، في حين يمثل الأعراف المشمولين بحوالي 10 اتفاقيات مشتركة الأخرى هياكل مستقلة عن المنظمة التي يرأسها سمير ماجول كجامعة النزل وجامعة البنوك والجامعة العامة لمديري الصحف ونقابة المصحات الخاصّة وغيرها…“
iThere are no comments
Add yours