فإن لم يقنعك كل ما سبق، ما عليك سوى التضحية ومشاهدة العزف المنفرد لنشرات الاخبار وما تبقى من برامج حوارية على المحطات المرئية والمسموعة، الممولة من جيوب دافعي الضرائب والتي حولها نظام 25 دون عناء أو مقاومة تذكر إلى أدوات بروباغاندا تعطل محركها زمن الحرب الباردة.

وإن تركت كل هذا واخترت جس نبض شبكات التواصل الافتراضي، ستجدها محكومة بصوت الغوغاء المنتشية بانتحار العقل في تونس، تعج حملات شبيهة بمحاكم التفتيش في ضمائر من سولت لهم أنفسهم الامارة بالسوء معارضة النظام وتوجهاته في شتى المجالات. حملات لفرض قراءة قروسطية للأخلاق الحميدة يطلقها مختصون في التشويه والتخوين وهتك الاعراض وكلهم ثقة بأنهم الأبناء الطبيعيون للسلطة المتشنجة الضامنة لإفلاتهم من العقاب، يسهر على تنفيذ تشنجها جهاز الشرطة المشهود له منذ زمن بورقيبة وبن علي بكونه المرجع وحجر الأساس في تطبيق “احترام أخلاق السلطة” وان تطلب الامر الدوس على الحقوق والحريات التي تحولت بفضل خطابات الشيطنة والتحريض إلى ما يشبه الكلمة النابية الخادشة للحياء “الخمس وعشريني”. أخلاق حميدة على منهاج منقذ الامة وهيمنة مطلقة على وسائل الاعلام، خاصة الجماهيرية منها، وإغراق لوسائل التواصل الافتراضي بالأكاذيب والتشويه والتخوين. سمات لا ترى النور خارج الأنظمة الشعبوية التي علمنا التاريخ البعيد والقريب انها ستواصل الانكار والهروب إلى الامام حتى معانقة الجدار وفوات الأوان. حتى المنابر القليلة المتمسكة بالمقاومة الإعلامية، فموجات التخوين والشتم المتواصل التي تتعرض له على شبكات التواصل جعلتها تقيّم نجاح مقالاتها وتحقيقاتها ومجمل أعمالها الصحفية بحجم الهجمات التي تتعرض له بعد نشرها، تخطّ سطورا تعلم أنها قد تقود فرقها إلى مخافر البوليس والمحاكم والسجون. والنتيجة نراها ونلمسها في كل شارع وكل مقهى وكل دردشة وان كانت ودية، عاد التونسيون إلى الوشوشة والتثبت من اغلاق النوافذ وخلوّ المكان من الآذان الواشية، فقد تجد نفسك تحت طائلة مرسوم القرن، المرسوم 54 حبيب الظلام عدو الحياة، الذي ملأ المحاكم قضايا واحالات من أجل رأي أو مزحة او حتى مقطع فني لم يرق لحميدة وأخواتها وحكم على الآلاف، من باب الحيطة، بإغلاق حساباتهم والتوجس من كل حساب او صفحة جديدة على شبكات التواصل. 

 شبكات حولها الخبل المستشري إلى ما يشبه مخابر جس النبض المجتمعي تكشف عند كل موجة دجل الكتروني درجة وعي شريحة هامة من التونسيين وسهولة التلاعب بعقولهم، من ذلك ما نقرأه ونراه يوميا من تبشير بالعودة إلى تعدد الزوجات وتخلّ وشيك عن اعتماد مجلة الأحوال الشخصية، دون ان تكلف جهة رسمية نفسها عناء كشف زيف هذه الادعاءات أو كبح جماح من يطلقها وتعوّد إطلاق مثيلاتها، فأغلبهم أنصار منخرطون مواطنون خمسوعشرينيون صالحون.

أنصار لا يتوانون عن التقاط كلمات رنانة يسمعونها ليلا نهارا حول حرب التحرير ومكافحة الفساد والفاسدين ليلصقوها بكل من لم يرتق بوعيه إلى عليائهم. حتى أخبار التموين والأسواق وندرة بعض المواد الأساسية ومكافحة الاحتكار، صارت تغيب عن تحليلها القراءات المنطقية التي تنطلق من الميزانيات المخصصة لتوريد كل مادة والرّخص الحصرية التي تمنحها الدولة لعدد من كبار رجال الاعمال في توريد مواد ومنتجات معينة أو تضمن لهم نصيب الأسد مما تورده الدولة. مقابل ذلك حضرت المشهدية والانفعال، فموضوع غياب مادة البطاطا عن الأسواق مثلا وما رافقه من أخبار تعفن قرابة 3 آلاف طن من البطاطا المستوردة من تركيا، يعتبر مثالا حيا عما نقول. تغييب كلي في الحديث الإعلامي المتشنج، الذي يريدون اقناعنا بأنه تحليل جدي، لمسؤولية الدولة التي تتحدث عن محاربة الاحتكار وكرتالاته في شتى المجالات مع حفاظها على قوانين وتراخيص استثنائية تشرّع الاحتكار وتضرب المنافسة في مقتل، فتدخل العقول في إجازة مطولة لتعوّض بفيديوهات مسؤولين محليين يقيمون العدل على منهاج الفاروق ويجبرون التجار على عرض ما يخفونه من بطاطا، على الأقل أمام عدسات الكاميرا وحتى مغادرة المسؤول وعودته إلى مكتبه. تغييب للمنطق تقابله أصوات تنادي على الهواء مباشرة بالإعدام للمتلاعبين بالبطاطا وما أدراك مالبطاطا. نبات يصنف ضمن أكثر الزراعات انتشارا في العالم حتى ان أمثلتنا الشعبية ودارجتنا تستعمل الكلمة كرديف للكثرة المبالغة أحيانا، فنقول عن الشيء “مكدّس كي البطاطا” إحالة على الكثرة والوفرة والسعر الزهيد. فحتى البطاطا رديفة الكثرة والوفرة أصبحت مفقودة نادرة في تونس، مسيلة للعاب المحتكرين والمضاربين.

ديمقراطيتنا وحريتنا، التي يصر النظام على انه يحترمها ويحافظ عليها، أصبحت هي الأخرى “كي البطاطا” نسمع عنها ولا نراها، متوفرة للجميع حسب الخطاب الرسمي غائبة في الواقع، بدأ التونسيون في تركها واخراجها من عاداتهم لأن ثمنها باهض ضريبته السجن. فبعد ان كنا في حقبة جمهورية الموز سريعة التلف والتعفن دخلنا بخطى وثيقة عصر ديمقراطية البطاطا، وكلاهما اليوم غائب غير متوفر للمستهلك التونسي الحر الأصيل.