مباشرة وإثر الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية في أكتوبر الماضي دعت جهات مقربة من السلطة، أبرزها نوفل سعيد شقيق الرئيس ومدير حملته الانتخابية، إلى تهدئة سياسية شاملة وحوار وطني. دعوة لم تلق تفاعلا لا من الرئيس ولا من جهات أخرى في السلطة أو غيرها، استمر الوضع كما كان قبل الانتخابات، وتواصل التوتر والانقسام السياسي وبقيت أخبار الايقافات والأحكام السالبة للحرية في قضايا الرأي طاغية على المشهد. إلى أن جاءت دعوة من النواب للحوار ”العقلاني“ والقطع مع سياسة الإقصاء والمحاكمات والتفرد بالحكم. ما يجمع بين هذه الدعوات هي أنها نابعة من ”داخل المنظومة“ لا من خارجها كما حصل في مبادرات سابقة لعل آخرها مبادرة الحوار الوطني التي طرحها الاتحاد العام التونسي للشغل ورفضها رئيس الجمهورية قيس سعيد.
دعوة للحوار من داخل منظومة السلطة
طالب مجموعة من أعضاء مجلس نواب الشعب، في بيان حمل توقيع 11 نائبا وصدر الاسبوع الماضي، بالتوجه نحو مصالحة وطنية واحداث انفتاح سياسي في البلاد عبر إطلاق حوار سياسي والقطع مع محاكمات الرأي والانفراد به. واقترح النواب جملة من الإجراءات أهمها إطلاق سراح المساجين السياسيين وتنقية المناخ العام وتركيز المحكمة الدستورية، لكن هذه المبادرة ظلت إلى حد اليوم دون تفاعل جدي من السلطة السياسية أو حتى من داخل مجلس النواب الذي تجاهلها كما تجاهل مبادرات أخرى غيرها على غرار ما يحصل مع مبادرة تنقيح المرسوم 54. تعتبر مبادرة النواب أن:
الاكتفاء برؤية سياسية أحادية الأبعاد مع انتشار خطابات عنيفة، واستسهال استعمال الأساليب الزجرية في التعامل مع المخالفين في الرأي، وغلق الفضاءات العامة بما في ذلك وسائل الإعلام أمام نقاشات مفتوحة قائمة على الرأي والرأي المخالف، كل هذه العناصر من شأنها المس من الوحدة الوطنية وخلق أجواء عدم الثقة، علاوة على ما توفره من فرص للمتزلفين والمنافقين الذين هم من أهم مؤشرات ضعف الأنظمة السياسية.
هذا البيان لم يجد تفاعلا إيجابيا من قبل السلطة ولا حتى من قبل النواب، باستثناء بعض التصريحات أو التدوينات الداعمة لاستكمال مسار القمع والتضييق على الحريات بحجة ”محاسبة الفاسدين“. بل إن عددا من النواب اضطر للتوضيح والدفاع عن النفس بالقول إن هذه المبادرة لا تهدف إلى ”الجلوس مع منظومتي الفساد والإرهاب“ حسب ما صرح به النائب حمدي بن صالح وهو أحد الموقعين على مبادرة الحوار والمصالحة.
من الناحية العملية تدعو هذه المبادرة إلى ضرورة تكريس استقلالية القضاء وإرساء المحكمة الدستورية وإطلاق سراح الموقوفين في قضايا الرأي واحترام مبدأ قرينة البراءة وتنقيح النصوص القانونية الزجرية أهمها الفصل 24 من المرسوم 54 الذي يقبع بمقتضاه العشرات من التونسيين والتونسيات على خلفية آراء أو تدوينات. تجدر الإشارة إلى أن نفس هذه المجموعة النيابية كانت قد تقدمت سابقا بمقترح ينص على تعديل المرسوم 54 بما يمنع من تسليط المحاكمات والايقافات والعقوبات السجنية في قضايا الصحافة والرأي والسياسة.
ربما كانت المبادرة تهدف إلى تحريك المياه الراكدة، لكن ردة المتابعين والفاعلين في الشأن العام في البلاد اتسمت بالفتور، لم يكن ذلك خشية من أهداف خفية للنواب أصحاب المبادرة أو رفضا لدعوتهم إلى حوار وطني وإطلاق سراح المساجين السياسيين ووقف محاكمات الرأي، بل لقناعة ترسخت لدى الجميع بأن هذه السلطة لا تتحاور مع أحد وإن كان من الموالين لها. هذا دون أن نغفل أن النواب أصحاب المبادرة سبق وأن تقدموا بمبادرة تشريعية لتنقيح المرسوم 54 وجمعوا في سبيل ذلك أكثر من أربعين امضاء، لكن رئيس البرلمان أوقف التداول في هذه التنقيحات ومنع إدراجها في جدول الأعمال. فضلا عن الهجوم والتخوين الذي تعرض له هؤلاء النواب لمجرد عزمهم تنقيح مرسوم أصدره رئيس الجمهورية. كل ما سبق ينتهي عند حقيقة واحدة: لا معنى لدعوات الحوار والمصالحة الوطنية وتنقية المناخ السياسي وإصلاح القوانين القمعية وغيرها، السلطة لا تسمع إلا صوتها، وبالنسبة لها لا صوت يعلو فوق صوت المعركة وان كانت معركة في مخيلة من أطلقها.
المواجهة بدل الحوار
ما يميز الساحة السياسية التونسية منذ 25 جويلية 2021 هو غياب النقاش العام حول القضايا الكبرى سياسية كانت أو اقتصادية واجتماعية، بل إن سياسة الدولة أصبحت تُدار من خلال بيانات جافة من صفحة رئاسة الجمهورية، دون نقاش عام أو حوار مجتمعي رغم خطورة التحديات التي تواجهها البلاد من نقص في المياه والمواد الأساسية والطاقة وارتفاع نسب البطالة وتراجع نسق النمو، ما يستوجب مشاركة كل الفئات في ذلك. لكن سياسة السلطة اليوم تقوم على الرأي الواحد ووضع اليد على الإعلام والتضييق على أنشطة الأحزاب والجمعيات، بل وتحميلها مسؤولية فشل الحكومة في إيجاد حلول لمشاكل المواطنين وفق خطاب تحريضي.. ويصعب كثيرا تكريس مناخ من الحوار والمصالحة في ظل واقع الانغلاق والمواجهة المفتوحة بين السلطة وخصومها.
هذا بالإضافة إلى وجود ”سوابق“ مع الرئيس قيس سعيد فيما يخص الحوار مع مكونات المجتمع المدني والسياسي، فالجميع يتذكر الحوار الوطني الذي أطلقه مطلع 2022 بهدف صياغة دستور توافقي للبلاد ورؤية اقتصادية واجتماعية، وكيف أهمل الرئيس مشروع الدستور المقترح وعرض مشروعا آخر على الاستفتاء مختلف تماما عما توصل إليه المتحاورون. كل هذا والحديث عن حوار شاركت فيه أحزاب وشخصيات أغلبها موال للرئيس، فما بالك إذا كان الحوار مع المخالفين والمعارضين. فقد باتت سياسة السلطة واضحة: أحادية القرار والحكم بحجة الحفاظ على وحدة الدولة، تهميش ”الموالين“ وحصرهم في دور الديكور الديمقراطي، والتضييق على المخالفين والمعارضين وإلهاءهم بمسلسل طويل من المحاكمات والسجون.
إن لمسألة الحوار والوحدة الوطنية بالنسبة للسلطة في تونس معنى وحيد وهو الذي عبر عنه رئيس الجمهورية إثر اجتماع مجلس الوزراء قبل أيام بالقول إن ”تحديات كثيرة سنرفعها وأهم سدة في مواجهة كل أشكال التحديات في ظل هذه الأوضاع المتسارعة وغير المسبوقة التي يشهدها العالم اليوم، تتمثل في وحدة وطنية صمّاء تتكسّر على جدارها كل المحاولات اليائسة لضرب الاستقرار“. فالمعارضة ونقد السلطة وسياساتها تُعتبر وفقا لقاموس السلطة ضربا للاستقرار، والحوار مع مكونات المجتمع المدني والسياسي هو عودة إلى الوراء.
في المقابل لا تطرح قوى المعارضة على اختلاف توجهاتها، حاليا وظاهريا على الأقل، فكرة الحوار مع السلطة خاصة وأن جزء كبير من هذه القوى يعتبر أن سلطة قيس سعيد جاءت بانقلاب على الدستور. بالإضافة إلى أن المعارضة تُركز جهودها على إطلاق سراح قياداتها الذين يقبعون في السجن منذ حوالي سنتين فيما يُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة، هذه القضية التي بنى عليها النظام سردية ”التصدي لمخططات المعارضة المتآمرة والتي تهدف إلى إرباك الدولة“ تبدأ أولى جلساتها يوم 07 فيفري المقبل وسط دعوات من المعارضة وقوى مدنية باعتماد مبدأ علنية الجلسة التي يمثُل فيها معارضون بارزون لحكم قيس سعيد. وإلى حد الآن لم تقدم السلطة ولا ”الوظيفة القضائية“ إجابات مقنعة حول ما صرحت به المعارضة والمنظمات من انتهاكات خطيرة لحق الدفاع والمحاكمة العادلة في هذه القضية.
أعلنت هيئة الدفاع، في ما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة، مقاطعتها جلسة دائرة الاتهام يوم 18 أفريل احتجاجا على ما أسمته تلاعبا بالإجراءات للإبقاء على الموقوفين داخل سجنهم. أحزاب ومنظمات وعائلات الموقوفين تنتظر بداية اطلاق سراح القيادات المسجونة منذ 14 شهرا وتوقف القضاء عن الرضوخ للسلطة السياسية.
في انتظار أطوار الجلسة، يمكن القول إن كل المعطيات والسياقات التي ذكرناها لا تحتوي على ظروف مناسبة لحوار وطني حقيقي، في حين أن التحديات على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى حقوق الناس وحرياتها، فضلا عن التغيرات الدولية تستوجب الحد الأدنى من المسؤولية والابتعاد عن منطق المغالبة وفض النزاعات السياسية في المحاكم والقطع مع حالة التوتر السياسي والايقافات الممنهجة، والذهاب نحو وحدة وطنية قائمة على العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية لكافة القوى المدنية دون اقصاء.
iThere are no comments
Add yours