ملتفًا بوشاح أسود يحمل شعار مجموعته، يجوب فارس (اسم مستعار) شوارع الحي الشعبي الضيقة التي ترعرع بينها، وجوه العابرين تحمل مزيجًا من الفضول والتعوّد، فاليوم ليس كأي يوم، إنه يوم المباراة، حيث يتحول الشباب إلى قوافل متجهة صوب الملعب، بخطوات تسابقها النبضات. يلتقي بأفراد مجموعته، الأحاديث تنساب بين المزاح الثقيل والتحليلات السريعة، لكنها تخفي في طياتها وعيا صامتا بما هو قادم، فالدخول إلى الملعب ليس مجرد عبورٍ إلى المدرج، بل اجتيازٌ لحاجزٍ من القمع المتكرر.

أبواب الملاعب نقاط تفتيش أم اذلال؟

عند بوابة ملعب رادس الاولمبي، يتوقف الزمن للحظة، تلتقي العيون ببزّات الشرطة ومختلف تشكيلاتها بعصيها وأسلحتها لتأمين ”حدث رياضي“. يبدأ التفتيش، لكنه ليس مجرد إجراء أمني، بل تحول إلى مدخل للإهانة، أياد تفحص الجيوب كما لو أنها تبحث عن جريمة، أوامر صارمة بلا سبب، ”انزع حذاءك“ اخلع قبعتك“ ”أفرغ جيوبك“ ”ارمي الصرف“ (التخلص من القطع النقدية)، يأتي الصوت ببرودٍ متعمد، فتطبق الأوامر دون اعتراض، يقف ”فارس“ حافيًا فوق الأرضية الباردة، ونظرات الأعوان تجاهه لا تنقطع، كأنه متهمٌ يخضع للمحاكمة.

شباب من ألتراس ساحليانو بأزياء سوداء في طريقهم إلى الملعب بين أنهج مدينة سوسة – Saheliano 2007

 كاميرات تقترب من وجوههم، صور تُلتقط دون تفسير، كأن وجودهم هنا بحد ذاته ذنبٌ يستوجب التوثيق. ثم تأتي الأسئلة، تلك الأسئلة التي لا يُنتظر لها جواب: ”لماذا ترتدون الأسود اليوم؟ أين وضعتم الشماريخ؟ من أي مدينة انت؟“، لا حاجة إلى الرد هنا، فالأمر ليس تحقيقًا بل استعراضٌ للقوة، استفزازٌ يهدف إلى كسر المعنويات قبل الهتاف في المدرجات. وبين دفعةٍ متعمدة وابتسامة ساخرة من أحد الأعوان، ينظر أمين إلى رفاقه، بعضهم يعضّ على شفتيه إخفاء للغضب، وآخرون يبتسمون كي لا يمنحوا البوليس لذة رؤية القهر في أعينهم. لكنه يعرف أن هذه ليست النهاية، فبعد عبور هذه البوابة ستتلاشى كل الإهانات في المدرج، حيث الصوت أقوى من القمع، والهتاف بالحرية انتصارٌ صغير يتجدد في كل مباراة.

القيود الناعمة.. رسائل الألتراس تحت الرقابة المسبقة  

مع أولى لحظات المباراة وقبل إطلاق صافرة البداية، تتسارع النبضات في المدرج قبل أرضية الميدان، يرتفع ”التيفو“ في المدرجات، وتتعالى معه الهتافات فتلتقي النظرات بالفرحة العارمة التي تعكس ثمرة جهدٍ شاق وطويل، إن لحظة رفع التيفو ليست مجرد عرض فني أو استعراض جمالي، بل هي في جوهرها تأكيد على الصمود والإرادة الجماعية التي لا يمكن أن تقهر.

رفع تيفو المنعرج الجنوبي (كورفا سود) بملعب رادس – Zapatista Esperanza 07

في حوارٍنا مع أحد أعضاء الألتراس، الذين يرفضون عادة التعامل مع وسائل الاعلام أو يتواصلون بحذر شديد، تحدث عن العلاقة المعقدة والمشحونة بين مجموعات الألتراس وقوات البوليس قائلا:” النظام يعمل بشكل مستمر على فرض قيود متعددة على هذه المجموعات“، وذلك عبر ما وصفه ب”التضييق الناعم“ الذي يتجلى في سلسلة من الإجراءات التي تقيّد حرية التعبير، خاصة فيما يتعلق بالصور والرسائل التي تحملها هذه الأعمال الفنية خلال المباريات، مفيدا أن وزارة الداخلية تفرض ترخيصًا مسبقاً لإدخال أي تيفو أو رسالة إلى الملاعب، حيث يتعين الحصول على موافقة من القيادات الأمنية قبل تنفيذ هذه الأعمال. ورغم أن هذا الإجراء يُعلن تحت شعار احترام حرية الرأي والإبداع، إلا أن الحقيقة تكمن في كونه وسيلة لفرض الرقابة الخفية أو المسبقة، بحيث تُمنع أي رسائل قد تمس صورة السلطة أو تفتح ملفات القضايا الكبرى التي تثير جدلاً حول طريقة تسيير دواليب الدولة.

في الأيام التي تسبق المباراة، تعمل كل مجموعة ألتراس طوال ساعات الليل على تجهيز التيفو، يصبح العمل أكثر من مجرد مهمة فنية. إن التحضير لهذا العمل يتطلب عملًا جماعيًا دقيقا، وتنسيقا متواصلاً بين الأعضاء الذين يتنقلون بين الطلاء والورق المقوى. لكن هذا التحضير لا يكون سهلاً، فالإمكانيات محدودة، والوقت ضيق، والمخاوف من منع السلطة تخيم على الجميع. يدركون تمامًا أن لحظة وصول قوات البوليس قد تعني نهاية العمل الجماعي، ليسقط ما تم التحضير له على مدار أيام طويلة تحت بند ”تجمع غير مرخص“. تلك اللحظات تتطلب صبرًا وتحملًا، لأن العمل على التيفو قد يستغرق أسابيع، وفي بعض الأحيان أشهر، بتكلفة عالية من الجهد والمال. المجموعات التي كانت في البداية تتمتع بحرية أكبر في التعبير، بدأت تدريجيًا تشعر أن هذه القيود الأمنية تجعل من الإبداع أمرًا محفوفًا بالمخاطر. فالمجموعات أصبحت تبتعد عن تصميم أي تيفو قد يتعرض للرفض من قبل السلطات، لا سيما بعدما شهدوا رفض أعمال سابقة أدت إلى ضياع أيام العمل وموارد كبيرة تم صرفها. في هذا السياق، يصبح ”التضييق الناعم“ الذي تحدث عنه ”فارس“ سلاحًا فعالًا في يد السلطة لخلق مناخ من القلق والخوف بين الألتراس، فيتجنب عدد من أصحاب القرار في المجموعات وضع رسائل قد تلامس السياسة أو تعبر عن مطالب اجتماعية قد تزعج النظام، ويشعرون بأنهم في معركة مستمرة للحفاظ على قدرتهم على التعبير بحرية. ومع ذلك، في تلك اللحظة التي يرتفع فيها التيفو في المدرجات، تصبح الفرحة أكثر من مجرد شعور بالإنجاز الفني. إنها انتصار على التضييق والرقابة، ورسالة موجهة إلى النظام بأن الألتراس سيستمرون في المقاومة من أجل الحفاظ على صوتهم والتمسك بإرادتهم في التعبير عن أنفسهم رغم كل التحديات، ورغم الضغوط التي تمارس عليهم.

أجواء المنعرج الشمالي (كورفا نورد) بملعب رادس ورفع صور عمر العبيدي المعروف بشهيد الملاعب – North Vandals

الألتراس في قابس ورفع راية النضال الاجتماعي

توسعت حركة الألتراس بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، حيث لم تعد مقتصرة على أحياء العاصمة كما كان الحال في بداياتها، بل انتشرت لتشمل العديد من المناطق والولايات التي تناستها برامج التنمية. إحدى أبرز هذه المناطق هي ولاية قابس، التي شهدت تحولاً كبيراً بفضل تزايد حضور الألتراس فيها، حيث استطاعت هذه الحركة أن تفرض نفسها على المشهد العام بطرق غير تقليدية. فقد نجحت في التوغل داخل قضايا اجتماعية وسياسية حساسة، غير مقتصرة على النشاطات الرياضية في الملاعب، بل تخطت ذلك لتصبح قوة فاعلة في الدفاع عن حقوق المنطقة وطرح قضاياها في الساحة الوطنية.


كواليس دخلة ”ليدارز كلوبيست“ جمهور النادي الافريقي: نصرة المقاومة الفلسطينية
– 23 أكتوبر 2023 –

لم يقتصر الانتصار التونسي للمقاومة الفلسطينية على الأحزاب والمنظمات المدنية، مجموعة الألتراس ”ليدارز كلوبيست“ نفذت ”تيفو“ يعكس وحدة الشعب التونسي في مساندة الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال. رغم احترازات الألتراس على التعامل مع وسائل الاعلام، نواة تعود بكم إلى كواليس ”الدخلة“ والأجواء التي شهدها ملعب رادس أثناء مباراة النادي الافريقي والأولمبي الباجي الأحد 22 أكتوبر 2023.


من أبرز تلك القضايا كانت البيئة والتلوث، إذ عُرفت حركة الألتراس في قابس بمواقفها الجادة والصارمة ضد التدهور البيئي. وكانت إحدى القضايا الأكثر إلحاحاً التي أثارت حفيظة الألتراس هي ملف المجمع الكيماوي في المنطقة، وما يسببه من أخطار بيئية وصحية، وقد أبدت الألتراس قلقاً بالغاً من تأثيرات المجمع الكيماوي على صحة السكان وكل الكائنات الحية بالمنطقة، محذرة من أن هذه المخاطر قد تتفاقم بشكل كبير وتؤدي إلى كارثة بيئية تهدد حياة البشر والتوازن البيئي بشكل عام. وفي هذا السياق، تحدث عدد من أعضاء مجموعة الألتراس في قابس لنواة، مؤكدين أن كل تحرك احتجاجي أو رسالة يقومون بها تعقبه حملات تضييق من قبل السلطات. كما أفادوا أن مشاركتهم في تحركات مع نشطاء آخرين تهدف إلى انتقاد سياسات الدولة في ”تسميم قابس“ تلاقي قمعًا متزايدًا.

ديسمبر 2024 قابس – ألتراس إيغلز 09 في تحرك خارج الملاعب رفضا للكارثة البيئية بالمنطقة – Eagles 09(gabes)

صرح أحد الأعضاء قائلاً:

السلطة تعتبر قابس منطقة تجارب كيميائية، تتاجر في صحة الناس وأطفالهم. أصبحنا نعيش في بيئة ملوثة، حيث لا هواء نظيف نستنشقه ولا بحر نتمتع به. قابس تتحول إلى منطقة مسممة ببطء، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فقد نصل إلى مرحلة يُحرم فيها السكان من أسس الحياة.

إضافة إلى ذلك، أطلقت هذه المجموعات حملة تحت شعار ”توحيد الحركية“، التي تدعو من خلالها إلى توحيد الجهود والتعاون بين جميع المجموعات وتجاوز الانقسامات والاختلافات الداخلية لتوحد صفوفها في مواجهة قمع السلطات الذي يشمل جميع الفئات دون استثناء في مختلف المناطق لمواجهة ما تصفه بالاستهداف الممنهج لهذه الحركات.

وفي ظل هذه الظروف، ترى الألتراس نفسها في موقف حرج، حيث تواجه تحديات كبيرة لفرض وجودها في وقت تمر فيه البلاد بحالة من الركود الاحتجاجي، ويغلب فيها التراخي في التعبير عن المواقف المعارضة للسلطة. فالألتراس، التي لطالما كانت في طليعة الحركات الاحتجاجية، أصبحت من القوى النادرة القادرة على كسر هذا الجمود الاجتماعي والسياسي ومحاربة السكون والرضا بالواقع المفروض. من خلال ”توحيد الحركية“، تسعى الألتراس إلى إعادة الزخم أكثر للمدارج، موضحة أن انصياع الجميع للسلطة دون اعتراض لن يؤدي سوى إلى تآكل الحريات والتضييق على الفئات ‘’المتمردة’’. وفي هذا السياق، تظل الألتراس مستعدة دائماً للمواجهة، بصوتها العالي ووجوهها المكشوفة، لمواصلة نضالها ضد كل ما قد يهدد وجودها أو يعصف بقيمها، متمسكة بإيمانها العميق بأهمية التغيير والمشاركة الفاعلة في مختلف القضايا التي تهم المجتمع.

تيفو المنعرج الشمالي (كورفا نورد) بملعب رادس مناصرة للمقاومة الفلسطينية – Leaders Clubiste

بين الذاكرة الجماعية والرقابة الأمنية: من ”تعلم عوم“ إلى ”NO FAN ID“

تسير حركة الألتراس التونسية مؤخرا نحو التصعيد ضد ما تعتبره ممارسات قمعية ممنهجة من قبل وزارة الداخلية. بدأ هذا التصعيد في مارس 2018، بعد مقتل المشجع الشاب عمر العبيدي، الذي توفي إثر مطاردة بوليسية خارج ملعب رادس انتهت بغرقه في واد من الأوحال رغم توسله لأعوان البوليس بانه لا يجيد السباحة، فكان جوابهم ببرود ”تعلّم عوم“. هذه الجريمة لم تكن مجرد فاجعة عابرة، بل كانت بمثابة شرارة أشعلت غضب الجماهير وتسببت في إطلاق حملة ”تعلم عوم“ التي جاءت ردا على مقتل العبيدي، تدريجيا تحولت هذه الحملة إلى رمز للمطالبة بالعدالة ومقاومة الإفلات من العقاب تبنتها قوى المجتمع المدني مطالبة السلطة باعتماد تاريخ مقتل العبيدي، 31 مارس من كل سنة، يوما وطنيا لمناهضة الإفلات من العقاب في الجرائم البوليسية، لتخرج الاحتجاجات من المدرجات إلى الشوارع وتعرف رواجا منقطع النظير وانخراطا واسعا فيها لمجموعات الألتراس والمنظمات والنقابات. الزخم الذي أفرزته هذه الحملة سرعان ما ولّد حملات أخرى في علاقة بحرية الجماهير في التعبير والمشاركة.

تيفو المنعرج الشمالي رفضا لافلات قتلة عمر العبيدي من العقاب بعد صدور حكم بالقتل على وجه الخطأ – حملة تعلم عوم

 تروج وزارة الداخلية، عبر متحدثيها الرسميين وغير الرسميين في عدد من المنابر الإعلامية، مشروع ”هوية المشجع“ أو ما يعرف بـ ”FAN ID“، يربط هذا المشروع دخول الملاعب بحصول المشجعين على بطاقة هوية خاصة بهم، مما يعني تدقيقًا بوليسيا غير مسبوق ورقابة أشد على كل من يدخل الملاعب وخاصة مدارج المنعرجات المعروفة ب ”الفيراج“. مجموعات الألتراس وجدت في هذا المشروع تهديدًا مباشرًا لوجودها، فهو يضرب حرية التنقل ويعتدي على المعطيات الشخصية لرواد الملاعب معتبرة فكرة ”FAN ID“ استمرارا لمحاولة السيطرة على الجماهير وتقييد تحركاتهم داخل الملاعب وخارجها. بذلك، انتقلت الألتراس من الدفاع عن قضية فردية إلى مواجهة مشهد أوسع يتمثل في محاولات تقييد الحريات العامة على مستوى الملاعب. ورغم أن هذا القرار لم يتم تطبيقه بعد، إلا أن الألتراس كانت قد أطلقت حملة مضادة تحت شعار ”NO FAN ID“ كرد موحد من مختلف مجموعات الألتراس على مقترح الداخلية، معبرة عن رفضها المطلق لأي محاولات لتقليص هامش حرية الجماهير في التعبير عن نفسها داخل المدرجات. أكثر من ذلك، هددت الألتراس بإمكانية الذهاب في مقاطعة الملاعب الموسم القادم في حال إصرار السلطات على تطبيق المشروع وقبول إدارة النوادي به، مشيرة إلى أن هذا التوجه لن يؤدي فقط إلى إغلاق أبواب الملاعب أمام الجماهير، بل سيكون بمثابة خطوة إضافية نحو تقييد الحريات العامة في البلاد ما يوحي بأن حملة ”NO FAN ID“ لن تكن مجرد معركة ضد قرار أمني، بل استمرارا للمعركة الأوسع ضد القمع الممنهج الذي تخوضه الألتراس في تونس.

إذا كانت ”تعلم عوم“ وما سبقها من صراعات قد شكلت نقطة التحول في العلاقة بين الألتراس ووزارة الداخلية، فإن حملة ”NO FAN ID“ تمثل تطورًا طبيعيًا لهذا الصراع، حيث تعكس تنامي الوعي الجماهيري بالحقوق المدنية وحاجتهم المستمرة للاحتجاج على السياسات القمعية التي تتسلل تدريجيًا إلى كافة جوانب حياتهم.

بالنظر إلى دور حركات الألتراس في تونس، لا يمكن اختزال وجودها في مجرد تشجيع الفرق الرياضية، بل هي امتداد لصراع أوسع ضد القمع السياسي والتهميش الاجتماعي. فمن خلال شعاراتها وهتافاتها ورسائلها الجريئة، تتحدى هذه المجموعات خطاب السلطة القمعي وتواجه الشعبوية التي تسعى إلى امتصاص الغضب الشعبي دون تقديم حلول حقيقية. كما تمتد مواقفها إلى قضايا اجتماعية وبيئية، حيث تعكس معاركها داخل المدرجات معارك أكبر في الشارع، مطالبة بالعدالة الاجتماعية ورافضة لكل أشكال الاستغلال والفساد. في النهاية، يمكن اعتبار الألتراس صوتًا غير مألوف لكنه مؤثر في الحراك الاجتماعي، إذ يعيد رسم العلاقة بين الشباب والفضاء العام، مؤكدًا أن ملاعب الكرة ليست مجرد لعبة، بل ساحة نضال تحمل مطالب مجتمع بأكمله.


انجز هذا المقال كجزء من نشاط ”شبكة المواقع الاعلامية المستقلة بخصوص العالم العربي“، وهي إطار تعاون إقليمي تشارك فيه ”السفير العربي“، و”مدى مصر“، و”مغرب اميرجان“، و ”بابل ماد“ و ”ماشا الله نيوز“، و”نواة“، و”حبر“ و”أوريانXXI“.