لا يزال الغموض يحيط بملف ما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة، إحدى أبرز الملفات التي كانت بمثابة الإعلان عن ملامح واقع سياسي جديد بعد 25 جويلية 2025، ولا يزال الرأي العام متعطشا لمعرفة الحقيقة كاملة بخصوص قضية تحاكم فيها شخصيات سياسية بارزة. قضية أصبحت محل إحراج كبير للسلطة في الداخل والخارج نظرا لما رافقها من جدل يتعلق بانتهاك مقومات المحاكمة العادلة وحق الدفاع وتعتيم اعلامي رسمي بقرار بمنع التداول في القضية، وصولا إلى أحكام مشددة بالسجن بلغت 66 عاما دون حضور المتهمين ودون مرافعات فريق الدفاع، ودون تبيان لحقيقة ”التآمر“ كاملة للرأي العام الوطني والعالمي.

أحكام مشددة تهدف إلى ضرب المعارضة

قضت الدائرة الجنائية الخامسة بالمحكمة الابتدائية بتونس بسجن الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي 18 عاما بعد اتهامه بالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي وتكوين وفاق إرهابي له علاقة بالجرائم الإرهابية والانضمام إليه، كما قضت نفس الدائرة في نفس القضية بسجن رجل الأعمال كمال اللطيف 66 عاما، والناشط السياسي خيام التركي 48 عاما والقياديين بجبهة الخلاص المعارضة رضا بالحاج وشيماء عيسى وجوهر مبارك بـ 18 سنة سجنا، وأحكام أخرى مشددة في حق الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي والقيادي السابق في النهضة عبد الحميد الجلاصي. بالإضافة إلى أحكام ضد متهمين في حالة سراح على غرار أحمد نجيب الشابي والعياشي الهمامي ومحمد الحامدي ونور الدين بوطار.

واجه المتهمون في القضية تقريبا نفس التهم التي واجهها عصام الشابي، جميعها يتعلق بالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، وتكوين وفاق إرهابي له علاقة بالجرائم الإرهابية والانضمام إليه، وارتكاب الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح، وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي المرتبطة بجرائم إرهابية والإضرار بالأمن الغذائي والبيئة. جميع هذه التهم ذات صبغة إرهابية وفقا للقانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المؤرخ في 07 أوت 2015 المتعلّق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال.

معلقة لمنظمة العفو الدولية تطالب بإطلاق سراح الموقوفين فيما يعرف بقضية التآمر ويظهر بينهم عصام الشابي معتبرة اعتقالهم تعسفيا – Amnesty international

ولمزيد فهم سياق قضية التآمر وأبعادها وجب الوقوف عند سياقها السياسي والزمني، فقد انطلقت الأبحاث والإيقافات في القضية منذ فيفري 2023، وفقا لمراسلة تلقتها النيابة العمومية من قبل وزيرة العدل، وذلك مباشرة عقب لقاء جمع الوزيرة برئيس الجمهورية حيث تباحثا ”ضرورة أن يلعب القضاء دوره التاريخي في تطهير البلاد من الخونة والمتآمرين على أمن الدولة“. يُذكر أن سياق الأحداث جاء بعد اعلان نتائج الدور الثاني من الانتخابات التشريعية والتي شهدت إقبالا ضعيفا لم يتجاوز 11 بالمائة من الجسم الانتخابي، هو أيضا سياق واجهت فيه السلطة تحديات اقتصادية واجتماعية من حيث فقدان المواد الأساسية وتراجع نسب النمو وفشل السلطة في الاستجابة للمطالب المتعلقة بالتشغيل والتنمية، بالإضافة إلى حالة التوتر السياسي وتوسع دائرة المعارضة للسلطة ومسار 25 جويلية وارتفاع الأصوات المنددة بسياسة التضييق على حرية التعبير والعمل السياسي والمدني.

بالنسبة للأستاذ يوسف الباجي، محامي الدفاع عن عصام الشابي، فإن وزارة العدل تتحمل المسؤولية الكاملة في كل الخروقات والتجاوزات التي شابت هذا الملف و”الأحكام الوحشية“ ضد منوبه عصام الشابي وضد المتهمين والتي عبرت عن قرار سياسي بامتياز حسب قوله، وأضاف أن السلطة ”أبت إلا أن تصدر تلك الأحكام ضد تونسيين ذنبهم الوحيد انهم اختاروا معارضة السلطة بالطرق السلمية وانتظموا واجتمعوا للنظر في وضع البلاد وفي إمكانية التغيير والنضال من أجل ذلك، وهو صميم دور المعارضة، وقضية التآمر هي قضية سياسية لضرب كل معارضة لهذا النظام“.

إدانة دون أدلة أو حق في المحاكمة العادلة

لم تكن خصوصية هذه القضية فقط لسياقها أو لأهمية الشخصيات المتهمة فيها، بل لكونها أيضا أحد القضايا التي شهدت خروقات إجرائية بلغت حد حرمان المتهمين من حضور الجلسات بحجة المخاطر الأمنية، وبهذا حُوكم الجميع عن بعد دون استنطاق أو مكافحات أو حتى مرافعات في الأصل رغم أهمية القضية وحساسيتها. قضية بهذا الثقل القضائي والسياسي كان يجب أن تكون مثالا للشفافية والوضوح وفسح المجال أمام المرافعات وحضور المتهمين للدفاع عن أنفسهم وتوفير الفضاء المناسب لاحتضان مثل هذه المحاكمات، لكن ما شهدناه من منع وتعتيم وضرب لحق الدفاع ومرور لإصدار أحكام بيًن أن الهدف من هذه المحاكمة لم يكن اثبات فعل التآمر للرأي العام وتبيانه بالأدلة بقدر ما كان استعجالا للإدانة ولإصدار الأحكام المشددة في حق وجوه بارزة من المعارضة.

في هذا السياق يؤكد الأستاذ يوسف الباجي، عضو هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين في قضية التآمر، أن القضية عرفت كل أنواع الخروقات والتجاوزات وهضم حق المتهمين في المحاكمة العادلة حسب قوله، مضيفا أنه:

من غير المعقول أن توجه تهم خطيرة وأحكام ثقيلة في حين أن ملف القضية لا يحتوي لا على تسجيلات ولا اعتراض مكالمات ولا معاينات ولا أدلة مادية تثبت الجرائم المنسوبة إلى هؤلاء الساسة في ملف التآمر، هو ملف بُني على محادثات واتساب لخيام التركي وهو فعلا فارغ من كل شيء لأن الإدانة يجب أن تُبنى على القرائن غير القابلة للدحض وعلى أركان مادية ملائمة لنصوص الإحالة.

وبخصوص عصام الشابي أوضح يوسف الباجي أن منوبة مثل أمام قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب ووجهت له أربعة أسلة فقط، الأول حول حياته وعمله ودراسته وتاريخه السياسي، الثاني عن علاقته بخيام التركي والثالث عن علاقته بمسؤولة في السفارة الأمريكية (رفض عصام الشابي لقاءها التزاما منه بموقف سابق يقضي بمقاطعة السفارة الأمريكية منذ إعلان دونالد ترامب القدس عاصمة ”لإسرائيل“)، والسؤال الرابع حول كتاب ”ذو طابع إرهابي“ تم حجزه في منزله وهو كتاب للدكتور في علم الاجتماع عبد اللطيف الهرماسي حول دراسة الظاهرة الإرهابية. حسب محامي الدفاع فإن ”عصام الشابي لم يمثل أمام أي هيئة قضائية منذ هذه الجلسة التحقيقية اليتيمة، لا قاضي تحقيق ولا دائرة اتهام لختم الأبحاث ولا حتى الدائرة الخامسة التي حكمت عليه بالسجن 18 عاما، انها سابقة أن يُحقق مع متهم في قضية خطيرة بهذا الشكل بأربعة أسئلة فقط طيلة سنتين وسبعة أشهر“.

فيفري 2024 تونس – وقفة لعائلات المعتقلين السياسيين أمام مقر الحزب الجمهوري بمشاركة عائلة عصام الشابي الذي تظهر معلقة عليها صورته في شرفة مقر الحزب – تنسيقية عائلات المعتقلين السياسيين

واجه عصام الشابي من سجنه كل الخروقات وواصل المطالبة بحقه في المحاكمة العادلة وفي ظروف إقامة تحفظ كرامة السجين، فقد تدهورت حالته الصحية نتيجة ظروف الإقامة في السجن مما استوجب نقله لمستشفى منجي سليم في أوت 2023، كما خاض اضرابا عن الطعام في أكتوبر 2023 للمطالبة بحقه في المحاكمة العادلة. وفي ماي 2025 نُقل الشابي من سجن المرناقية إلى سجن برج الرومي دون اعلام عائلته او لسان دفاعه في اجراء اعتُبر عقابيا على اعتبار أنه لم ينه أطوار التقاضي، والمُتعارف عليه في السجون أن السجين يقضي فترة التقاضي قبل الحكم النهائي في سجن إيقاف، وهو اجراء شمل معظم المساجين السياسيين.

من خلال متابعته لمختلف أطوار محاكمة عصام الشابي، أكد الأستاذ يوسف الباجي وجود خروقات في أعمال التحقيق التي وصفها بالمشبوهة والتي غابت عنها المكافحات القانونية بين أطراف القضية خاصة مع وجود تضارب في الأقوال. وبيًن أن عصام الشابي تم إيقافه بعد العثور على محادثات بينه وبين خيام التركي وهو ما حصل مع كل من تواصل مع هذا الأخير مهما كان الشكل من بينهم غازي الشواشي وجوهر بن مبارك وعبد الحميد الجلاصي، وكان واضحا أن توجيه الاتهام لعصام الشابي كان مبنيا على محادثات واتساب لا تتضمن أي إشارة إلى التآمر أو  التحريض أو الاعتداء على أمن الدولة حسب قوله.

بين مواجهة الاستبداد ونصرة فلسطين

عصام الشابي ليس حديث العهد بالسياسة والشأن العام، فقد بدأ نضاله منذ دراسته بالجامعة منذ بداية ثمانيات القرن الماضي ونشط في صفوف النقابيين الثوريين، انضم إلى التجمع الاشتراكي التقدمي رفقة مناضلات ومناضلين أبرزهم الراحلة مية الجريبي وشقيقه أحمد نجيب الشابي ورشيد خشانة، وشارك بقوة في النضال ضد الاستبداد زمن بن علي وكان من الوجوه المعارضة التي رفعت لواء حرية التعبير والتنظم وإطلاق سراح المساجين السياسيين وقاد تحركات ضد التمديد والرئاسة مدى الحياة. بعد الثورة انتُخب في المجلس الوطني التأسيسي وعارض توجهات الترويكا الحاكمة بقيادة حركة النهضة، تولى الأمانة العامة للحزب الجمهوري سنة 2017 بعد وفاة رفيقة دربه مية الجريبي، عارض بشدة انفراد قيس سعيد بالسلطة وخاض مشاورات مع المعارضة لمواجهة سلطة 25 جويلية وساهم في تأسيس ائتلاف حزبي دعا إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية موفى 2022. عُرف عصام الشابي بانتصاره للحق الفلسطيني ومقاومة الاحتلال الصهيوني وقاد مظاهرات قبل الثورة وبعدها نصرة لفلسطين، وترأس أول وفد تونسي يزور المقاومة اللبنانية بعد عدوان 2006 على جنوب لبنان.

بالنسبة لعبد العزيز الشابي نجل عصام الشابي فإن والده ليس متآمرا ولا يهدد الأمن القومي وكل هذه قضايا سياسية وكيدية، انما هو ”سياسي، نشأ في عائلة مسيسة بدأت نضالها منذ الاستعمار، شخصية بعيدة عن التجاذبات وله قدرة على المحاججة والجدال دون السقوط في الشتم والابتذال، يعبر عن موافقه وآراءه بكل شجاعة حتى لو كانت ضد التيار السائد، وهذا ما جعله يحظى باحترام مخالفيه قبل مؤيديه، كل من يعرف عصام الشابي يدرك جيدا مدى تعلقه بفلسطين وناضل من أجلها ونظم في ذلك مسيرات حتى زمن الاستبداد، ولو كان عصام خارج السجن اليوم لكان أول المشاركين في اسطول الصمود لكسر الحصار عن غزة“.

أكتوبر 2023 تونس – عبد العزيز الشابي متحدثا في الحضور خلال وقفة مساندة لعصام الشابي وباقي المعتقلين فيما يعرف بقضية التآمر – تنسيقية عائلات المعتقلين السياسيين

يضيف عبد العزيز أن والده حرص على تربية وتنشئة أبناءه على حب تونس والفخر بالانتماء لها وغرس فيهم قول كلمة الحق ورفض الظلم والمطالبة بالحقوق حسب قوله، ويضيف أن:

أكثر ما يؤلمنا في هذه المظلمة هو بعد عصام عن أحفاده وعائلته لكننا نحاول تنشئتهم على قيمه ومبادئه، لكن هذا الوجع لا يمنعني من أن أكون سعيدا بأن أحفاد عصام الشابي يفخرون بجدهم ويقدرون حجم التضحيات التي يقدمها في سبيل تونس أفضل، حتى ابنتي التي تبلغ من العمر سبع سنوات تُعرف نفسها دائما بأنها حفيدة عصام الشابي.

عصام الشابي هو سجين سياسي محاكمته المثيرة للجدل لم تحسم فعل التآمر، بل دعمت السردية التي تقول إن المحاكمة تستهدف ضرب المعارضة ومبادرات مواجهة سلطة 25 جويلية، قضيته هي بمثابة شهادة على تردي الواقع السياسي الذي أصبح يُدار بمنطق بوليسي قضائي بعيدا عن الفضاءات الطبيعية للعمل السياسي وهي الأحزاب والاجتماعات والنقاش داخل الفضاء العام. لم يكن هدفنا تبرئة عصام الشابي أو اثبات التهمة له فهذا ليس من دورنا، بل حاولنا تفصيل مجريات قضية تابعناها جيدا ونقلنا ما احتوته من تجاوزات تحدث عنها الجميع باستثناء السلطة التي التزمت الصمت والتعتيم. لم يعد السؤال المطروح هو براءة المتهمين في القضية من عدمه، فأغلب قضايا الرأي العام أثبتت أنه عندما تواجَه الآراء والمواقف السياسية بقوة الأجهزة البوليسية والقضائية، يصبح العمل السياسي في حد ذاته جريمة، وتتحول قصور العدالة من مكان تُسترد فيه الحقوق إلى فضاء لمحاسبة الرأي والفعل المعارض.