يبدو أن القدر الحتمي لنا في ڨابس هو استنشاق الغازات السامة وأن نعاني جميع الأمراض المتأتية من تلوّث الماء والهواء. كُتب على واحة النخيل البحرية الوحيدة في العالم الموت البطيء وعلى البحر الغني سابقا بأجود أنواع الأسماك أن يصبح أشبه بمقبرة للحياة البحرية ومكب مختلف السموم والنفايات خاصة الفوسفوجيبس.
عليك أن تكون ضحية مثالية حين نختنق ونمرض ونموت علينا ”كڨوابسية“ أن نبتسم ونشكر الدولة على قرارها الحكيم في رفع مادة الفوسفوجيبس من قائمة المواد السامة والخطرة.
نبهنا مرارا وتكرارا، وقمنا بتنظيم عديد الحملات التوعوية حول خطورة المواد الكيميائية التي يقع رميها في البحر وسكبها مباشرة في الأرض والهواء الذي نتنفسه، (هواء ماذا إنه أشبه بالسم).
”البَخارة“ هي أكسجين الڨوابسية.. لقد بلغ الأمر حده قمنا بكل أشكال الاحتجاج وعدتنا الحكومة بتفكيك الوحدات الصناعية، ثم تراجعت الدولة عن كل التزاماتها. تتالي اختناق تلاميذ من المدرسة الإعدادية شط السلام، هي القطرة التي أفاضت الكأس فمنذ خمسين سنة وڨابس في مظلمة بيئية. الإنسان، البحر، النخلة الأرض وحتى الحجر كل شبر في ڨابس ضحية التلوث.
بصوت غاضب ومُتلعثم كله حزن حدثنا خير الدين دبية عضو حملة Stop pollution[1] بڨابس، عن الاختناق المتكرر لتلاميذ المدرسة الإعدادية بشط السلام في سبتمبر وأكتوبر 2025.
بعد تتالي حالات الاختناق بسبب الغازات الخانقة المنبعثة من المجمع الكيميائي بقابس، ما أدى إلى إيواء مواطنين بالمستشفيات من ضمنهم تلاميذ، نفذ نشطاء ”ستوپ پولوشن“ الخميس 9 أكتوبر وقفة احتجاجية أمام مقر المجمع الكيميائي بالعاصمة. تحرك طالبت خلاله المحتجات والمحتجون بتفكيك الوحدات الملوثة للمجمع تنفيذا لقرار حكومي صادر بالرائد الرسمي دون تنفيذ منذ سنة 2017
ڨابس: الأرض والبحر والإنسان ثلاثة ضحايا لخيارات الدولة ”التنموية“
يمكن وصف شهر سبتمبر 2025 في ولاية ڨابس بشهر ”الاختناق“، إذ عاشت الجهة سلسلة حوادث متواترة بسبب تسرب الغازات السامة المنبعثة من وحدات المجمع الكيميائي ما أدى إلى اختناق وضيق تنفس وإغماء لعشرات المواطنين، تكررت تشكيات المواطنات والمواطنين في مناطق غنوش وشَط السلام وبُوشمة، حيث سجّلت إعدادية شطّ السلام وحدها إصابة أكثر من 50 تلميذة وتلميذا نُقل بعضهم إلى المستشفى الجهوي وآخرون إلى تونس العاصمة لخطورة حالتهم. وفق مصادر طبية وشهادات أولياء التلاميذ بلغ عدد الحالات المُستوجة للرعاية 14 حالة، ظلوا تحت المراقبة الطبية بعد ظهور أعراض غير مسبوقة تمثلت في ضيق التنفس وصعوبة الحركة وارتخاء الأطراف.
السيدة رباب والدة تلميذة تعرضت للاختناق، لم تستوعب بعد كيف يمكن لدولة أن تغضّ الطرف على جرائم تسميم أطفال مدارس وان تتعامل بهذا البرود المفزع ما مواطنات ومواطنين ومجمل دافعي الضرائب. تقول رباب لموقع نواة بعد تعرض ابنتها للاختناق بنبرة تحمل الغضب والعتاب على تقصير أجهزة الدولة كالتالي:
ابنتي منذ يوم الحادثة لم تعد كما كانت، تعاني من ألم في الصدر وصعوبة في التنفس تستيقظ ليلًا مختنقة وتُصاب بنوبات هلع تجعلها تخاف من الهواء نفسه، حتى المشي أصبح مرهقًا لها وهي مثل العديد من زملائها التلاميذ أصبحت تعاني من حساسية مفرطة من أية رائحة، حتى مواد التنظيف في المستشفى، لقد رفض الأطباء منحنا تقارير طبية توضح حالة أطفالنا نحن نشعر بالعجز ونعتبر أن الدولة تخلت عن أبنائنا. لم يزرنا أي مسؤول من المجمع الكيميائي حتى لطلب الاعتذار أو حتى الاطمئنان على الأطفال الأبرياء.. نحن نطالب بحقنا في الصحة وحق أبنائنا في بيئة سليمة من غير المعقول أن يذهب الأطفال التلاميذ للدراسة فيجدون أنفسهم في المستشفى يعانون الألم وصعوبات في التنفس.

هذه الشهادة ليست استثناءً بل تعكس ما يعيشه جميع المواطنين في المنطقة منذ عقود، في ظل تدهور بيئي مزمن يعود إلى سنة 1972 تاريخ إنشاء المجمع الكيميائي وسط المدينة دون مواكبة للمعايير البيئية الحديثة، إذ تتسرب منذ عقود الغازات ومخلفات الفوسفوجيبس وكل أنواع المواد الكيميائية نحو البحر والهواء والتربة، ما أدى إلى تدهور المنظومات البيئية وانتشار الأمراض التنفسية والجلدية والسرطانية وقد وصف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية ما يعيشه سكان مدينة ڨابس ب ”الإرهاب البيئي“ منذ عقود، وفسر أن حوادث الاختناق الأخيرة هي عبارة عن ”جريمة دولة مسكوت عنها“.

الفوسفوجيبس الوحل الذي يقتل قابس
23/07/2025
في 29 جوان 2017، صدر قرار حكومي بعد انعقاد مجلس وزاري يقضي بتفكيك الوحدات الملوثة للمجمع الكيميائي، ظل التنفيذ مؤجلًا وسط ما تعتبره حملة Stop Pollution تخلّيًا ممنهجًا عن التزامات الدولة واستمرارًا في تغليب منطق الربح الصناعي على سلامة المواطنين.
وقد طالبت الحملة في بيانها الصادر يوم 3 أكتوبر 2025 بإيقاف أنشطة الوحدات الملوثة فورًا وفتح تحقيق جدي في الانتهاكات البيئية، كما رفضت القرارات الحكومية الداعية إلى إنشاء وحدات جديدة لإنتاج الأمونياك والهيدروجين الأخضر معتبرة أنها ستعمّق التلوث. إن ما تعيشه ڨابس ليس حادثًا عرضيًا، بل نتيجة مباشرة لسياسات تنموية اختارت اختزال التنمية في التصنيع الملوث على حساب البيئة والإنسان، ليبدو حاضر ڨابس اليوم شبحًا حزينًا لماضٍ كانت الحياة فيه أفضل بكثير خاصة في جوانبها الصحية والبيئة، حكاية مدينة تخنقها التنمية بدل أن تحييها. هذا ما أكده الناشط في حملة stop pollution خير الدين دبية لنواة
الدولة تتهرب من مسؤوليتها في تفكيك الوحدات الصناعية ونقلها لأنها لم تعد تستجيب للمعايير في علاقة بحماية المحيط وأصبح التلوث منذ سنوات يرى بالعين المجردة ورغم أن القرار صادر منذ سنة 2017 إلا أن الدولة لم تنفذ، بل زادت الطين بلّة برفع الفوسفوجيبس من قائمة المواد الملوثة والخطيرة.. لكننا سوف نواصل النضال من أجل تحقيق مطالبنا ولن نقبل مقايضة الشغل بالتلوث، من حق ڨابس تنمية عادلة وغير ملوثة ويجب على الدولة تحمل مسؤوليتها.
المدينة تقريبا فقدت كل ملامحها الواحة والنشاط الفلاحي مهدد بالاندثار البحر والحياة البحرية عموما وما يحيط بها من نشاط سواء الصيد أو جمع المحار هو في طريقه إلى الاندثار.. ڨابس مدينة منكوبة وعلى الدولة التدخل فورا.
تعود إذن جذور هذا التلوث إلى فتح أول مصنع حضري أبوابه بڨابس سنة 1972 وقد هدف إلى تحويل مادة الفسفاط الخام إلى مادة الحمض الفُسفوري وهو ما يحتاج انشاء وحدة إنتاج حمض الكبريت وكل هذه المواد كيميائية ومُلوثة وتحتاج إلى معالجة خاصة قبل التخزين أو التخلص منها.
يوفر مجمع الإنتاج في المدينة قرابة 57% من الإنتاج الوطني للحامض الفسفوري المستخدم في المخابر والصناعات المعدنية وأيضا في صناعة المياه الغازية، مواد التنظيف والأسمدة.
واصل المركب الصناعي بالتوسع حتى سنة 1985، حيث تم انشاء مصنع لانتاج فسفاط الأمونيوم ومصنع لإنتاج الأمونيتر. كل هذا النشاط الصناعي كان على حساب البيئة والإنسان.
يظهر بعد سنوات من تأسيس المجمع الكيميائي فشل ومحدودية السياسات التنموية في ڨابس لأنها بُنيت على تصور مركزي قصير النظر جعل من التنمية مرادفة للتصنيع الكثيف دون مراعاة للبيئة أو خصوصيات الجهة. منذ سبعينيات القرن الماضي، تحوّلت ڨابس من منطقة واحِية زراعية وسَاحلية نابضة بالحياة ومصدر أجود أنواع الأسماك إلى مكب نفايات صناعية ملوّثة هيمنت عليه المعامل الكيميائية ومركّبات الفوسفاط والفُوسفوجيبس..، فابتلعت البيئة المحلية الواحية وتسببت النفايات غير المعالجة في تدهور التربة والمياه والهواء.
هذه السياسات ساهمت في تدهور أنماط الفلاحة المحلية التي كانت تميز المنطقة خاصة الزراعات الواحية، إذ تراجع إنتاج النخيل والحنّاء والخضر بفعل نقص المياه وارتفاع نسب الملوحة والتلوث، واضطر الفلاحة إلى هجر أراضيهم. كما ضرب التلوث النشاط البحري في عمقه، واختفت أنواع كثيرة من الأسماك وتلوثت مصائد الصيادين بالمواد الفسفورية، وأصبحت مهمة جمع المحار في بلدة الزَارات شاقة على النساء، بل إن العديد منهن هجرن هذا العمل.

مدينة ڨابس التي كانت تشكل نظاما بيئيا نادرا يجمع بين البحر والواحة، يعيش سكانها اليوم بين ذاكرة البيئة السليمة وواقع الاختناق، إذ تحولت ”التنمية“ إلى مصدر تهديد للحياة نفسها وأصبحت المدينة رمزًا للفشل البيئي والتنموي في تونس الحديثة.
ڨابس: التلوث ثلاثي الأبعاد
أن تتنفس الهواء في مدينة ڨابس يعني أن تستنشق ذلك الكُوكتيل السام من الغازات المركبة والخليط الخانق المتكون من حمض الكبريت وثاني أكسيد الكربون والأمُونياك والمواد الثقيلة، خليط يغلف المدينة بطبقة رمادية أغلب أيام السنة تترك أثرها على كل شيء تقريبا، على وجوه المواطنين المنهكة من السُعال وصعوبة التنفس وعلى النخيل التي اصفرّ أو مات جريدها وفي مياه البحر التي فقدت لونها وأسماكها وتنوّعها البيولوجي وأصبحت مقبرة أطنان من مادة الفوسفوجيبس.
هذا الهواء المسموم يُرى ويُشم ويُحس في الأجساد والواحات والخليج، ومع مرور الزمن بدأ حجم الكارثة يظهر بشكل مخيف خاصة وأن الدراسات العلمية والتقارير المختصة تؤكد أن نسب تلوث الهواء مرتفعة بشكل مرعب.
في تواصل لسلسلة الاحتجاجات المتواصلة منذ سنوات في ڤابس لوقف المذبحة البيئية وتفكيك الوحدات الملوثّة للمجمع الكيميائي، عرف احتجاج 23 ماي الجاري إيقاف البوليس لمواطنين وتعرض أحد النشطاء للتعذيب. وقائع تكشف مرة اخرى حدود الشعارات التي تحدّث التونسيين عن الكرامة والعدالة والحقوق والحريات.
من المفارقات العجيبة أن يتحوّل الحقّ الفطري في تنفّس هواء نقي إلى مطلب يخرج المواطنون من أجله إلى الشوارع في هذه المدينة المنكوبة، رافعين شعار ”نحبّوا نتنفّسوا هواء نظيف“. بسبب الهواء الملوّث الذي يتنفسه الجميع رغما عنهم في ڨابس يوميًا، أصبح تنفّس هواءٍ لا يخنق ولا يقتل حلمًا جماعيا ومطلبا شعبيا.
يشير التقرير الصادر عن المفوضية الأوروبية بعنوان أثر التلوّث على الاقتصاد المحلي في جهة ڨابس أن 95% من تلوّث الهواء مصدره المجمّع الكيميائي الذي يغذّي سماء المدينة بحمض الكبريت وأوكسيد الكربون وموادّ سامّة أخرى دمّرت المنظومة الفلاحية وأثقلت الأجساد بالأمراض، إضافة إلى أن خليج ڨابس يصنف ضمن المناطق الساخنة الملوّثة حسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة. ويخلص التقرير إلى نتائج شديدة الخطورة وهي أن التلوث في مدينة ڨابس ثلاثي الأبعاد في الماء والهواء والتربة.
هذا ما يؤكد أن المواطنين في المدينة يعيشون في مجال ملوث وله تأثير خطير على صحتهم وحياتهم ومع ذلك ترفض الدولة تطبيق تعهداتها بتفكيك الوحدات الصناعية الملوثة أو تحمل التزاماتها الدستورية في توفير بيئة سليمة والقضاء على أسباب التلوث حيث ينص الفصل 47 من دستور 2022 على الآتي ”تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ. وعلى الدولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي“ يبقى هذا الحق الدستوري حبرا على ورق، ليس فقط في مدينة ڨابس بل في أغلب جهات البلاد التونسية من شمالها إلى جنوبها.
برغم تعدّد التقارير والشهادات الميدانية التي توثّق تفشّي أمراض السرطان والأمراض التنفّسية وهشاشة العظام في قابس، ما تزال السلطات التونسية تمتنع عن نشر إحصاءات محيّنة تكشف حجم الكارثة الصحيّة خاصة في مناطق تركز الصناعات الكيميائية والاستخراجية (مناجم ومغاسِل الفُسفاط) وكأنّ الصمت بات جزءاً من إدارة الأزمة واستراتيجية الدولة في الهروب إلى الأمام دون تحمل مسؤوليتها.

والدة إحدى التلاميذ من الذين تعرضوا إلى الاختناق داخل أقسامهم بمدرسة شط السلام عادت لتصرح بحرقة لنواة:
صحيح أن حالة أطفالنا اليوم خطيرة ونطلب تدخلا عاجلا من الدولة والمسؤولين من أجل توفير حل، لكن الوضعية الصحية في ڨابس عموما كارثية منذ سنوات وأن التلوث هو السبب المباشر لهذه الأمراض ولا يخلو بيت ڨابسي من المرض الخطير.. نحن فقط نطالب بحق أبنائنا في العلاج.
تمثّل ڨابس اليوم صورة ونتيجة واضحة وملموسة لنتائج ”التنمية“ في تونس، صورة تختزل تناقضات السياسات العمومية بين الخطاب الرسمي حول حماية البيئة والانتِقال الطاقي النظيف وبين الواقع اليوميّ الكارثي الذي يزداد فيهِ التلوث وتُنتهك فيه حقوق المواطنين الصحية والبيئية والحل عند انفجار الغضب يكون بوليسيا عسكريا بالأساس لمحاصرة الاحتجاجات وقمعها، قبل إطلاق العنان لجحافل مسدي خدمات تشويه الحراك الاحتجاجي المشروع والتطبيل للسلطة.
تُستأنف اليوم، الجمعة 7 أوت 2020، عمليات نقل الفسفاط عبر القطار للمجمع الكيميائي بقابس. ليضع حدا لمصالحة لينا الظاهري، ذات 21 ربيعاً، مع البحر. فرغم قرب منزلهم من الشاطئ، امتنعت لينا، شأنها شأن العديد من سكان قابس، من السباحة لمدة تجاوزت أربع سنوات بسبب المواد الكيميائية الملوثة التي يضخّها المجمع الكيميائي في البحر. فبعد تعطل إنتاج المجمع وتوقفه عن العمل لأكثر من أسبوعين، استعاد البحر بريقه واستعاد سكان قابس علاقتهم به وحقهم في السباحة فيه. لكن هذا الحق لم يدم طويلاً.
إنّ إمكانية إنقاذ ڨابس اليوم حسب مطالب ورؤية المُحتجين خاصة حركة أوقفوا التلوث بڨابس stop pollution)) لا يمكن أن تكون مجرّد مشروع بيئي أو تقني بل هو مسارٌ سياسي وأخلاقي يتطلب اعتراف الدولة بمسؤوليتها ومراجعة نموذج التنمية وخلق الثروة.
[1] حملة stop pollution ڨابس : هي حركة اجتماعية بيئية تونسية تأسست سنة 2017، نشأت من تعبئة المجتمع المدني في مدينة ڨابس ضد التلوث الصناعي الناتج عن المجمع الكيميائي. تمثل نموذجًا لحركات العدالة البيئية التي تربط بين الحق في الصحة والبيئة السليمة والتنمية المستدامة، وتسعى إلى إيقاف الانبعاثات والملوثات الصناعية وحماية النظام الإيكولوجي الفريد للواحة الساحلية.
iThere are no comments
Add yours