كان يوما مشهودا استعد التاريخ لاستقباله، يوم 21 أكتوبر 2025، يوم الاضراب العام التاريخي بڨابس، يوم خرجت المنطقة على بكرة أبيها لترفع لا مزلزلة في وجه سلطة التنكر للتعهدات والتطبيع بالكامل مع التلوث والموت الكيميائي البطيء.
يوم بدا فجره أثقل من العادة، استيقظت فيه ڨابس على صمت لم تعهده منذ عقود التزاما بالإضراب العام. التزام وحرص مواطني منقطع النظير تُرجم بتوقف كل المرافق مجسدا اتحاد سكان الجهة حول مطلب إنهاء الجريمة البيئية وتفكيك وحدات المجمع الكيميائي. هذا الاصرار ”الڨابسي“ تجاوز كل الحواجز التي عهدناها، فالأمر لم يكن مقتصرا على النشطاء البيئيين ولا على النقابيين ولا على من تمرس لسنوات العمل السياسي، بل شمل كل الفئات والاعمار رجالا نساء شيبا شبابا، تلامذة وطلبة وعمال وخاصة مجموعات الالتراس، تلك الجماهير المنظمة التي تعمل ماكينة الدعاية الرسمية على شيطنتها ليلا نهارا وتصويرها كتجمع للعنف والانحراف، تلك المجموعات التي تقاوم التشويه بمقاطعة وسائل الاعلام التي لا تحترم خصوصياتها وتعتبرها امتدادا لسلطة رأس المال الفاسد وتحالفه مع أجهزة القمع. مجموعات ألتراس تركت المدارج والمنعرجات الجانبية للملاعب، ونزلت إلى الشارع بثقلها من أجل مطالب بيئية.

ڨابس تنتفض في وجه سرطان المجمع الكيميائي
12/10/2025
هتافات الالتراس تعطي شارة الانطلاق
طرقات خالية من ضجيج السيارات والحافلات المعتاد، المقاهي أغلقت أبوابها والباعة على حافة الطريق لم يرفعوا أصواتهم المعتادة، حتى رائحة ”البخّارة“ اللعينة لم تتسلل هذا الصباح إلى المنازل والمدارس. شوارع مقفرة لكنها تنبض حياة على نحو آخر، جداريات ”الغرافيتي“ تكاد تتكلم، ملونة بشعارات مكتوبة في كل مكان لفريق كرة محلي أو مجموعة ألتراس أو رسوم تحكي قصص المدينة وترفع مطالبها بهواء نظيف لأطفالها وبحر آمن لبحارتها وحق في العيش الكريم. الوجوه كانت تعكس مزيجا من الحزم والغضب والأمل، عيون الشباب تتقد حماسة وملامح شيوخ المنطقة شامخة في هدوء وكأنها عائدة من المستقبل لتطمئن بنجاح الاضراب العام. مواطنات ومواطنون على شرفات المنازل وأمام مداخلها تترقب وصول الحشود لتلتحم بها. مدينة بأكملها بدت كعائلة اتفقت على يوم كنس غبار التلوث المطبق على الانفاس.

في ركن بين جدران ملعب مهمل وسط مدينة ڨابس، تغطي وسوم وشعارات أسواره المتآكلة، وقف أعضاء إحدى مجموعات الألتراس الڨابسية متجمعين وكل وجه يحكي سنوات من الانتماء والحزم والغضب المكتوم، أشعة الشمس التي تسللت أضاءت وجوه الشباب التي غطتها الكوفيات الفلسطينية أو الأقنعة، لإخفاء الملاح عن أعين الوشاة والمخبرين. هنا يلتقي الأصدقاء القدامى، مصافحة سريعة وابتسامة خفيفة تكشف ثقة واصرارا جماعيا. يقف أعضاء المجموعة في صفوف متراصة متناسقة وقد ارتدوا ملابس بلون واحد لا غير، اللون الأسود تعبيرا عن الغضب والرفض، رفع بعضهم لافتات صغيرة تحمل مطالب ڨابس. في مقدمة الصفوف تصدّر قائد المجموعة «الكابو» المكان بصوت حازم وثابت يوجه كلماته نحو الأعضاء بعينين ملؤهما الإصرار مشددا على أن الالتزام بما هو متفق عليه والتحرك المتناسق خلال المظاهرة ميزة الألتراس الملتزم بقضية أرضه وأن في وحدة الصف قوة ضرورية لتحقيق مطالب المدينة.
بينما يتبادل أعضاء الألتراس التحية والتوصيات مستحضرين تحركات سابقة وما عرفته من احداث، يترك ‘’الكابو’’ المجال لكلمة أحد المشرفين على المجموعة الذي قال بلغة بسيطة وواضحة ”نريد أن يعرف الجميع أننا لسنا مخربين نحن شباب واع بحقوقه متشبثون بأرضنا وقادرون على المواجهة إن اقتضى الأمر“. كلمات تتردد في المكان في وسط صمت مطبق والتزام تام من مئات الأعضاء الذين استمعوا بتركيز قبل إطلاق العنان لهتافات حماسية متناسقة تهز شوارع المدينة.
رغم رفضهم المعتاد للظهور الإعلامي، وافق المشرفون على المجموعة أن ترافقهم كاميرا ”نواة“ وفريقها الصحفي منذ بداية اجتماعهم وخلال تحركهم في المظاهرة، حدثونا بتلقائية وثقة عن مطالبهم ودفاعهم عن مدينتهم وإصرارهم على الاستمرار في النضال رغم التحديات والإيقافات التعسفية التي طالت العشرات منهم. حدثونا عن البوليس وتواصل ممارساته المهينة القمعية. في ركن جانبي من البطحاء، بعيدا عن ضوضاء الهتافات وضجيج الدراجات التي كانت تستعدّ للانطلاق جلس أحد أعضاء المجموعة على حافة الرصيف الإسمنتي المهترئ، كوفيته الفلسطينية تغطي نصف وجهه وملامحه الغاضبة تنطق أكثر مما تقوله الكلمات. شاب في منتصف العشرينات من أبناء الأحياء الشعبية القريبة من منطقة شط السلام، قال بصوت خافت واثق ”لم نخرج اليوم بحثا عن بطولة أو مواجهة مع البوليس بل لاستحالة الصمت أكثر“. بالنسبة له المسألة ليست مجرد قضية بيئية أو تلوث، بل معركة حياة أو موت ومعركة مدينة تختنق أمام صمت الدولة ولامبالاتها. يتحدث الشاب وكأنه يحمل هم مدينة بأكملها، يرفع رأسه بين الجمل كمن يواجه شيئا أكبر منه قائلا إن ڨابس لم تعد مدينة عادية، بل رمز لكل ما نسي وترك في الهامش. ليضيف القول ”نحن هنا لأننا أبناء هذه الأرض قبل أن نكون مشجعين أوأفراد ألتراس“. يتوقف لحظة ينظر إلى رفاقه الذين يجهزون اللافتات ويرتّبون صفوف السير ثم يعود ليقول إنهم تعِبوا من الوعود ومن اللجان والخطابات الفارغة وإن الدولة لم تترك لهم سوى الشارع وسيلة للحديث وإن كل ما يفعلونه اليوم هو محاولة لانتزاع الحق في التنفس لا غير. كان يروي حديثه مكررا أكثر من مرة أن هدفهم ليس الصدام وأن الغضب لا يعني الفوضى وأنهم عاهدوا أنفسهم أن يبقى صوتهم مرفوعا، حتى لو تخلى الجميع عن حق ڨابس ثم بصوت منخفض يكاد يختنق، قال ”نحن ضد موت مدينتنا… ڨابس تختنق، كلنا نختنق“. جملة تنتمي إلى الأرض بقدر ما تنتمي إلى الغضب، ليقاطعها صوت عال وصافرات تعلن موعد المغادرة والخروج من البطحاء، لم يدم الاجتماع طويلًا وانتهت التوصيات وحان وقت الخروج العلني في شوارع ڨابس باللون الأسود. انطلق ”الكورتاج“ بين شوارع فارغة نسبيًا من السيارات والمليئة بالدراجات النارية التي عبّرت عن نبض المدينة. ومع كل أمتار جديدة، يلتحق العشرات من الأزقة الضيقة والأحياء التي بدت عليها مظاهر الإهمال والنسيان، مرددين شعاراتهم بصوت واحد: ”ڨابس لنا ومستقبلنا لنا.. لن نهدأ حتى تتحقق مطالبنا“.

من الملاعب إلى قلب الحراك الشعبي
بدأت ملامح تحرك التراس قابس تتجسد على أرض المدينة، من الأحياء الشعبية في ڨابس الشمالية إلى الأزقة المتشابكة في وسط المدينة، تسللت مجموعات من الشبان بلباس أسود ووجوه أغلبها غير مكشوف، يتحركون في صمت منسق أشبه بإيقاعٍ واحد ينبض بالانضباط والالتزام. لا هتافات في البداية فقط إشارات بالأيدي وتبادل سريع للمعلومات حول نقاط التجمع، تتردّد كلمات مختصرة اما في اتصالات سريعة أو تنبيهات للموجودين ‘’الكورتيج يتحرك… التجمع في الساحة الكبرى في مفترق عين السلام’’ وخلال دقائق قليلة تغيرت ملامح المدينة من خلال طوفان بشري مهيب زحف على الشوارع والساحات معلنا المسيرة الأكبر في تاريخ ڨابس. لم يكن المشهد عشوائيا، بل بدت كل خطوة محسوبة وكل تحرك جزء من خطة محكمة، في مقدمة ”الكورتيج“ ارتفعت لافتة سوداء كبيرة كُتب عليها بخط أبيض واضح BASTA وأخرى تحمل كلمة ULTRAS GABES يتبعها هتاف موحّد يعلو من بين الجموع «الشعب يريد تفكيك الوحدات…». شعارات من كل مكان وزحف بشري متواصل يعكس إرادة شعبية صلبة لم ترهبها ليالي القمع البوليسي وعشرات الايقافات التي سبقت يوم الاضراب العام.
على طول المسار في كورتيج ألتراس ڨابس انضمت مجموعات من المواطنين والطلبة والنساء اللواتي التحقن من بيوتهن يصفّقن ويهتفن خلف لافتات الألتراس، فاختفى الخط الفاصل المعتاد بين الألتراس والمتساكنين وصارت المدينة كلها ‘’ كورتيج’’ واحدا يتحرك باتجاه منطقة ”الكورنيش“ في مسيرة تشبه من حيث انضباطها ما تفعله مجموعات الألتراس داخل الملاعب، لكنها هذه المرة خارج المدرجات في قلب المدينة. في كل زاوية توقفت فيها المسيرة للحظات كانت الشعارات تشتعل من جديد وأصوات قرع ‘’الطمبور’’ ترتفع لتذكر بأن هؤلاء الشباب الذين لطالما وصفوا بالمشاغبين صاروا اليوم ضمير المدينة النابض.
كانت قابس في ذلك اليوم أشبه بمدينة استعادت ذاكرتها اختلط فيها صدى غضب شباب المدارج بإحساس غامر بالفخر والكرامة، لم تكن المسيرة مجرد احتجاج، بل لحظة ولادة جديدة لوعي جمعي تشكل في الساحات والشوارع من رحم الأحياء الفقيرة ومن بين صفوف الألتراس الذين حوّلوا الانتماء الرياضي إلى فعل مقاومة مدنية في وجه التلوث والصمت الرسمي المخزي.

الألتراس ترسم خارطة النضال البيئي
لم يكن مشهد الاتحاد لحركات الألتراس في ذلك التحرك أو الذي سبقه عبثيا، فمن خلال بياناتهم المتعاقبة خلال شهر أكتوبر 2025 رسمت مجموعات الألتراس في ڨابس ملامح خطاب احتجاجي فريد جمع بين الوعي البيئي والجرأة الميدانية. في بيانهم الأول بتاريخ 10 أكتوبر 2025، أعلنوا بوضوح أنّهم لن يقفوا صامتين أمام قصفٍ كيميائي متواصل وتسربات غازية تسببت في حالات اختناق بين التلاميذ والأهالي، مؤكدين أن مرحلة الصبر انتهت وأنّ ڨابس لا تستجدي الرحمة… بل تطالب بالعدالة. مجموعات ألتراس ڨابس تخلت في بيانها الأول عن لغة المدرجات المعتادة لتخوض مواجهة مفتوحة ضدّ السلطة محوّلين شعارهم الأساسي إلى مطالبة بالحق في الحياة والبيئة السليمة. بعد أربعة أيام، في بيان 14 أكتوبر 2025، تطور الخطاب واتخذ طابعا تنظيميا وميدانيا بدعوته ”الڨوابسية“ إلى المشاركة في تحرك شعبيٍّ موحد تحت شعار «ڨابس تستحق الحياة»، معلنين ارتداء اللون الأسود كرمز للغضب وتجنبا لأي رموز رياضية قد تخلق تفرقة بين المشاركين. بهذا القرار الرمزي، وفي يوم تاريخي اختفت فيه قوات البوليس بالكامل من مسارات المظاهرة، تحوّلت المجموعات التي طالما وُصفت بالتعصّب الكروي إلى قوة تنظيم وتعبئةٍ مدنية تجاوزت حدود الانتماءات الرياضية لتعلن أن الجميع تحت راية ڨابس. كما حمّل البيان السلطة مسؤولية الإهمال والوعود الكاذبة واعتبرها متواطئة مع منظومة تواصل تدمير البيئة والإنسان. بيان 20 أكتوبر 2025 كشف تصعيدا نوعيا في الخطاب والوعي السياسي وحمل عنوانا صريحا « ڨابس تختنق… ڨابس تنتفض». بيان ندّد بالعنف البوليسي الذي واجهت به الشرطة احتجاجات المدينة في وجه منظومةٍ تتقن القمع وتتعامى عن الألم، ليختم بنبرة متحدّية ‘’الشارع لنا، وصوت الجماهير لن يُخمد’’.

مجموعة بيانات متتالية تزامنت مع الحراك الشعبي في ڨابس أثبتت أن لمجموعات الألتراس مكانتهم كطرف فاعل في معادلة النضال البيئي لا كمجرّد متضامنين، بل كحركةٍ شبابية منظّمة وذات ذاكرة احتجاجية تراكم التجارب والوعي رغم تغييبها عن المنابر الرسمية، أما الدرس الأهم الذي قدمته مجموعات الألتراس في ڨابس أنها ألغت خلافاتها وتنافسها الداخلي عندما تعلق الامر بإنقاذ المنطقة، مجموعات كانت متفرقة متخاصمة على مدرجات الفرق الرياضية، نجحت فيما فشل فيه أصحاب ربطات العنق الأنيقة بالوقوف صفا واحدا في مواجهة الظلم والتطبيع معه.
زمن الاستبداد وحكم الفرد السابق، وُلدت مجموعات الألتراس في تونس معلنة رفضا جماهيريا لكذب السلطة الذي تردده منابرها ليلا نهارا دون حياء. اليوم وقد عاد الكذب الرسمي ليسيطر على نفس المنابر الطيّعة، عادت حركية الألتراس للبريق وقد راكمت التجارب، من سنوات التأسيس إلى التوسع وتشبيك العلاقات بين المجموعات في مدن ودول مختلفة.
في مشهد غير مسبوق، شهدت ولاية ڨابس يوم الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 تحرّكًا تاريخيًا لبّى فيه الڨوابسية نداء الاتحاد الجهوي للشغل، بالتزام مواطني عالي في إضراب عام شلّ كل المرافق بنسبة نجاح بلغت 100%. أعقب الإضراب مسيرة شعبية ضخمة فاق عدد المشاركين فيها 110 ألف شخص، جابت شوارع المدينة مطالبة بوقف الجريمة الكيميائية المستمرّة ضد الإنسان والطبيعة في ڨابس.
في قابس حيث يختنق البحر وتذبل الأشجار وتطفأ الأحلام في عيون الأطفال على مقاعد الدراسة وجد هؤلاء الشباب في الغضب الجماعي طريقا للفعل والمقاومة فتحوّل تشجيع الفرق إلى دفاعٍ عن الأرض والهتاف في المدرجات إلى صرخة في وجه الموت البطيء في لحظة بدا فيها أن الشارع فقد صوته، هي وجوه من الأحياء الشعبية تحاول أن تحمل على عاتقها ما عجزت عنه الدولة والنخب بصوتها العفوي الذي لا يطلب شيئا سوى الحياة ليثبت أن النضال البيئي ليس ترفا ولا تقليعة شبابية، بل امتداد لإصرار جماعي عصيّ عن الانكسار.






iThere are no comments
Add yours